كاتب سوري..

طفلٌ هو نحن جميعاً

رسالة الكاتب بوصفهِ صوتاً للجماعة

سومر شحادة

يتساءل بول سارتر وهو يقيم حجّةً عن شرط الالتزام في الأدب: "كيف يستطيع الكاتب أن يكون كما يشاء بالنسبة إلى المظالم التي ينطوي عليها العالم؟"، ثُمّ يُلزِم الكاتب، ما إن يقبل تصوير المظالم، بالقضاء عليها، وكأنّ سارتر اقتصر الكتابة على موضوع واحد هو الحرية. إنّه يرمي الكاتب بين ضفّتَين: رسالة الكاتب بوصفهِ صوتاً للجماعة، وصورة الواقع المستلب. وبالتالي، ينطوي تساؤل سارتر على بعد ثوري، يرجو من الكاتب تغيير الواقع أو مصارعته.

إلّا أنَّ أقصى ما يصل إليه الكاتب الملتزم، بنقله صورة الواقع، هو تحطيم هذه الصورة، بتعريتها أمام مُثُل بيضاء. ما يهدّد الأدب بنزع أحد مهاراته، بعدم المفاضلة بين الخير والشر، فكلاهما يسكنان فعلاً قلب الإنسان.

لو أُتيح الحديث عن كاتب سوري ينقل واقع بلدهِ، فعلى أية مظالم سوف يقف؟ لقد استهلكت سنوات الحرب، في ما استهلكت، الخطاب السردي العام. ونجد عبر نصوص كثيرة تساؤلاً عميقاً حول "أية أنقاض سأرفع بيتي؟ وأية أستار سأرفع في وجه القبح والكراهية وهدر كرامة الإنسان وحياته؟". لقد تجاوزَ الواقعُ الأدبَ، عبر الثورات. وراح الأدب الذي يصوّر الواقع كي يكشفهُ، يلهث عبثاً، بهدف تمجيد الإدانة، حتى بدا لحاق الأدب بالواقع من أجل تسجيله عملاً لا طائل منهُ، لا في ما يخص المقولة الأدبية أو الإنسانية، وإنّما في ما يخص الالتزام عينَه، فأن تلتزم التزاماً مباشراً بالواقع اليوم، معناه أن تكرّس هذا الواقع بصناعة أدب معزول وماضوي بعدما رماه الواقع وراءهُ وبات القارئ يستنجد بما يتخطّى هذا الواقع.

"
حكاية ذلك الطفل - الشاب الذي هو نحن جميعاً
"
الآن كيف للكاتب أن يكون ما يشاء أمام أهوال المظالم التي يتوقّعها القارئ ولم يعد ينتظرها؟ مع حفاظ الكاتب على فنه ومقولته سوياً، وهما شرطان يُنتجان بعضهما، ثمّ يفترقان أو يتلاقيان، بدرجات تتفاوت بين كاتب وآخر. إلا أنّ تساؤل سارتر هو تساؤل مفتوح، يمكن للكاتب ألّا يُخضِع ذاته إلى خيار واحد، يتحتّم، بموجبهِ، أن يكون ضمير الإنسانية. لربما كان الحل في أن يكون الكاتب ملتزماً قضايا جماعتهِ ومتحرراً منها في الآن نفسهِ. أن يذكر تهدّم منزل فوق أسرة ويلتفت إلى حياة النهر بالقرب من الأنقاض، وقد شيّع بجريانهِ الموتى إلى مملكةٍ، الضحكاتُ فيها لا تنقطع.

لربما يشبه هذا ما نقله محمود درويش عن الشاعر الباكستاني فايز أحمد فايز عندما سأله، وسط انشغالات الموت والدمار عن غياب رسامي بيروت أثناء اجتياح 1982، وقد أراد أن يرسموا الحرب على جدران المدينة. لينبّهه درويش إلى سقوط الجدران من حولهما. لكن لا ينفي هذا أنّ في نداء الشاعر الباكستاني، ملمحاً جمالياً وتلقائياً ﻷزمة صارخة تأنف الأستار، وبحث عن حلول تتجاوز الجمهور المحدود إلى عالم أرحب، الزمن فيهِ، متصل ومستمرٌ وممتدّ وراء أمداء الموت والمظالم.

ألمح، مثل كثيرين، شاباً يقرأ عن أسرة تشردت في أصقاع العالم، ألمحه يمسك صورة ناجية من قصف أو انفجار، يوزّع رفاقه إلى القبور والبلدان، ألمح هذا الشاب في هيئة طفل قديم، وقف مع رفاقه أمام كاميرا مصوّر يتنّقل على دراجة هوائية في معسكر مدرسي على ضفاف نهر الفرات. ألمح الشاب ينظر إلى المرآة، لتعود بهِ السنين، طفلًا يجهل الحرب التي صنعت مصيره ومن ثُمّ يتجاوزها. في ما اجتهد روائيّون من أجل اللحاق بهذه المصائر التي نمت ونضجت وسقطت قبل أن يشرعوا بالتقاط حكاية ذلك الطفل - الشاب الذي هو نحن جميعاً.