شهدت قتلًا للآلاف من المدنيين من الصينيين بدم بارد..

"مذابح نانجينغ".. كتاب يوثق بشكل تفصيلي يوميات المذبحة

سطور عريضة في مجلدات تاريخ الأمة الصينية

محمد الحمامصي

"على الحضارة الإنسانية ألا تنسى مطلقًا ما ترتكب الأمم من مذابح؛ فليس أبشع من تحويل البشر إلى وحوش، ومن أجل هذا نصلّي لكي يعمّ السلامُ العالمَ". 
بهذه العبارة يفتتح الباحث خه جيان مينغ نائب رئيس اتحاد كتاب الصين كتابه "مذابح نانجينغ" تلك الجريمة الأكثر قسوة وبشاعة في العصر الحديث، إبادة كاملة لأكثر من ثلاثمائة ألف من الجنود والمدنيين الصينيين العُزّل على يد جيش الاحتلال الياباني في النصف الأول من القرن العشرين، تلقي بظلالها على تاريخ العلاقات الصينية اليابانية منذ ارتكاب المذبحة في 13 ديسمبر/أيلول 1937 وحتى يومنا هذا. 
الكتاب الصادر عن مؤسسة بيت الحكمة في جزأين يعد أول سِجل وثائقي كامل لمؤلّف صيني حول "مذابح نانجينغ"، حيث لم تشهد حركة الكتابة والتأريخ خلال العقود الماضية مؤلَّفًا توثيقيًّا شاملًا كالذي بين أيدينا الآن، فهو يجيب عن تساؤلات المعنيين بالبحث في تاريخ الصراعات السياسية في العصر الحديث، وجرائم الحرب التي كانت جزءًا دمويًّا في تاريخ هذا الصراع، وكذلك المعنيين بالشأن الصيني فيما يتصل بعلاقاتها مع اليابان على وجه التحديد، حيث يعرض للدوافع الحقيقية لجيش الاحتلال الياباني لارتكاب هذه المذابح، والمكاسب السياسية التي كانت دافعًا لارتكابها.
يوثق الكتاب الذي ترجمه كل من جورجينا القس زكريا وأمنية شكري بشكل تفصيلي يوميات المذبحة التي شهدت قتلًا للآلاف من المدنيين من الصينيين بدم بارد، وحرق العديد من القرى الصينية بأكملها وبمن فيها، بالإضافة إلى جرائم الاغتصاب ثم القتل ثم التمثيل بجثث الضحايا من النساء والأطفال الأبرياء.
وقد اعتمد الكاتب في عرضه لحقائق وأحداث "مذابح نانجينغ"، على الكثير من المذكرات والوثائق العسكرية، كذلك نماذج من التحقيقات التي جرت مع مجرمي الحرب من قادة المحاربين اليابانيين الغزاة في المذبحة، تلك المأساة التي تستحق أن تُسجّل بسطور عريضة في مجلدات تاريخ الأمة الصينية.
يقول خه جيان مينغ في تمهيده: قد لا يسمح لي شعبي الكريم ووطني المتسامح بكتابة مثل هذا العمل الذي أوشك أن أكتبه. وعلى الرغم من أنني على دراية واسعة بوقائع "مذبحة نانجينغ" منذ أمد بعيد، إلا أنني كنت دائمًا ما أعتقد بأن غيري قد دوّن بالفعل أعمالًا مماثلة عنها. 
"لا أحد، لم يسبق لأحد أن يدوّنها كاملة. وأنا أضمن لك ذلك!" قالها لي شخص يُدعى تشو تشنغ شان، وهو رئيس القاعة التذكارية لضحايا المذبحة على يد الغزاة اليابانيين وخبير مشهور متخصص في دراسات تاريخ الغزو الياباني للصين، وتضم معظم أعماله التي يصل عددها إلى عشرات الكتب مقالاتٍ وأعمالًا نثرية ذات صلة بالمذبحة. وحتى أتأكّد مما قاله لي تشو تشنغ شان، انكببت أبحث في جميع الأعمال ذات الصلة بالمذبحة. وقد أذهلتني النتيجة: فعلى مدار ثمانين عامًا، كانت الصور والأعمال التي تسجّل المذبحة تتجاوز المئات، والنتائج البحثية حولها أخذت تتراكم كالجبال، بينما لم أجد سوى عملين أدبيين فقط على قدر كافٍ من الأهمية: أحدهما كان الأديب "شو تشيجنغ" قد كتبه قبل 28 عامًا من منطقة نانجينغ العسكرية، والآخر كتبته الصحفية الأميركية من أصل صيني تشانغ تشون رو. 
وإسهام العمل الأول يكمن في: أن مؤلفه قد قام بنفسه بمحاورة مجموعة من الناجين من تلك الحرب، وقد كانت رواياتهم الشفهية ذات قيمة عالية للغاية. بينما انطلقت مؤلفة العمل الثاني من هويتها كصحفية أجنبية لتجمع وترتب العديد من التقارير الأجنبية التي دارت حول المذبحة، أمّا بالنسبة للإسهام الأكبر لتشانغ تشون رو فيكمن في اكتشافها لـ"مذكرات رابي". ومع ذلك، فإن ما يدعو للأسى هو أن هذين العملين لم يتمكنا من كشف عمق بانوراما الوحشية اليابانية أثناء مذبحة نانجينغ، ربما بسبب المنظور الأحادي الذي تبناه كِلا المؤلفين أو محدودية الموارد وقتئذ. ومبعث الحزن هو أن، ما يحمله ذهن الشباب الصينيين الحاليين من مفهوم حول "مذبحة نانجينغ" لا يتعدّى ما ترويه أفلام "مدينة الحياة والموت" و"أزهار الحرب"، وهذا أمر لا يُصدَّق حقًّا.
ويضيف "بصفتي مواطنًا وكاتبًا صينيًّا، فقد عقدتُ العزم على أن أقتفي خطى الخبراء الذين يفنون أعمارهم منذ عقود في دراسة تاريخ الغزو الياباني، سواء أكانوا من الكتاب الصينيين والأجانب أم من قدامى المحاربين والأفراد اليابانيين، سعيًا إلى مراجعة اللحظات المأساوية التي صعقت التاريخ الإنساني، وجهرًا بأصوات تلك الأنفس التي صمتت منذ زمن في السماء، غير أن اكتشافات مذهلة أخذت تبهتني وأنا أفتح تلك السجلات التاريخية الموصدة وأفضّ مغاليق الذكريات البائسة. فقد اكتشفت أن جيش الاحتلال الياباني عندما انتهى من ذبح مئات الآلاف من إخوتي في الوطن قبل ثمانين عامًا وأحال العاصمة الصينية العتيقة الجميلة إلى خراب، مضوا في وقاحة وأقاموا "حفلًا تذكاريًّا" ضخمًا لهؤلاء الضباط والجنود اليابانيين الذين لقوا مصرعهم أثناء الهجوم على نانجينغ! كان هذا اليوم يوافق 18 ديسمبر/كانون الأول عام 1937، وهو اليوم السادس لدخول الجيش الياباني مدينة نانجينغ. حينها أقام الجيش الياباني "الحفل التذكاري" في مطار نانجينغ، وقد حضره أكثر من مائة ألف لواء وجندي في الجيش الياباني. أمّا بالنسبة لفعاليات هذا "الحفل التذكاري"، فيمكن العثور على سجلات الحفل في يوميات وذكريات جنود الجيش الياباني الغازي.

مضينا في اهتياجنا نسلب المدنيين ونقتلهم دون أدنى إحساس بالذنب. كل من واجهناه، كائنًا من كان، طالما هو صيني، كان عدوًّا لنا يجب أن نقتله. ولمّا صار هذا الإحساس اعتياديًّا، انحططنا جميعًا إلى قاتل لا يطرف له جفن

أيضا تبيّن لي إنه في 15 ديسمبر (عام 1937)، أي في العام الثاني عشر لتولي الإمبراطور شوا للحكم (الإمبراطور هيروهيتو)، كشفت صحيفة "أساهي شيمبون" اليومية أن: رئيس الوزراء الياباني فوميمارو كونويه أصدر بيانًا يوم غزو الجيش الياباني للعاصمة نانجينغ، وزعم فيه أنه نظرًا لعدم تفهُّم الصين لـ "إصرار اليابان على الحلول غير التوسعيّة"، "وأنها -الصين- استهانت بقوة الجيش الياباني، وأيضًا بقوة اليابان الحالية"، "فإنها ارتكبت خطأً مميتًا"، ولأن الصين "أعلت مشاعر العداء ضد اليابانيين"، وعملت على تأجيج "روح القومية"، وقد أدّى ذلك إلى "فشل الصين عشية النجاح المؤزِّر"، فعلى الصين أن تتحمل "المسؤولية الكاملة" عن المأساة التي وقعت.
ويشير خه جيان مينغ أنه اكتشفت أمرًا أهم مما سبق: وهو أن هيساو تاني جلاد مذبحة نانجينغ والقائد السابق للفرقة السادسة في الجيش الياباني الغازي بعد أن نُقِل للمثول أمام محكمة نانجينغ العسكرية بموافقة المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى، وأُعدِم رميًا بالرصاص في نانجينغ، فقد ظل أتباعه من الجانب الياباني يجهلون جرائمه، بل وقد احتفظوا به في ذاكرتهم "بطلًا شعبيًّا عظيمًا". بينما يقوم كتاب "حقيقة حرب نانجينغ: مذكرات حرب الفرقة السادسة بمحافظة كوماموتو"، والذي ألّفه الفريق إيكاكو شيمونو وأصدره جهاز المخابرات الياباني في ستينيات القرن العشرين، بوصف مجرم الحرب هيساو تاني كالتالي: "ظل القائد يخدم في الجيش لأكثر من أربعة عقود أفنى فيها نفسه في خدمة الإمبراطورية، مضحيًا من أجلها بحياته". "على الرغم من أنه فعل كل ما في وسعه من أجل اليابان، فما إن انهزم لمرة واحدة حتى انطلق أعداؤه من كراهيته وأعدموه قربانًا وضحية تحت شرفة الزهور المنهمرة التي قاد من تحتها حربًا مجيدة في أحد الأيام". "لقد ضرب بأخلاقه القتالية العالية وروحه العسكرية السامية مثلًا للمحارب الحقيقي، ونال كرامة بالغة من الجميع. ونحن الضباط والجنود نأسى أشدّ الأسى لتضحيته، ونقدّم لولائه وشجاعته أخلص التقدير". 
كان إيواني ماتسوي القائد الأعلى للقوات اليابانية التي نفّذت مذبحة نانجينغ قد أُدين وأُعدِم شنقًا أثناء محاكمته بالمحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى، غير أنه لم يفتقر إلى من أدانوا الحكم ونادوا ببرائته. بعد ذلك قام اليابانيون بتكريم روحه في ضريح ياسوكوني، وقام بزيارته العديد من رؤساء الوزراء اليابانيين.
ويؤكد أن الأمة الصينية محبة للسلام منذ القدم، فقد سبق لها أن تنازلت عن تعويضات الحرب من اليابان، ولكن لا بدَّ من إيضاح بعض التفاصيل المتعلقة بهذا التنازل للشعب الصيني: فتعويضات الحرب من اليابان لها نصوص واضحة في "إعلان بوتسدام" لعام 1945. ولكن أثناء عملية تنفيذ الإعلان انطلقت أميركا وغيرها من الدول من مصالحها الشخصية وعملت على استبعاد الصين، وقامت في عام 1951 بإبرام "معاهدة سان فرانسيسكو للسلام" مع اليابان والتي سرت اعتبارًا من العام التالي، مما أرغم الصين على التنازل عن تلك التعويضات. 
يمكن القول بأن هذه المعاهدة تعكس ما تضمره الولايات المتحدة من نوايا سيئة، وهو ما يتّسق تمام الاتساق مع مخططات اليابان. ولا بدَّ من النظر لهذه المؤامرة التي تعمّدا من خلالها إيذاء مصالح الشعب الصيني باعتبارها دليل عارٍ في تاريخ السلام الاجتماعي. وعلى الرغم من هذا كله، إلا أننا قد قررنا نحن الصينيين بكرم نفس ومراعاة للمودة ألّا نعيد فتح الحساب القديم، بل وأيضًا نمدّ يد الصداقة نحو اليابان بكل طريقة ممكنة ولأكثر من مرة بعد تأسيس الصين الحديثة، فأرسلنا الآلاف من أبنائنا المتميزين إلى المحيط الشرقي (الاسم الصيني القديم لليابان) لتعزيز العلاقات الودية بين الصين واليابان. ولكن بعض السياسيين اليابانيين كانوا يرفضون القيام بالأمر، فتحدّوا صبر الشعب الصيني، مما أدّى في النهاية إلى إشعال فتيل غضب الأمة الصينية، فأعادوا الحياة لتلك الأنفس البريئة المدفونة في "المقابر الجماعية".
ويلفت خه جيان مينغ إلى أنه ليس خبيرًا في جرائم الحرب، "لكنني خلال الأيام الماضية غصت في المراجع التاريخية والوثائق التي تسجّل كافة الجرائم التي ارتكبها اليابانيون عند غزوهم للصين، وروايات الناجين من المذبحة التي يروونها بدمائهم ودموعهم والصور الحية التي خلّفتها الحرب، دائمًا ما تدفعني للشعور بالاختناق، بل وقد دفعتني أيضًا لإدراك السبب وراء إصابة الأديبة تشانغ تشون رو بالاكتئاب الشديد، بل وانتحارها بالرصاص في سيارتها بعد الانتهاء من تدوين كتابها حول المذبحة. 
أعتقد أن اليابانيين لا يمكنهم مطلقًا أن ينكروا أو يتجاهلوا كل هذه الجرائم التي ارتكبوها، بل ولا يمكنهم بالأكثر أن يشكّكوا في أي من حقائق مذبحة نانجينغ أمام الصينيين، إذ إن هذه جميعها قد أثبتها التاريخ بنفسه، كما أن العديد من الضباط والجنود اليابانيين الذين شاركوا في المذبحة قد اعترفوا بتلك الحقائق:
"في شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من عام 1937، زحفنا في اتجاه مدينة نانجينغ، وفي أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول دخلنا المدينة، بينما نحتفل بحلول العام الجديد في السنة الثالثة عشرة من حكم الإمبراطور شوا، خطر لي مدى الخسارة التي سأتكبّدها لو اكتفيت بالوقوف دون أن أفعل شيئًا قبل أن يلحق بي الموت في أي لحظة من هذه المعركة؛ لذا أصبحت أقتل كل من أصادفه حتى لو من المدنيين، وتدريجيًّا ازدادت قسوة الأفعال. ولأن الحرب تأتي معها بإحساس غريب يدفعك لعدم إدراك أنك تقتل شخصًا؛ لذا فقد مضينا في اهتياجنا نسلب المدنيين ونقتلهم دون أدنى إحساس بالذنب. كل من واجهناه، كائنًا من كان، طالما هو صيني، كان عدوًّا لنا يجب أن نقتله. ولمّا صار هذا الإحساس اعتياديًّا، انحططنا جميعًا إلى قاتل لا يطرف له جفن".  
ويضيف "قرأت الكثير والكثير من هذه المواد التي كتبها المحاربون اليابانيون القدامى الذين شاركوا في مذبحة نانجينغ، بل والأكثر أنني قرأت "المذكرات العسكرية" التي تصف أحداث مشاركة المحاربين في المذبحة، بقسوة ووحشية لا يمكن تخيلهما. وعندما يطالع القراء في شتى أرجاء العالم (بما في ذلك اليابانيون) هذا الكتاب، قد يفهمون لماذا يريد الصينيون على ما فيهم من طبع طيبة القلب والتسامح والكرم إقامة ذكرى وطنية لتأبين ثلاثمائة ألف ضحية سقطوا في مذبحة نانجينغ بعد مرور ثمانين عامًا من وقوع الحدث، فهذا التاريخ الملطّخ بالدم لا يمكن تغييره، تاريخ حزين بائس، وهذا ابتلاء ثقيل لا يمكن نسيانه!