الإنتاج سوداني مصري مع دعم فرنسي وألماني ونرويجي..

"ستموت في العشرين" فيلم في عشق الحياة ومحبة السينما

دعم الفيلم الأول للمخرجين الأفارقة

سعد القرش

يحتاج المنذور للموت إلى صدمة ليست أقل من صعق يزلزل كيانه؛ لكي يفرّ من قدره فرارا عمديا يختبر به قدرته على نسف نبوءة رسمت نهاية أجله، ويعلن بإصرار: «سوف أحيا». وبدلا من صدمات سريعة ليست مضمونة النتائج، فإن الفتى «مُزمّل» بطل الفيلم السوداني «ستموت في العشرين» يتناول بهدوء جرعات من الوعي، بين يدي معلّم متمرد، يحيا كما يريد، ساخرا من خرافات يقرر البعض بها مصائر الناس.
وبالموت غير المتوقع لهذا المعلم، فإن الفتي «مُزمّل» يُقْدم على ما هو أبعد من التمرد، فيثور على نبوءة بموته في العشرين، وينتزع نصيبه من الحياة.
الفيلم هو الروائي السابع في مسيرة السينما السودانية، وقد فاز بجائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الروائي الطويل (قدرها 50 ألف دولار)، من مهرجان الجونة السينمائي في ختام دورته الثالثة، الجمعة 27 سبتمبر/أيلول 2019. وفي أغسطس/آب الماضي نال جائزة «أسد المستقبل» من مهرجان فينيسيا السينمائي. 
وقد كتب السيناريو مخرج الفيلم أمجد أبوالعلا ويوسف إبراهيم، عن قصة للكاتب السوداني حمّور زيادة. وأما الإنتاج فهو سوداني مصري مع دعم فرنسي وألماني ونرويجي، وكان مشروع الفيلم قد فاز، عام 2016، بمنحة من صندوق «اتصال» الذي يخصصه مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية لدعم الفيلم الأول للمخرجين الأفارقة، كبداية تحفّز مؤسسات دعم السينما على إعطائه منحا إنتاجية، باعتباره فيلما مهما.

الفيلم لعب على ثنائيات متعددة.. الطهرانية والخطيئة، الجسارة والخذلان كما في مشهد عودة الأب بعد غياب إلى حضن زوجة لا تريده، والاندفاع إلى الحب واليأس منه في مشاهد مزمل وزميلته نعيمة

السينما السودانية

ولعل المخرج، في فيلم الروائي الأول، أدرك أنه سيواجه حقل ألغام من التأويلات الخرافية للدين وإيمان أغلب الناس بطقوس تتمسح في الصوفية، فتجنب الثرثرة الحوارية وتوسل بالصورة، في مشاهد توازن بين لقطات قريبة ومتوسطة وبانورامية تتسع لأفق لا نهائي وفي الغالب يكون فيها «مُزمّل» (معتصم رشيد في الصغر، ومصطفى شحاتة في المراهقة والشباب) وزميلته في المدرسة «نعيمة» (عسجد محمد في الصغر، وبُنة خالد في المراهقة) قلبا نابضا بالحياة من طرفها، ومنطفئا من طرفه، يتهيأ للوداع في سن العشرين. والانتقال بين هذه المشاهد يتم بنعومة تحسب للمونتيرة المصرية هبة عثمان.
اقتراب حميم من مستويات وعي شخصيات الفيلم، من دون هجاء أو استعلاء، بداية من طقس صوفي أقرب إلى التعميد يستهدف به الأهل نيل البركة للمولود الجديد، ويقول الشيخ في نهاية الجلسة إن «مُزمّل» سيموت في سن العشرين. ويصبح للقول قوة اليقين، ويؤمن الناس أنه «ابن موت»، ويستسلم الأهل لهذه اللعنة التي لا رادّ لها، ولا يملك الأب إلا الاختفاء، بحجة السعي وراء الرزق حيث يناديه، وأما الأم سكينة (الممثلة السودانية إسلام مبارك) فتمتلك قوة تدعم بها ابنها، ولكنها تعجز عن تحدي «حقيقة» تحيل «حياة» الصبي إلى كابوس، فهو مشروع موت، هو حيّ ميت محاصر بالشفقة وفقدان الثقة، وينمو جسده وتتآكل روحه المرشحة للنفاد في سن العشرين، إلى أن تأتي صدمة الوعي بلقاء سليمان (الفنان السوداني محمود السرّاج).
سليمان يُطلع مزمل على معارف وفنون وحقائق، والأهم من المعرفة هو حياة سليمان التي تغني الشاب عن أي نصائح، فما أسهل الكلام النظري «عن» الأشياء من دون الاقتراب منها بالتجربة والانغماس. ولا يجد مزمل مسافة بين ما يذكره سليمان وما يعيشه كمثقف ساخر من السلطتين الاجتماعية والدينية، له حضور محبب ولا يخلو كلامه من سُباب طازج. وهو قادم من عالم السينما في بلد لا يشجع هذه الصناعة، وينتمي إلى جيل حصد خيبات الأمل في ما كان يطمح إليه. ولا يتوقف الفيلم أمام أسباب هذه الخسارات، بإلقاء اللوم على الحالمين أو على بيئة تقليدية تقتات الخرافة.
لا يكابر سليمان، فيحيا حياة اختارها، وتتلخص في مباهج صغيرة تُشبع أيامه، مستمعا إلى الأغاني الكلاسيكية ومشاهدة أفلام السينما، وتأتيه دائما امرأة يحبها، ويشرح للشاب الذي كبر ويستعد للموت، من دون أن يجرّب الحياة، كيف يكون للخطيئة معنى أعمق من اللذة، وينصت الشاب إلى هذه التفاصيل، ويتعرف على الأغاني ويشاهد صورا فوتوغرافية وأفلاما سينمائية، ويتوقف يوما أمام «هنومة» الجامحة، بطلة فيلم «باب الحديد» ليوسف شاهين، فيشير سليمان إلى المرأة التي معه، ويقول إن هذه «هنومتي». 

وتصير علاقتهما إلى ما يشبه الجسر النفسي بين المريد والشيخ الذي لا يرضيه أن يظل إنسانا منتظرا موته لمدة عشرين سنة، ويقول لمزمل إنه لو كان مكانه، ولاحقته لعنة هذه النبوءة، لأعرض عنها، وعاش أول عشرين سنة وهو يسخّر الناس لخدمته، ويعمل ما يريده، ثم يكمل حياته ساخرا منهم. ولم يتح لسليمان أن يرى ثمرة أفكاره، إذ ذهب الشاب مزمل إلى المرأة الباكية، بعد أن وضع أذنه على صدر سليمان الميت، كأنه يتلقى آخر وصايا المعلم. وقد استقبلته المرأة كما تستقبل أرملة من يأتيها للعزاء في زوجها، فقال لها مزمل إنه لم يأت من أجل العزاء، وإنما من أجلها، في مشهد دال أشبه بلوحة نفذها مدير التصوير الفرنسي سيباستيان جوبفرت موحيا بالألوان والظلال واللهفة والاقتحام والرفض والتمنع والصد، ثم الاستسلام ومبادلة العشق.
لعب الفيلم على ثنائيات متعددة.. الطهرانية والخطيئة، الجسارة والخذلان كما في مشهد عودة الأب بعد غياب إلى حضن زوجة لا تريده، والاندفاع إلى الحب واليأس منه في مشاهد مزمل وزميلته نعيمة، وتضاؤل الإنسان وحيرته أمام ألغاز مسجلة على جدران صرحية.
«ستموت في العشرين» فيلم مبشّر، ستكون له حظوظ مع الجوائز، استنادا إلى نزوعه الإنساني، وليس مكافأة على نجاج الثورة في تحرير السودان من سلطة العسكر، ولا تشجيعا لسينما سودانية تستعيد حيويتها، ولا أظن مخرج الفيلم يرضيه «هذا الحب القاسي».
درس أبوالعلا الإعلام في دولة الإمارات التي ولد ونشأ فيها، وأخرج أفلاما قصيرة منها «قهوة وبرتقال» 2004، و«ريش الطيور» 2005، و«ستوديو» 2012، و«فطائر التفاح» 2013.