رفع شعار "صفر قبائل"..

"تنظيم القطط" يدفع بالجزائر إلى أتون فتنة عرقية بين العرب والأمازيغ

وحدة اجتماعية غير قابلة للتلاعب

صابر بليدي

أباح الصراع السياسي في الجزائر، بين إرادة شارع يطمح للتغيير وبين سلطة متمسكة بمواقعها، ما كان محرما في الماضي، وأضحت قنبلة الهوية لعبة بين أيدي الساسة، رغم مخاطر الانفجار على الجميع، بعدما سمح الحراك الشعبي بدفع المكنونات المكبوتة نحو السطح، تحت نشوة التلذذ بالحرية، أو المناورة بها لأغراض ضيقة.

وصدمت الأصداء الواردة من اجتماع سري، عقد مؤخرا في مدينة مستغانم بغرب البلاد، الرأي العام الجزائر، وأبانت عن أخطار حقيقية تهدد كيان الدولة والسلم الاجتماعي في البلاد، قياسا بالأفكار والتصورات العرقية التي تداولها لقاء “تنظيم القطط”، تجاه أحد أبرز مكونات المجتمع والهوية الوطنية وهو الجزء الأمازيغي.

وكان شعار “صفر قبائل”، أحد أبرز التصورات التي تداولها ناشطون معادون للمكون الأمازيغي، وأظهر التسجيل المسرب من نقاش دار بين الحاضرين وبين المنظرين، أن جرأة الشعار لم ترق للجميع بسبب عدوانيتها، ما دفع بعض التنظيمات والأحزاب الحاضرة المحسوبة على منطقة القبائل إلى  تلطيف الخطاب، كالتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الاشتراكية وحركة “ماك” الانفصالية وغيرها.

ويبدو أن حضور ناشطين من منطقة القبائل إلى اجتماع مستغانم، قد أعاق المرور المرن لتصور “صفر قبائل”، الذي يرمز إلى “جزائر دون بربر”، رغم وفائهم للمشروع الذي وجد في لعبة الصراع على السلطة ومقاومة إرادة التغيير، داعما لعقيدة عنصرية مقيتة أضحت تترسخ علنا وتحت أنظار الجميع.

تغذية السجال الهوياتي

يلمح جزء من النقاش الذي ورد في التسريب المذكور، إلى أن المسألة تتعلق بتنظيم بصدد التهيكل في مختلف المحافظات والبلديات، يضطلع بتجريد العنصر البربري من أي نفوذ في المراكز والمؤسسات وقطع الطريق عليهم للوصول إلى أي موقع مهم في المستقبل.

وأطلق المجتمعون على أنفسهم تسمية “القطط” تيمنا بكبيرهم “الماريشال القط”، وهو الاسم المستعار للناشط السياسي محمد الوالي، الذي قضى سنوات شبابه في بريطانيا قبل أن يوافيه الأجل في ظروف غامضة، منذ أكثر من عام بشمال لندن.

 واشتغل خلالها على تغذية خطاب معاد للبربر وحملهم مسؤولية الوضع الذي تعيشه البلاد منذ عقود، وانتقد ما وصفه بـ”التغلغل المنظم” لهم في مؤسسات الدولة كالجيش والاستخبارات، والإدارة والإعلام والمصارف والأعمال والشركات الكبرى على حساب من كان يصفهم بـ”الأغلبية العربية”.

رغم أن الحراك الشعبي أسقط مناورات الإثارة المتعمدة للنعرات العرقية، إلا أن ورقة الهوية، ما انفكت تطفو على السطح

ولم يكن “الماريشال القط”، الوحيد الذي كان ينظر إلى حركة التغيير في مؤسسة العسكر، وصعود التيار الجديد المعادي للبربر بالجزائر، هو الوحيد الذي أثار مسألة الهوية بهذا الشكل اللافت، فقد سار معه في نفس الاتجاه الأكاديمي وموظف وزارة الخارجية الفرنسية لخضر بلقولة، الذي قضى بدوره سبع سنوات في البحث والتقصي بالأراضي اليمينة للتمحيص في جذور العرق الأمازيغي.

ورغم أن زخم الحراك الشعبي أسقط مناورات الإثارة المتعمدة للنعرات الجهوية والعرقية من طرف جهات توالي سلطة العسكر، إلا أن ورقة الهوية في الجزائر ما انفكت تطفو على السطح من حين إلى آخر، منذرة بدمار ذاتي للمجتمع، وهو الأمر الذي بات مصدر قلق الرأي العام، بسبب الأخطار التي تهدد نسيجا اجتماعيا بني منذ قرون خلت بين مختلف الأعراق والإثنيات لاسيما البربر والعرب.

وبغض النظر عن الخلفيات السياسية والأيديولوجية لقرار الرجل الأول في المؤسسة العسكرية الجنرال قايد صالح، القاضي بحظر رفع رايات الهوية الأمازيغية في المسيرات والمظاهرات شهر جوان الماضي، وما أثاره من جدل واحتقان لدى الشارع، إلا أنه سمح بتغذية سجال هوياتي في الجزائر خاصة بين متطرفين في المكونين البربري والعربي.

لكن اللافت أن السجال الذي خرج عن حدود الاختلاف الطبيعي، وتم تبنيه من طرف نخب سياسية وإعلامية، لم يجد طريقه إلى التغلغل في أوساط الشارع البسيط، الذي بات مبدعا في تجاوز نخب بلاده رغم المناورات والفخاخ التي تنصب له تباعا، حيث أبدى المتظاهرون في العاصمة ومختلف مدن الجمهورية حينها تماسكا ووحدة اجتماعية غير قابلة للتلاعب.

تضامن هوياتي

في واحدة من صور التضامن الهوياتي بين مكونات المجتمع، تبنى الإعلامي والناشط الجمعوي رياض بن مهدي، صفة “الزوافي” الرديفة للخيانة والعمالة للاستعمار، والتي روج لها المناوؤون للعنصر الأمازيغي في شبكات التواصل الاجتماعي على مدار أسابيع كاملة، قبل أن تتم تغذية الصراع المفتعل بمشروع “صفر قبائل” المرفوع من طرف تنظيم القطط.

ويستمد هؤلاء العروبيون مفرداتهم الجديدة من مزاعم عداء السلطة الجديدة في البلاد للمصالح والنفوذ الفرنسي، والعودة إلى العقيدة الثورية المعروفة بثورة نوفمبر، والتوجه الإسلامي الذي رسمه المصلح عبدالحميد بن باديس في منتصف القرن العشرين، كتيار يعادي التوجه العلماني والديمقراطي لدى المكون البربري.

وقال بن مهدي لـ”العرب” في رد على سؤال حول أسباب التضامن الهوياتي “اخترت اسم الزوافي، كنوع من التهكم على كل الذين يرون في منشوراتي خيانة للوطن وعمالة لأطراف خارجية تتربص بالجزائر، وتحديدا فرنسا”.

ويضيف “هذه الكلمة الجارحة يراد بها الآن إلصاق صفة الخيانة بجزء مهم جدا من الشعب الجزائري وهم إخواننا القبائل، وكل هذا افتراء وكذب، والغرض الأول من هذه الحملة هو كسر وحدة الحراك ووحدة الشعب، الذي قال بصوت واحد: لا للعصابة ولا لحكم العسكر.. ونعم لمرحلة انتقالية ودولة مدنية ديمقراطية تكفل الحريات”.

وتابع “مثلما نرى فإن كل من يخالف توجهات المؤسسة العسكرية في طرحها للحلول الممكنة للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد، يعتبر خائنا وزوافيا”.

ويبقى التوسع الأفقي والعمودي في أوساط عروبية عملت على إثارة النعرات المستهدفة للمكون البربري، مثيرا للاستفهام حول الخلفيات الحقيقية والجهات التي تقف وراء الدفع بالجزائر إلى أتون صراع عرقي وهدم نسيج اجتماعي شيّد منذ قرون عديدة، خاصة في ظل الانسجام الغريب بين مقاطع عديدة من خطاب السلطة وبين حملات شبكات التواصل الاجتماعي.

 تداعيات التوزيع الجهوي

يطرح الغموض الذي يلف ملهم تنظيم القطط، الماريشال القط، تساؤلات جادة حول إمكانية وقوع الجزائر تحت مخطط تدمير داخلي بأياد داخلية، لاسيما وأن واحدة من الفرضيات المتداولة حول الشخصية الحقيقية للراحل محمد الوالي أصيل مدينة مستغانم، تقول بأن الرجل كان خلال إقامته في بريطانيا محل استغلال من طرف جهات سرية، حولت صفحته الشخصية على فيسبوك، منذ العام 2013، إلى منصة للهجوم على المكون الأمازيغي وكشف بعض أسرار مؤسسات الدولة، لاسيما تلك التي يعتقد أنها تحت وصاية بربرية، كتمهيد للمرحلة الحالية التي يستأثر بها العسكر باسم العقيدة النوفمبرية والباديسية.

ويرى أستاذ العلوم السياسية عبدالحق بن سعدي، في تصريح لـ”العرب” أن “النزعة الإثنية لم تكن غائبة عن الصراع على السلطة لدى مختلف الأطراف، خاصة في وسط قياداتها ونخبها، وأخذت درجات متفاوتة في تأثيرها على المواقف والاستراتيجيات التي اعتمدت، وقد ظهرت مؤشرات ذلك منذ استقلال الجزائر”.

وأضاف “بحكم تقليد التعيين بدل الانتخاب، لرئيس الجمهورية، فإن الأمر كان يخضع في جانب منه لعامل الإثنية أو الجهوية. والمسألة اتضحت بشكل كبير في عهد الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة الذي كرس البعد الجهوي والإثني في أبشع صوره على مختلف المستويات والأصعدة، غير أن هذا الفكر لم يجد له أرضية اجتماعية تعطيه الزخم الذي يمكن أن يحوله إلى ثقافة متجذرة في المجتمع الجزائري”.

ولفت إلى أن المسألة لم تكن مطروحة سوى بين التيار العنصري المتطرف الموجود لدى العروبيين والبربريين، وهو التيار الضعيف عدديا والقوي من ناحية الإمكانات والوسائل بالنسبة إلى التيار القبايلي، الذي احتكر جزءا من السلطة عموديا وأفقيا.

 ويلمح هذا الاستنتاج إلى تقليد توزيع ريع وكعك السلطة جهويا وإثنيا خلال العقود الماضية، حيث كانت المناصب السامية في مؤسسات الدولة توزع بناء على اعتبارات جغرافية وإثنية، مما خلق طبقة مستأثرة بالسلطة مقابل إقصاء لجهات أخرى، وهو ما كون جذور تحويل التنوع الثقافي إلى مرادف للجهوية وصراع إثني غير معلن، وظفه المنظرون له في دفع الجزائريين إلى خلافات هامشية أبعدتهم عن جوهر بناء دولة المواطنة والحقوق والعدالة، قبل أن ينفجر الحراك الشعبي ويعيد ترتيب جميع المفاهيم والتصورات.

وأكد المتحدث أن الحراك الشعبي أكد حقيقة ميدانية، لطالما حاولت بعض الأطراف اللعب بها وتوظيفها للابتزاز أو الضغط. فالجزائريون مقتنعون بالعيش المشترك وتجاوز الإقصاء والتهميش بشكل عام، إلا أن هناك من هو مرتبط بالجهوية في إسناد المهام والمسؤوليات ونسج تكتلات مبنية على هذا العامل.

وأردف “لقد أثبتت المسيرات تجاوز الحراك لهذه المسألة، وإفشال محاولات زرع الانقسام التي حركت هذه النزعة المفتعلة من طرف جناح في السلطة، بغرض تحقيق أهدافه السلطوية ومقاومة سياسة الخصم، أي أن الجهوية كانت محل توظيف سياسي دنيء أكثر من كونها مسعى اجتماعيا محضا”.