تشابك التاريخ والقصص الشعبي...

كيف تشكلت السيرة الأسطورية للظاهر بيبرس؟

الظاهر بيبرس

وكالات

في 658هـ/ 1260م، وقعت معركة عين جالوت في الأراضي الفلسطينية، بين القوات المملوكية والجيش المغولي، وكان الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري أحد أهم القادة المماليك في تلك المعركة، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.

بيبرس هذا سرعان ما سيظفر بكرسي السلطنة المملوكية بعد مرور أيام قلائل على انتهاء المعركة، ليحكم مصر وبلاد الشام لمدة سبعة عشر عاماً كاملة، تمكن فيها من تحقيق انتصاراتٍ عدة على القوى المغولية والصليبية.

السلطان الظاهر بيبرس، كان من بين السلاطين القلائل الذين اهتمّت الذاكرة الشعبية بتخليدهم في سرديتها القصصية، إذ صارت قصته المُتخيّلة واحدةً من أهم الملاحم التي تناقلها القصاصون والشعراء والأدباء في مصر عبر الأجيال والعصور.

المملوك الذي وصل لدست السلطنة: كيف قُدم بيبرس في المصادر التاريخية؟

وردت سيرة السلطان الظاهر بيبرس، في العديد من المصادر التاريخية الإسلامية، ومنها على سبيل المثال، "المختصر في أخبار البشر" لأبي الفداء عماد الدين اسماعيل، و"مرآة الجنان وعبرة اليقظان" لليافعي، و"البداية والنهاية" لابن كثير الدمشقي، هذا بالإضافة إلى مجموعة من مؤلفات تقي الدين المقريزي.

بحسب الروايات الواردة في تلك المصادر، فأن بيبرس قد ولد في حدود 620هـ/ 1223م، في بلاد القبجاق الواقعة على تخوم روسيا وآسيا الوسطى.

الكثير من الخلافات تحوم حول أصول بيبرس العرقية، فبينما تذهب العديد من المصادر إلى أن أصله تركي، فإن آراء أخرى تقول بانتسابه إلى الشركس، وعلى الرغم من شهرة بيبرس وكثرة ما كُتب عنه قديماً وحديثاً، إلا أن الفترة المبكرة من حياته محاطة بهالةٍ ضبابية، إذ لم يُعرف على وجه التحقيق كيف وقع في الرق، وكيف وصل إلى بلاد الشام قادماً من بلاده البعيدة.

تتحدث المصادر عن تتلمذ بيبرس على يد الأمير "علاء الدين أيدكين البندقداري"، والذي نُسب إليه بيبرس، فعُرف بلقبه فيما بعد، ومن خلاله انضمّ بيبرس إلى جيش الملك الصالح نجم الدين أيوب، إذ تمكن بسرعة من إثبات جدارته، حتى أضحى واحداً من كبار قادة الجيش الأيوبي.

في معركة المنصورة 647هـ/ 1249م، شارك بيبرس في الانتصار على جيوش الحملة الصليبية السابعة التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا، وكان من الأبطال المعدودين في تلك المعركة.

انخرط بيبرس بعد المعركة في الأحداث المتسارعة على ساحة السياسة المصرية، إذ شارك غيره من المماليك في اغتيال توران شاه بن نجم الدين أيوب، ثم هرب من مصر بعدما تمَّ قتل أستاذه فارس الدين أقطاي، على يد السلطان المملوكي الأول عز الدين أيبك.

بعد سنوات من الترحال والتنقّل في بلاد الشام، رجع بيبرس إلى مصر بعد اتفاقه مع سلطانها الجديد سيف الدين قطز، واشترك الرجلان في قتال المغول والانتصار عليهم في معركة عين جالوت، قبل أن ينقلب بيبرس على قطز، ويغتاله بعد أيامٍ من المعركة، لتتم مبايعته بالسلطنة.

الظاهر، وهو اللقب السلطاني الذي تلقب به بيبرس بعد وصوله للحكم، أثبت عبر سنوات حكمه السبع عشرة، أنه حاكم قوي الشكيمة، إذ قضى على جميع الثورات التي اندلعت ضده في مصر وفي بلاد الشام، كما أنه تمكن من تثبيت شرعية حكمه في 659ه/ 1261م، عندما استقدم الأمير العباسي أحمد بن الظاهر بأمر الله إلى القاهرة، ونصّبه كخليفةٍ عباسي جديد، ولقبه باسم المستنصر بالله، واستطاع أن ينتزع منه اعترافاً بسلطة بيبرس الزمنية المطلقة على مصر والشام.

من الرواية الرسمية إلى الرواية الشعبية

يمكن القول إن سيرة الظاهر بيبرس، قد كُتبت على مرحلتين متعاقبتين، أما المرحلة الأولى، ويمكن تسميتها بالسيرة الرسمية، فقد وقعت في حياة الظاهر بيبرس نفسه، وذلك على يد صاحب ديوان الإنشاء القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وذلك في كتابه المشهور "الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر"، والذي وردت فيه الكثير من الإشارات، التي تؤكّد على أن مؤلفه قد قام بعرضه على بيبرس أثناء تدوينه، وأن الأخير قد أظهر استحسانه وإعجابه بما ورد فيه.

أما المرحلة الثانية، وهي المعروفة باسم السيرة الشعبية، وقد تمت بعد وفاة بيبرس، وتم تنفيذها على يد مجموعة من الصوفية والزهّاد غير المعروفين، وانتشرت في الموالد والاحتفالات الشعبية التي تُقام في القاهرة والأقاليم، ويرجّح الدكتور إبراهيم عبد العليم حنفي في كتابه "البنية الأسطورية في سيرة الظاهر بيبرس"، أن السيرة الشعبية للظاهر بيبرس قد مرّت بعدة مراحل تدوينية، فيقول "ويظهر من خلال اللغة المكتوبة أن السيرة كُتبت بواسطة عدّة رواة، وربما قد تكون كُتبت من خلال راوٍ واحد استطاع أن يوظف قدراته الإبداعية ويوزعها على النصوص".

في بدايات القرن العشرين، طُبعت تلك السيرة في القاهرة، تحت عنوان طويل، وهو "تاريخ الملك العادل صاحب الفتوحات المشهورة السلطان محمود الظاهر بيبرس، ملك مصر والشام، وقواد عساكره ومشاهير أبطاله مثل شيحة جمال الدين وأولاد اسماعيل وغيرهم من الفرسان وما جرى لهم من الأهوال والحيل".

لماذا بيبرس تحديداً؟

من بين الأسئلة الإشكالية المهمة التي تفرض نفسها في سياق دراسة السيرة الشعبية للظاهر بيبرس، السؤال عن السبب الذي حدا بالرواة المصريين لاختيار الظاهر بيبرس تحديداً، ليصبح محوراً لسرديتهم الملحمية، في خطوةٍ غير مسبوقة، لم يحظ بها أي من السلاطين الذين حكموا مصر منذ الفتح الإسلامي لها في بدايات القرن السابع الميلادي.

الأديب والروائي المصري جمال الغيطاني، انتبه لذلك التساؤل الإشكالي في معرض تقديمه للطبعة الجديدة من السيرة الشعبية للظاهر بيبرس، إذ يذكر أن بيبرس "هو الحاكم الوحيد في تاريخ مصر منذ الفتح العربي وحتى العصر الحديث، الذي تحوّل في وجدان الشعب إلى بطل شعبي، أسطوري، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخنا، إذ كانت العلاقة بين الشعب وحكامه شديدة التعقيد".

نسب ملكي، تبرئة من القتل وصبغة صوفية: محطات في السيرة الشعبية للظاهر بيبرس

على الرغم من أن السيرة الشعبية للظاهر بيبرس، قد تشابهت مع الكثير من السّير المعروفة والمنتشرة في مصر في القرون الوسطى، إلا أن سيرة الظاهر قد تفرّدت بمجموعةٍ من الأمور المهمة، والتي تعبر بشكلٍ واضح عن الأجواء التي تشكلت ورُسمت فيها ملامح تلك السيرة.

أول ما يلفت النظر في تلك السيرة، أنها قد تغافلت تماماً عن الخوض فيما يخصّ النشأة الأولى لبيبرس، فابتدأت سرديتها باختطافه وبيعه كمملوك لتجار الرقيق، ودخوله في زمرة المماليك في بلاد الشام.

تبدأ السيرة، برؤيا للملك الصالح نجم الدين أيوب، والذي تم تصويره على كونه قطباً صوفياً يمتلك شفافية روحانية واتصالاً بعلوم الغيب، إذ يقول أيوب لعلماء بلاطه "يا ساداتنا، يا علماء الإسلام، رأيت في الليلة الماضية مناماً، فهل يصح فيها منام؟ قالت العلماء: نعم يا أمير المؤمنين، إن الليلة الماضية رؤياها صادقة، لأنها السابعة من الشهر العربي والقمر في زيادته، وهو غير منحوس".

رؤيا أيوب، جاء فيها أن الضباع قد أحاطت به، إلا أن أسداً هصوراً قد قدم من بعيد وحماه من الضباع، ويطلب أيوب من بعض أتباعه في بلاد الشام أن يبتاعوا له الفتى الذي صُور في الرؤيا في هيئة الأسد، ويرسل لهم بأوصافه.

علي بن الوراقة، خادم نجم الدين أيوب، يعثر على بيبرس في بلاد الشام، ويتعرّف فيه على الملامح التي وصفها سيده، فيبتاعه، ولكن بيبرس الذي تسميه السيرة باسم محمود، كان مريضاً جائعاً منهكاً، ويدخل في سلسلة من الصراعات مع أترابه ورفاقه ممن حسدوه وحقدوا عليه.

وفي الطريق إلى مصر، يمر محمود بحسنة الدمشقية، التي تعامله كولدها، وفي بيتها يجتمع أولياء الله وأقطاب الصوفية للدعاء له بالشفاء، ويبشّرونه بحكم مصر والشام.

وفي الطريق أيضاً، يمرّ محمود بإحدى المغارات، فيدخلها ويعثر بداخلها على سيف أسطوري يسمّى بـ "اللت الدمشقي"، وهو سيف ثقيل الوزن يشبه الفأس، ولم يحمله من قبل إنسان.

بعد وصوله لمصر، يتصل محمود، الذي سمته حسنة الدمشقية باسم بيبرس على اسم ولدها الميت، بخدمة السلطان نجم الدين أيوب، ويبدأ في انخراطه بطبقة العامة من المصريين، فيدافع عنهم ويحميهم من بطش المماليك الظلمة، ويتحمل مؤامرات الأمير أيبك وحليفه المسيحي جوان، المتخفي في شخصية القاضي صلاح الدين.

إحدى المحطات المهمة التي تعرج عليها السيرة، هي لقاء بيبرس بالشقي عثمان بن الحبلى، الذي دوخ الشرطة والجند، وعجز الجميع عن القبض عليه أو التصدي لخطره.

السيرة توضح كيف نشأت علاقة الصداقة بين بيبرس الذي كان يعبر عن السلطة، وعثمان الذي كان يمثل الشعب، وصيغت تلك العلاقة في إطار غيبي إعجازي، ذلك أن بيبرس لما نام، رأى السيدة نفيسة، وقالت له "هذا –أي عثمان- تابعي وخديمي، وأنا لم أفوته أبداً ولكن رضيت أن يكون خديمك على طول المدى، ويكون سامعاً مطيعاً، وكذلك أنت الآخر تطيع أمره، فإنه صحيح النظر، وأنا ناظرة إليكما بالرعاية والعناية "، وهكذا تتدخل القوى الروحية في عقد الصداقة الوطيدة بين البطلين، وكأن كاتب السيرة قد أراد أن يثبت مشاركة الشعب في الملحمة، من خلال شخصية عثمان، التي لا تقل في شجاعتها ولا بطولتها عن بيبرس نفسه.

ولما كان الشعب المصري يضمر السخط لحكم المماليك، بسبب أنهم كانوا في بداياتهم الأولى، عبيداً أرقاء، فإن كاتب السيرة الشعبية لبيبرس، قد حرص أن يؤكد على حريته الكاملة، من خلال قيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بعتقه لمرتين، وبكونه –أي الصالح- قد كتب الوثائق بذلك، وأشهد عليها الأعيان والأمراء، فيقول "أمرتهم أن يكتبوا حجّة شرعية متممة بأن جميع مالي، ونزالي، وما تملكه يدي ملك لهذا الغلام يفعل به ما أراد من المرام"، وهكذا، تمنح السيرةُ الشرعيةَ السياسيةَ الكاملة لبيبرس، من خلال وصاية نجم الدين أيوب نفسه، ويتحول جميع الملوك الذين حكموا مصر منذ وفاة نجم الدين وحتى سلطنة بيبرس، إلى لصوص متمردين عصاة، لأن نفوسهم الخبيثة قد حدثتهم بالتطاول على حق بيبرس ونصيبه الشرعي.

مع ذلك فأن كاتب السيرة وجد نفسه في مأزق، عندما أراد أن يصف كيفية وصول بيبرس للسلطة بعد قتله لقطز، فلم يكن من الممكن أن يصف المؤلف بيبرس بالغدر أو الخيانة، ولذلك فأنه –أي كاتب السيرة- قد نسب قتل بيبرس إلى العدو الصليبي، وأخلى ساحة بيبرس عن تلك الجريمة:

"فلما قالوا لبيبرس، لأي شيء قتلت الملك، ونحن عزمنا عليك بالسلطنة من قبل فما رضيت بذلك، فقال له يا وزير الزمان، وحق مكون الأكوان وخالق الإنسان وعلمه البيان، ما عندي خبر لذلك".

بعد ذلك تستغرق السيرة في الحديث عن أخبار حروب بيبرس، وقصصه الغريبة مع أعدائه، وتحيط هذا كله بأجواء أسطورية الطابع، تظهر فيها الغيلان والوحوش الأسطورية والخيول المُجنحة والخواتم السحرية، كما اهتم مؤلفو السيرة باستعراض أخبار مجموعة من الشخصيات التي ساعدت بيبرس وقدّمت إليه يد العون في المواقف الحرجة، ومنهم إبراهيم الحوراني، وجمال الدين شيحة، ومعروف بن حجر، كما عُرضت أخبار عدد من الشخصيات التي كادت لبيبرس وناصبته العداء، ومنها جوان وعرنوص بن معروف والبرتقشي.

وفي نهايات السيرة، يتحدث المؤلف عن السعيد ابن بيبرس، الذي كان أبوه يعّده لخلافته، ولكنه كان قد اعتاد على حياة اللهو والدعة، حتى استشاط بيبرس منه غضباً يوماً ما، وضربه ضرباً مبرحاً، فهرب السعيد إلى بلاد النصارى، فأرسل بيبرس بتابعه إبراهيم الحوراني ليقتله، وبعد قتله يندم بيبرس على ما جرى، فتحدث المعجزة، عندما يتم إحياء السعيد أمام قبر السيدة نفيسة، وتعجب الناس مما جرى، إذ "طلعت البنت من خباها، والشيخ من خلوته، يتفرجون على السعيد كيف عاش بعد قطع رأسه".

وتُختتم سيرة بيبرس، بنهاية مؤلمة نوعاً ما، ذلك أن بيبرس لما أراد أن يفرض بعض الضرائب الإضافية على الرعية، ليجهز بها حملته على المغول، فأنه استفتى الإمام محيي الدين النووي، ولكنه يمنعه من ذلك ويرفض أن يمنحه الفتوى، ويطالبه بأن يأخذ جميع كماليات السلطان والأمراء قبل أن يمد يده إلى أموال الرعية، فيغضب بيبرس عليه، ثم يرى في منامه نجم الدين أيوب يحدثه قائلاً: "ابن لك بيتاً تأوي إليه من الفانية إلى الباقية" فيستيقظ بيبرس من نومه منزعجاً، ويعرف أن أجله قد اقترب، ويأمر الصناع والبنائين بصناعة مدفن له في "دار العقيق" بدمشق، ويُدفن فيه بعد وفاته، وينسدل الستار على سيرة السلطان المملوكي الأشهر.