أداة للانغماس العقائدي..

"تيكا".. ذراع استخباراتية تركية بقناع إنساني

تيكا هي الوجه الآخر لجمعيات مثل "قطر الخيرية"

الحبيب الأسود

تُعرف الوكالة اختصارا باسم تيكا. وتأسست بهدف تنسيق علاقات تركيا مع ما يعرف بالجمهوريات المستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في وسط آسيا. لكن، في السنوات الأخيرة تمددت الرقعة الجغرافية لتيكا، وتحولت، كما يقول المصدر الليبي، إلى “جسر للمزيد من التغلغل في المجتمعات” بحجة الأعمال الخيرية.

يستدل المتحدث عن ذلك بمشروع تم توقيعه منذ أيام بين تيكا والهيئة الوطنية للتعليم التقني والفني التابعة لوزارة التعليم بحكومة الوفاق الليبية، للتدريب المهني في كلية التقنية الصناعية بمدينة مصراتة، شرق العاصمة طرابلس.

الهدف الواضح من المشروع هو تنظيم دورات في صيانة الأجهزة الكهربائية والطاقة المتجددة، بمشاركة 100 متدرب يمثلون عدة مناطق ومدن ليبية. لكن، العودة إلى نشاط الوكالة منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي، والدور التركي في دعم الميليشيات والإسلاميين يؤكدان أن الأمر يتجاوز هذا التدريب إلى ما هو أعمق.

توغل استراتيجي

في السنوات الأولى للفوضى التي أعقبت سقوط النظام، اخترقت تيكا الفضاء العام في ليبيا من خلال مشاريعها المكثفة التي كانت تستهدف مدنا بعينها لخصوصيتها الثقافية أو الجغرافية، مثل العاصمة طرابلس وغدامس المتاخمة للمثلث الحدودي مع تونس والجزائر، ومصراتة ذات العلاقة الاستراتيجية مع تركيا، وسرت ذات الأهمية الاستراتيجية في وسط البلاد، وإقليم فزان الجنوبي الذي يمثل بوابة الصحراء الكبرى، إلى جانب إبداء اهتمام خاص بالأقليات العرقية التي يحاول الأتراك اختراقها لخدمة أجندتهم في البلاد.

ويرى المتابعون أن تيكا، التي تنشط في أكثر من 50، دولة تحولت إلى حصان طروادة الذي يستعمله أردوغان في خدمة مشروعه التوسعي. كان الهدف الأول للمشروع التدخل المباشر في شؤون الدول المنحدرة من القومية الطورانية التي أعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفييتي بعد تفككه في ديسمبر 1991.

في 24 يناير 1992 أسست تركيا وكالة التعاون والتنسيق، بهدف معلن وهو مساعدة الجمهوريات السوفييتية في إنتاج بنيتها وهويتها وتطويرها في جميع المجالات، بينما كان الهدف الحقيقي هو تكريس سلطة أنقرة على تلك الدول الخارجة لتوّها من شمولية الحكم الشيوعي، والسيطرة على قرارها من خلال استغلال عناصر العرق واللغة والدين، وهي التي كان لها سبق الاعتراف بالجمهوريات المستقلة؛ كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان وقيرغيزستان.

ليس هناك ما يمنع تركيا من القيام بهذه الخطوة للدفاع عن مشروعها القومي في وسط آسيا والقوقاز، لكن مع بداية عام 2000، ومع تولي حزب العدالة والتنمية السلطة، أخذت تيكا وجها آخر وهو الوجه الإخواني القومي، الباحث عن مدارات أخرى لخدمة مشروع

الحزب في دول أفريقيا وآسيا وأوروبا.وبإشراف مباشر من الرئيس رجب طيب أردوغان تضاعف انتشار تيكا ليرتفع عدد مكاتبها من 12 مكتبا في عام 2002، إلى 25 مكتبا في عام 2011، ثم 33 مكتبا في عام 2012. واليوم تواصل تيكا أنشطتها عبر 56 مكتبا تنسيقيا في 59 دولة، بحجم مساعدات ارتفع من 85 مليون دولار في عام 2002 إلى 3 مليار دولار في عام 2015، على أمل أن تستهدف 140 دولة في 5 قارات، من المحيط الهادي إلى آسيا الوسطى، ومن أفريقيا والشرق الأوسط إلى البلقان، ومن القوقاز إلى أميركا اللاتينية.

يقول المتحدث باسم غرفة عمليات الكرامة بالجيش الليبي العميد خالد المحجوب لـ”العرب” إن “تيكا هي اليافطة الخيرية للمشروع العثماني الإخواني الجديد، وهي بالأساس أداة اختراق للمجتمع تجمع بين الجانب المخابراتي وبين تمويل الإرهاب من خلال الدعم الذي تقدمه للجمعيات والمنظمات والأفراد المتورطين في ضرب مؤسسات الدولة الليبية، وفي محاولة التصدي لعملية التحرير والتطهير التي تقودها القوات المسلحة الليبية في مختلف أرجاء البلاد

ويضيف أن “تيكا هي الوجه الآخر لجمعيات مثل “قطر الخيرية”، التي تصب معها في نفس الهدف لاختراق المجتمعات عبر دعم قوى الإسلام السياسي وتمكينها من التغلغل في المدن والقرى والمناطق النائية والأحياء الفقيرة والمحرومة التي تشعر بالغبن”، مشيرا إلى أن “الوكالة التركية تعتبر إحدى أبرز أذرع نظام أردوغان التخريبية في ليبيا”.


أهداف تيكا في ليبيا متشعبة ولها وجوه عدة، بما في ذلك التمهيد لدور تركي في مشاريع إعادة إعمار البلاد التي تواجه حربا ممنهجة للسيطرة عليها من قبل الإسلاميين وحلفائهم منذ ثمانية أعوام. لكن الوكالة التركية تواجه اليوم تراجع دورها في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني، وباتت تركز بالأساس على مصراتة ثاني أكبر مدن غرب ليبيا، باعتبارها مركز التبعية للقرار التركي.

وأوضح أستاذ القانون الدولي بالجامعات الليبية محمد الزبيدي أن “تركيا دمرت الدولة الليبية من خلال منظمة تيكا التي قامت بدعم الميليشيات حتى تمكنت من إسقاط الدولة، ونهبت كل خيراتها ونقلها إلى تركيا لإنقاذ اقتصاد أنقرة”، مؤكدا أن الأعمال الخيرية والإنسانية هي واجهة مشروع التوسع التركي على حساب دول المنطقة ومنها ليبيا.

وأبرز الزبيدي أن “تيكا ومثيلاتها تدعم الإرهاب والميليشيات وتحاول اختراق الفئات الهشة في المجتمع بهدف السيطرة عليها وتحريكها في اتجاه مصالح المشروع الأردوغاني”. وأضاف أن “في إطار استخدام القوة الناعمة لتوسيع النفوذ التركي في أفريقيا تم توظيف البعد الحضاري والديني واعتماد سياسة العطاء بنكهته الإسلامية المحببة للأفارقة، افتتحت الوكالة التركية للتنسيق والتعاون في سنة 2011 في كل من الصومال وليبيا وكينيا ومصر وتونس، لتنضم إلى فروع الوكالة في إثيوبيا والسودان والسنغال لتشرف

على مشروعات الوكالة في 37 دولة أفريقية تتنوع بين مجالات التعليم والصحة والزراعة، إضافة إلى مؤسسات الإغاثة والمساعدات الإنسانية كمؤسسة

محمد الفاتح وجمعية ياردم والهلال الأحمر التركي ومركز يونس أمره ومركز العلاقات التركية”.

إحياء الموروث العثماني

لا تخلو أنشطة تيكا من رمزية الإحالة على الاحتلال العثماني لليبيا عبر ترميم بعض المنشآت مثل مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية في طرابلس، التي يرجع تاريخها إلى عام 1871، ما جعل تقارير ليبية تشير إلى أن افتتاح المدرسة يكشف عن النوايا التركية لإعادة احتلال البلاد، مشددة على أن ذلك دليل على التفكير الماضوي لحكومة أوردوغان التي قامت بنفس الممارسات مع آثار عثمانية في تونس.

وفي أوائل أكتوبر الجاري أرسلت تيكا وفدا من المهندسين المعماريين إلى العاصمة الليبية، لدراسة ترميم آثار عثمانية. وزار الوفد التركي المدينة القديمة في طرابلس لفحص ودراسة الآثار العثمانية المقرر ترميمها، والتي تعرضت لأضرار في السنوات الأخيرة.

وأوضحت الوكالة التركية أن أعمال الفحص والدراسة جرت بالتعاون مع إدارة المدن التاريخية الليبية، وشملت كلّا من مسجد أحمد باشا القرماني، ومسجد وضريح تورغوت ريّس، والمكتبة البحرية العثمانية.

وردّ أحد المهتمين بالشأن العام من داخل طرابلس، في تصريح لـ”العرب”، بأن الأتراك يريدون أن يحيوا ماضيهم في العاصمة، هم يرون أن ترميم وصيانة الآثار العثمانية سيكون طريقهم إلى بث الحنين في نفوس الليبيين إلى فترة احتلالهم للبلاد التي كانت مظلمة بكل المقاييس، وقاومها الليبيون بكل قوة.

وأضاف قائلا إن “الإخوان وحلفاءهم يعتقدون أن بوسعهم أن يقدموا طرابلس على طبق من ذهب للأتراك، لكن كل هذه المشاريع ستنتهي بمجرد تحرير العاصمة من ميليشيات الوفاق، فليبيا دولة ثرية وعندما تستعيد الدولة سيادتها لن تكون في حاجة إلى مثل هذه المساعدات التركية التي يرى فيها الليبيون استنقاصا من قدرهم”.

يشير تقرير لصحيفة “دي فيلت” الألمانية إلى أن أردوغان ضخ أموالا طائلة من أجل إحياء الدور العثماني الميّت، مؤكدة أن مخططه يعتمد على تنفيذ مشروعات استثمارية كبيرة من أجل تقوية نفوذه.

وفي المقابل، ذهبت صحيفة “زَرِى” الألبانية، إلى ما هو أبعد من ذلك، بأن ذكرت في تقرير لها أن “أردوغان قام بعمليات غسيل أموال في كوسوفو عبر وكالة تيكا”، مشيرة إلى أن الرئيس التركي “أدخل الملايين من اليوروهات من تركيا إلى كوسوفو بطرق غير رسمية بغرض غسيل الأموال، في حين دخلت المبالغ تحت زعم استخدامها في عملية ترميم الآثار التاريخية بواسطة تيكا”.

سيكون من اللافت للاهتمام أن نتحدث عن جمعية خيرية تركز اهتمامها على الأمن والشرطة، فقد نظمت تيكا دورات تدريبية لضباط من منتسبي جهاز الشرطة في تركيا وعدد من دول العالم منها، أذربيجان وفلسطين وكوسوفو وألبانيا والجبل الأسود وأوزبكستان ومنغوليا وتونس ومولدوفا وأفغانستان. وتمت هذه الدورات التدريبية بالتعاون مع المديرية العامة للأمن العام والقيادة العامة للدرك في تركيا، بهدف تزويد المشاركين بالخبرات العملية لتنمية الوعي المشترك في مكافحة الجريمة وضمان توحيد المصطلحات الشرطية والعسكرية.


تيكا والاستخبارات
إلى ذلك، أصبحت تيكا صاحبة الذراع الطويلة في تدريب الشرطة الأفغانية، ومن آخر أنشطتها تدريب 168 شرطية أفغانية في مركز التدريب المهني للشرطة بولاية سيواس وسط البلاد، بهدف تأهيلهن وصقل خبراتهن من أجل توفير الأمن في بلادهن، وفق ما تقول الوكالة.

وبحسب الوكالة التركية استطاع حتى الآن 3 آلاف و353 شرطيا أفغانيا، بينهم 213 امرأة، اجتياز التدريبات بنجاح في مركز التدريب المهني للشرطة بولاية سيواس، فيما تتلقى حاليا 168 شرطية أفغانية، التدريبات ضمن النسخة الـسابعة من مشروع التدريب.

كما نظمت الوكالة التركية دورة في “القيادة البوليسية ومهارات الإدارة” لأفراد الشرطة في البوسنة والهرسك، وفي عدد من الدول الأخرى. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث نظمت تيكا فعاليات دورات المراسل الحربي بالتعاون مع وكالة الأناضول وأكاديمية الشرطة، بمشاركة صحافيين من دول عدة من بينها، أفغانستان وإثيوبيا وجورجيا وسوريا وميانمار ونيجيريا والجزائر وفلسطين والأردن وفلبين وباكستان وأذربيجان.

المهتمون بالشأن التركي يدركون جيدا أن تيكا هي جزء أصيل من منظومة الاستخبارات التركية، وتستعمل كغطاء للجوسسة ونقل المعلومات والاستقطاب والتجنيد. ورئيس جهاز المخابرات التركي الحالي، هاكان فيدان، هو الرئيس السابق لتيكا. وقد قام على امتداد أربعة أعوام بتشكيل البنية الاستخباراتية للمؤسسة، قبل أن يتجه للعمل على رأس جهاز المخابرات في نظام أردوغان. ليشهد الجهاز في عهده أكبر عمليات دعم الإرهاب من خلال دوره في دول كسوريا والعراق وليبيا. ولعل أكبر فضائح فيدان تلك التي كانت في عام 2014 عندما كشفت قوات الشرطة دعم الاستخبارات للميليشيات المسلحة في سوريا بالأسلحة والذخائر، وهي القضية المعروفة إعلاميا بـ”شاحنات المخابرات”، حين ضبطت قوات الدرك سبع شاحنات محمّلة بالأسلحة والمخدّرات في طريقها إلى الجماعات الإرهابية في سوريا.

تيكا والتعليم

المشروع التوسّعي العثماني الجديد تحت الغطاء الأيديولوجي الإخواني لابد له من ذراع قوية تخترق المجتمعات عبر الأداة الأنجع لمثل هذه الأهداف وهو التعليم. ففي عام 2016 قال أردوغان لمسؤوليه “إذا قالت منظمة فتح الله إننا متواجدون في 170 دولة، فعليكم التواجد في جميع الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة”.

وفي العام ذاته تقرر إنشاء “وقف معارف” بقانون مرّره حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي لتأسيس مدارس إسلامية داخل وخارج البلاد لنشر الفكر الإخواني، حيث يعمل الوقف كأداة للتوغل خارج تركيا ونشر الفوضى واختراق الدول العربية والإسلامية بشكل خاص. ومنذ 2017 انتشرت مدارس الوقف في 70 دولة حيث يسعى (الوقف) إلى تجنيد الملايين من الأطفال والشباب في مخطط لإعادة إحياء الدولة العثمانية وابتلاع خيرات الدول ونهب ثرواتها وانتهاك سيادتها.

وتكشف خارطة الغزو التعليمي المتطرف لحاكم أنقرة، الوجود الكثيف لمدارس النظام التركي في الدول الأفريقية والعربية. وفي مقال بعنوان “مؤسسة معارف التركية، حصان طروادة أردوغان” على موقع تركيش مينيت، قال الكاتب عبدالله بوزكارت إن حزب العدالة والتنمية أنفق مليارات الشعب على إرضاء نزعته التوسعية، التي تتخذ التقسيم ونشر الفوضى والخراب نهجا لها”. وتابع “بالإضافة إلى بناء المساجد والمؤسسات الثقافية والمنظمات الإغاثية في خارج تركيا، والتي ليس لها هدف حقيقي إلا التوغل داخل الدول، لتكوين جماعات ضغط أو لتيسير طريق التحكم في السلطة، للجماعات التي يحركها أردوغان في الخارج، خلق أردوغان كيانا جديدا هو وقف معارف”.

ويرى الكاتب الموريتاني عبدالرحمن المقاري إن “وقف المعارف تشكيل استخباراتي أسسته الحكومة التركية لمهمة أمنية محددة”.

وما هذا إلا غيض من فيض الاختراق التركي للدول والمجتمعات تحت يافطة العمل الإنساني التي لا تمثل بالنسبة إلى نظام أردوغان سوى أداة للانغماس العقائدي بدافع إحياء النزعة الإمبراطورية العثمانية بذات التوجه الإخواني.