أول رواية تخرج من معطف الانتفاضة..

"الهبوط من المطعم التركي" رواية الانتفاضة العراقية

بناية ليس سهلا على من يصعدها النزول منها

وارد بدر السالم

تبقى مسألة التسرع في كتابة أدب بفنية عالية حول أحداث كبرى في الواقع مثيرة للجدل، فبعض الكتّاب نجحوا في ذلك بشكل لافت لكن الأغلبية فشلت في مجاراة الواقع وتحويله إلى خيال بفنية عالية.

تتفاعل الثقافة العراقية بشكل شامل مع حراك الشباب في انتفاضته التي مرّ عليها الآن أكثر من شهرين؛ فإذا كان الشعر أسرع استجابة من السرد تعبيريّا، فإن الأخير يغامر في هذه الموقعة الواسعة ويحاول أن يكون قريباً من أنفاس الحدث العراقي المهم، ليكوّن أحد ملامح التواصل الثقافي والأدبي مع هذه الشريحة المنتفضة.

ومع حسن النية التي نلمسها عند بعض الكتّاب بأن يقدّموا سرديات تحاكي واقع الانتفاضة، وتستلهم منها شخصيات روائية لبناء حدث جانبي متداخل مع حدث أكبر، إلا أنّ الشطر الفني والجمالي سيحول دائماً من دون أن يقدّم السرد حبكة سردية ملائمة ومنفصلة عن الجسد الأساسي لهذا الحراك الشامل.


متابعة الواقع
مع أن الزمن المقبل "منطقيا" هو أطول من الزمن الذي مضى والذي سيمضي، لذا سيلزمنا أن نبلور هيكلية مناسبة لبناء روائي يمكن أن يكون وجهاً آخر من وجوه التعبير الأدبي المحاذي للانتفاضة، لكن الزمن السردي قد لا يتوافق مع سرعة الوقائع، وبالتالي ستكون ثمة فجوة ملحوظة بين زمن التلقّي وزمن الكتابة.

وهذا ما حصل بشكل أولي مع رواية جديدة للكاتب مشتاق عبدالهادي حملت عنوان “الهبوط من المطعم التركي” كأول رواية تخرج من معطف الانتفاضة التي تنادي بزوال سلطة الفساد المعممة وترتيب البيت السياسي بلا محاصصات طائفية. وهي تحاول أن توثّق جانباً من جوانب الانتفاضة في حِراكها اليومي المستمر، متمثلّا بالمطعم التركي كأيقونة من أيقونات ساحة التحرير البارزة التي عرفها العالم، والتي أطلق عليها – رمزياً – اسم “جبل أُحُد” باستدعاء التاريخ الإسلامي البعيد في موقعة قتالية معروفة، لتكون خاصرة للثورة تمنع وصول القناصين وتشرف على المنطقة الخضراء الحكومية.

تنطلق الرواية من بنية اجتماعية طفولية بخيال الراوي وهو يستدعي أمه المتوفاة، ليراها بين النساء في ساحة التحرير ويحاورها في خيال السرد، ويقدّم لها صورة مصغّرة عن الحياة الجديدة التي يقودها شبّان صغار، خرجوا إلى الوعي مبكراً من رحم سلطة فاسدة.

ومع أن هذا الخيال لم يسعف الرواية كثيراً إلا أنه حاول أن يوازن بين زمنين في إيلاء البنية الاجتماعية أهمية شخصية تنطلق إلى العام عبر هذه الأمّ الغائبة، في آلية تقريرية إلى حدّ كبير وجدناها غير فاعلة كثيرا، سوى أنها تريد أن تصل إلى صورة ماضية وتربطها بصورة حاضرة. غير أن الصورتين لا تتقابلان كثيرا بسبب البُعد الزمني، ومتغيرات الواقع الاجتماعي والسياسي وما حمله من متناقضات كبيرة في بنيته الداخلية، وصولاً إلى الحالة المتداخلة في اشتباكاتها النفسية والعضوية حتى قيام الانتفاضة بشكلها الذي وقف عليه هذا النص القصير في محاولة التماهي معه، عبر لقطة واحدة في قصة حب بين فتاة وفتى في مبنى المطعم التركي، هبطا من الطابق الأعلى إلى الطابق الأسفل ويواصلا المشاهَدَة من دون فعل يُذكر.

خروج عن الرواية
من الشاهدة المعمارية للمطعم التركي تطل “الرواية” على حركة متواضعة لتشكّل بناءها البسيط محاوِلة أن تكون رواية بمكونات سردية: زمن وحوار وشخصيات ومكان. غير أنها لم تتماسك في هذه الدورة الفنية المطلوبة لإنشاء علاقات صورية وجمالية، فإذا كان الزمن هو الحاضر، والمكان هو المطعم التركي كشاخصة روائية، فإن الحوار بإنشائياته لم يتوصل إلى رسم صورة معقولة عن الشخصيات القليلة التي وردت في هذا النص القصير، سوى من شعارات وحوارات يومية غير وافية لرسم الملامح الشخصية أو حتى العامة منها، كدليل يسمح لنمو الشخصيات تلقائياً وهي تتحصن بالمطعم التركي أو ساحة التحرير.

وحتى علاقة الحب التي ربطت بين “أحلام” والراوي ستكون علاقة غير متنامية، أرادها الكاتب أن تكون شاهدة في زمن الانتفاضة كزمن استثنائي غير اعتيادي، لكنها بقيت في حدود الرومانسية العادية التي تُكتب عادة في هكذا لقاءات سردية مفتوحة.


أعتقد بل وأجزم أن الكاتب الذي لم تسعفه لغة الواقع بمحصلته الأخيرة، فإنه التجأ إلى تغريب النص وإلى خيال آخر بطريقة استحضار الأرواح عبر الباراسيكولوجي، للاستدلال على أماكن المخطوفين أو قوات الميليشيات وتجمعاتها، وهي حجة غير كافية لتهريب النص من واقع إلى خيال علمي غير موفق كثيرا. وربما وراء ذلك هو العجز السردي في خيال الكتابة أمام واقع حي زاخر بالتجربة اليومية الفريدة.

وإذا كانت هذه إشكالية سردية أضرّت بالنص ـ فإن هناك إشكاليات شكلية أيضا، وأولها أن “الهبوط من المطعم التركي” ليست رواية بحسب التصنيف النقدي، ولا هي نوفلا – رواية قصيرة، ولا هي قصة طويلة. فبحساب عدد الصفحات (76) بطريقة الطباعة التي فارقت بين الأسطر بمساحة أكثر من سنتمترين بين كل سطر وآخر. وبواقع 11 أو 12 سطراً في كل صفحة سيتقلص هذا النص كثيراً ويصبح قصة قصيرة لا أكثر ولا أقل.

يلي ذلك زاوية القص المحصورة في مساحة نفسية واحدة لم يتمكن الكاتب من قراءتها بشكل جيد، ما أجبره أن يخلق معادلاً خياليا آخر هو “استحضار الأرواح” الذي لم يفلح هو أيضا بأن يخلق توازناً سردياً مقبولاً. ناهيك عن بعض الأخطاء الجوهرية في السياق السردي بما يخص برج المطعم التركي الذي ورد بأنه يتكون من 16 طابقا ولأكثر من مرة. في حين أنه يتكون من 14 طابقا.

ونذكر أن مشتاق عبدالهادي كاتب قصة قصيرة. صدرت له أكثر من مجموعة قصصية هي “ولادات” (1999) و“حربيات” (2011) و“سيرة الـ… هذا” (2014).