البحر الأحمر ساحة حرب..

كيف أصبح العرب أمام تحدي تأمين أهم شرايين الاقتصاد الدولي؟

محاولة اختراق أمن البحر الأحمر

د. حسن مصدق

تتنافس في السنوات الأخيرة القوى الإقليمية والدولية بأجندات وأهداف مختلفة لفرض نفوذها ولوضع موطىء قدم لها في البحر الأحمر الذي يعدّ تاريخيّا وجغرافيّا أحد أهم شرايين الاقتصاد الدولي على خارطة المصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى في العالم، وتتزاحم واشنطن وبكين وطهران وأنقرة لفرض أجنداتها قصد تشكيل مستقبل المنطقة، هذه المعطيات المتسارعة، تضع الدول العربية بوصفها صاحبة السواحل الأطول شرق البحر الأحمر وغربه أمام تحدي وحتمية وضع رؤية مشتركة تضبط التحديات الأمنية المهددة لأمنها القومي برؤية فاعلة وطويلة المدى للحفاظ على حقها التاريخي والجغرافي في الإشراف على أمن البحر الأحمر.

تنامت أهمية البحر الأحمر المعروف تاريخيّا ببحر “القلزم” كبوابة مرور إستراتيجية من البحر المتوسط نحو المحيطات المفتوحة، وأصبح رأسمالا جغرافيا مشتركا للدول المتشاطئة حول حوض نهر النيل والقرن الأفريقي وشرق أفريقيا.

وبوصفه أيضا أحد أهم الشرايين الاقتصادية على خارطة المصالح الإستراتيجية للقوى الكبرى في العالم. والحال أنه أمام حضور هذا العدد الهائل من القواعد الأجنبية التي جعلت منه عبارة عن أكبر ثكنة عسكرية للقواعد العسكرية لست دول، أقدمها لفرنسا وأحدثها للصين، والمعززة بتواجد عسكري لافت وحشد هائل من حركة الأساطيل المدنية والحربية متعددة الجنسيات.

كل من هذه الدول، تحمل مقاربات وإستراتيجيات مختلفة ومتضادة ومتنافسة على أمن البحر الأحمر الذي تلاقت فيه بيئة تفاعل وتجاذب لصراعات إقليمية ودولية مثل الصراع العربي-الإسرائيلي، والإيراني-الخليجي، والإثيوبي-الإريتري، والإريتري-اليمني إلى جانب تحديات التدخل التركي والإسرائيلي، فضلا عن حدّة تنافس الدول الكبرى.

تميل تضاريس البحر الأحمر بانحناء نحو الغرب، ويبلغ طوله من الجنوب إلى الشمال حوالي 1900 كم، وتشمل مساحته حوالي 450.000 ألف كم مربع. وتتجلّى الأهمية الاقتصادية للبحر الأحمر المتداخلة في تأمين طرق التجارة الدولية. وبوصفه أحد ممرّات النقل الأساسية لتحقيق أمن الطاقة عبر باب المندب وخليج عدن. أما الأهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر فتتجلّى في عدد كبير من الجزر ذات الأهمية الأمنية والعسكرية البالغة، أهمها: جزيرتا شدوان والأخوين اللتان تتحكمان بالملاحة بين البحر المتوسط والبحر الأحمر، ثم جزيرة بريم التي تربط بين البحر الأحمر وبحر العرب، والواقعة في فم مضيق باب المندب، ثم جزيرة دميرة التي تطل على باب المندب قرب مثلث الحدود بين الدول الثلاث (إريتريا، جيبوتي، إثيوبيا).

الاستراتيجيات الدولية
يقتصر التواجد الفعلي الأميركي في قاعدة ليمونيه البحرية في جيبوتي التي يتواجد بها 4000 عسكري أميركي للأسطول البحري الخامس الأميركي في منطقة “الجفير” شرق العاصمة المنامة، غير أن الولايات المتحدة تدرك بأنه دون تحقيق تقدّم على مسار التسوية الإسرائيلية-الفلسطينية، لا تستطيع الدول العربية التآلف مع فرض وجود إسرائيل كقوة إقليمية في البحر الأحمر ما دامت تسعى عمليا إلى عدم مراعاة حق العرب التاريخي والجغرافي في الإشراف على أمنه.

وأحدث التحوّل الصيني في المقابل، تغيّرا في موازين القوى داخل القارة الآسيوية ببروزه كقوة مركزية في بحر الصين الجنوبي.

وعملت بكين على توسيع نفوذها الاقتصادي في أفريقيا، والبحث عن تأمين إمداداتها النفطية من أفريقيا ودول الخليج عبر بوابتها الشرقية، خاصة عبر محاولة ربط الصين بأكثر من 70 دولة عبر مشروع طريق الحرير البحري، وهي مكملة لمشروع يهدف إلى إنشاء حزام برّي من سكك الحديد والطرق عبر آسيا الوسطى وروسيا.

البحر الأحمر بوابة عبور من البحر المتوسط نحو المحيطات المفتوحة، وأصبح رأسمالا جغرافيا للدول المتشاطئة بحوض نهر النيل والقرن الأفريقي

ومن ثم أصبحت جيبوتي حجر الزاوية في مشروع “الحزام والطريق” عبر إنشاء قاعدة عسكرية بحرية ضخمة تسع 10.000 جندي، مقابل إيجار سنوي يبلغ 20 مليون دولار، وهي أول قواعد البحرية الصينية وراء البحار وبُنيت بتكلفة 590 مليون دولار، وتقع بالقرب من ميناء “دوراليه” الذي تُشغله الصين وعلى بعد 12 كم من قاعدة ليمونيه الأميركية، وعلى مقربة من عدة قواعد عسكرية أجنبية أخرى.

وأعلنت الصين بأن المنشأة ستستخدم بصفة رئيسية لدعم الإمدادات العسكرية للقوات الصينية في خليج عدن، وحفظ السلام والعمليات الإنسانية في أفريقيا، ولمنع القرصنة في أعالي البحار.

لكن بكين في نفس الوقت قامت بتدريبات برية وبحرية باستعمال الذخيرة الحربية، وهو الأمر الذي يتجاوز مهمة حفظ السلام للجمع بين أغراض تجارية وعسكرية بحتة كما تشير إلى ذلك “الأوراق البيضاء” الذي أصدرها الحزب الشيوعي، وجعل منها مقدمة لامتلاك مبادرات إستراتيجية في الصراع العسكري، مما حذا باليابان والهند على توقيع اتفاقية دفاع في 2018.

واتفقت البابان والهند على إمكانية تبادل قواعدهما العسكرية، ما يتيح للهند بموجبه استخدام قاعدة اليابان في جيبوتي. لكن الحضور الصيني لم يقدّم لحد الآن أيّ تصوّر أمني إستراتيجي متكامل لأمن البحر الأحمر، وهو ما حذا بواشنطن على اعتباره يخفي حضورا مواربا لروسيا، همه الأساسي عدم قدرة الولايات المتحدة في يوم من الأيام استخدامه كمسار جديد لنقل الغاز وكبديل لطرق الغاز الروسية.

تكتيكات إيرانية إسرائيلية

يقوم الطرح الإيراني على محاولة اختراق أمن البحر الأحمر، والتضييق على دوله العربية عبر استكمال الدوائر المفرغة من “الهلال الشيعي” في الشمال، والتي لا يكتمل إساره إلا من خلال تغلغل إيران وتمددها على الجانب الجنوبي من هذا الهلال، خاصة في دول منطقة القرن الأفريقي ومضيق باب المندب على وجه الخصوص. وهو بالمحصلة محاولة الالتفاف على العمق الجيوسياسي العربي.

وحرصت إيران أولا، على تواجدها في البحر الأحمر عبر “جماعة الحوثيين” وحركة أنصار الله التابعة لها في اليمن، ثم تابعت عملية الاختراق من خلال محاولات التغلغل في بلدان القرن الأفريقي في كل من إريتريا وإثيوبيا وجيبوتي والصومال.

ولعل أبرز دليل على ذلك هو اختيارها للعاصمة الإريترية أسمرة كمحطة مبكرة لعقد شراكات توجت بأربع اتفاقيات اقتصادية في مجال التعدين والطاقة الزراعية والقطاع الصناعي منذ عام 2008، مما سهل الحصول على تسهيلات من إريتريا للبحرية الإيرانية في خليج عدن بالقرب من البحر الأحمر، وخاصة لما تم منحها حق تطوير وصيانة عمل
شركة تكرير النفط الإريترية “مصفاة عصب”.

ثم تطور الأمر لاحقا إلى إنشاء قاعدة عسكرية في ميناء عصب الإريتري لإسناد بوارجها الحربية الست المستقرة في المياه الصومالية تحت دعوى حماية السفن التجارية الإيرانية، لكنها قامت بتدريب عناصر حوثية بمعسكر “دنقللو” الإريتري على يد عناصر من فيلق القدس.

ثم حاولت طهران تطوير علاقاتها بقيامها بعدة أنشطة ثقافية مدروسة تقوم على نشر الفكر الشيعي، مستغلة بذلك حالة الفجوة بين إريتريا وإسرائيل المتهمة آنذاك بمساندة إثيوبيا والتحيز لها في صراعهما الدائر، ثم أعقبتها محاولة مد الجسور مع “الحزب الإسلامي الإريتري للعدالة والتنمية”، وهو الذراع السياسية للإخوان المسلمين في إريتريا في محاولة للضغط على مصر.

أما الإستراتيجية الإسرائيلية فتقوم على تطوير سلاحها البحري بالتركيز على امتلاك غواصات نووية من نوع متقدم لضمان التفوّق العسكري، كما تطالب بتدويل قضية أمن البحر الأحمر، والحيلولة دون أن يقع أمنه على عاتق الدول العربية حصرا، بحيث تخشى أن يقوم أي حصار بحري على ميناء “أم الرشراش”، إيلات حاليا.


ومن أجل كل هذا تنادي إسرائيل بتدويل باب المندب كممر ملاحة دولي للملاحة لتعزيز مكانة ثالث موانئها الذي تحول إلى منطقة تجارية مفتوحة منذ 1985، وتقوم سياستها البحرية على إيجاد عمق إستراتيجي لها في بلدان القرن الأفريقي بتعزيز تعاونها مع إثيوبيا وجنوب السودان وإريتريا، وذلك بعد الفشل الواضح في مشروع “ناقل البحرين” بين الأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، بحيث يتم ربط البحر الأحمر بالبحر الميت بواسطة قناة لرفع منسوبه الذي يشهد تراجعاً ملحوظاً.

لكن الجانب الأردني فوجئ بطلب إسرائيل مد قناة بين البحرين المتوسط والميت، بدلا من الطرح الأردني بمدّ القناة بين البحرين الأحمر والميت، ويقتصر التعاون الحالي مع الدول المشاطرة على انخراطها في “مركز بحوث البحر الأحمر العابر للحدود” لحماية الشُعب المرجانية بإدارة المعهد الفيدرالي السويسري متعدد التقنيات في لوزان نظرا إلى الاختلافات السياسية.

الرؤى العربية

يعدّ “ميثاق جدة” في عام 1965 بين المملكة العربية السعودية ومصر واليمن أقدم دعوة إلى إقامة “نظام أمن مشترك” في البحر الأحمر، ثم صدر بعده قرار يدعو الأمانة العامة في الجامعة العربية إلى ترتيب انعقاد مؤتمر لأقطار البحر الأحمر العربية في سبتمبر 1973.

غير أن هذه الدعوات لم يتم تفعيلها ودخلت كل هذه المقترحات طيّ النسيان نظرا إلى عدم الاهتمام بالقرن الأفريقي. لكن التطوّرات الأخيرة وبحكم تزايد حدة التهديدات الإقليمية والدولية، والتي يمكن أن تحدث بالغ الضرر بمستقبلها، تجدد الاهتمام بأمن البحر الأحمر، ووفر فرصة للتنسيق والدخول في أنشطة تدريب بحرية من خلال الموج الأحمر (1) والموج الأحمر (2) للقيام بمناورات بحرية شاركت فيها السعودية ومصر والسودان والأردن وجيبوتي واليمن، بالإضافة إلى الصومال لرفع قدراتها القتالية وجاهزيتها.

ويمكن القول إن الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر استطاعت إقامة علاقات أكثر من ممتازة مع إريتريا، وتحجيم التهديد الإيراني بالتواجد في كل من جيبوتي وإريتريا، والتركي في الصومال، ثم بالتحرك على أكثر من محور في القرن الأفريقي عبر الوساطة الناجحة بين إثيوبيا وإريتريا، ودعم السودان الجديد، وقطع الطريق على إيران في اليمن بإحكام السيطرة على باب المندب وخليج عدن.

وتكلل كل ذلك بالوقوف ضد كل محاولات تحويل الجوار الجغرافي إلى مناطق دعم لوجستي للتطرف والإرهاب والتمدّد الإيراني والتركي.

لكن الدول العربية تحتاج إلى مقاربة شاملة تبدأ أولها بتكثيف حضورها الاقتصادي والثقافي في كل من جيبوتي وإريتريا والصومال التي تشهد توطينا مكثّفا لقواعد أجنبية على أراضيهما، وهو ما يستدعي رفع سقف الارتباط الاقتصادي والتجاري والثقافي بالدول العربية بغاية تقديم رؤية إستراتيجية بعيدة المدى تقوم على تطوير سياسة توافقية محلية، وتعاونية في بعدها الأمني مع الدول الكبرى للحفاظ على دورها التاريخي وإيجاد رؤية موحدة بما يؤدّي لصيانة الاستقرار.