بيركهارت..

وصف دقيق للحياة في الحجاز وجزيرة العرب

حجاج في ميناء جدة، عام 1932

حكيم عنكر

بين عامي 1814 - 1815، سيقوم الرحالة السويسري جون لويس بيركهارت، برحلة كبيرة وخطرة إلى منطقة شبه الجزيرة العربية، التي كانت في ذلك الوقت تحت الحكم العثماني، بينما كانت الحركة الوهابية تقوى شوكتها وتتسع، قادمة من تخوم نجد، كي تبسط سلطتها على المنطقة.

وفي كتابه "رحلات إلى شبه الجزيرة العربية"، يعثر القارئ على المخاوف المبكرة من هذه القوة القادمة، والتي كان التجار الأوروبيون يتوجسون منها بشكل خاص، خاصة أنها كانت تقوم على الدعوة إلى طرد الأتراك، وتصحيح الأوضاع الدينية والاجتماعية.

وقد صدقت هذه المخاوف، ذلك أن الرحالة السويسري بيركهارت، وهو يقوم برحلته بين عامي 1814 و1815، قد دوّن في أكثر من مكان، من رحلته أخبارا حول صنوج الحرب التي كانت تدق والمدافع التي تحشد للحرب الفاصلة بين الوهابيين والقوات العثمانية بقيادة إبراهيم باشا، والتي وقعت في 1818، وأدت إلى إجهاض قيام الدولة السعودية الأولى.

"
يعثر القارئ على المخاوف المبكرة من هذه القوة القادمة

"
من جهة أخرى، وخارج هذه التفاصيل، فإن الكتاب في صلبه، هو وثيقة تاريخية مهمة، ومسح اجتماعي وجغرافي، وقراءة استشرافية لما سيقع مستقبلا. إنه عمل ذو طبيعة مهنية عالية، أنجز بكثير من الحرص والتدقيق، وإن تخللته الانطباعات الكثيرة، عن العرب، لكنه إجمالا، يعتبر مصدرا من المصادر القوية لمعرفة شبه الجزيرة العربية، بالنسبة لرحالة أوروبي، حتى وإن كانت أهميته بالنسبة للقارئ العربي لا تضاهي ما كتبه الرحالة العرب وهم في طريقهم إلى الحج.

تنكر الرحالة السويسري بيركهارت بصفة تاجر مسلم عربي وانتحل اسم إبراهيم بن عبد الله، حتى يتمكن من الدخول إلى الأماكن المقدسة، والتي تعتبر محرمة على غير المسلم. ومن هنا تأتي خطورة هذه الرحلة على حياة السويسري، لأنه لو شُك في أمره أو اكتُشف سره، لما وصلتنا هذه الرحلة اليوم، ولكان نسيا منسيا.

لكن يبدو أن رحلاته السابقة في بلاد النوبة، ومصر، قد أفادته كثيرا، وجعلته يتقن الحديث باللهجات العربية السائدة، مما صرف كل الشكوك حول هويته الحقيقية.

الرحلة تغطي مساحة جغرافية كبيرة، لكن توخيا للدقة، جرى الاقتصار على الجزء الأول منها، والمتعلق تحديدا بوصول الرحالة إلى مدينة جدة، هذه المدينة التجارية التي كانت مزدهرة في تلك الفترة، والتي تعتبر صلة وصل بين الجزيرة العربية والهند وشرق آسيا ومصر واليمن والساحل الإفريقي عن طريق البحر.

وهي مدينة للتجارة وتشكل مقدمة مكان رسو للبواخر والسفن القادمة بالحجيج من هذه المناطق، وبالتالي، فهي تضم أخلاطا من البشر، من عرب وأجانب وأوروبيين، دفعهم السعي للربح، إلى الإبحار نحو هذه المنطقة بسلعهم، بحثا عن أسواق جديدة، حتى مع التحكم الشديد للسلطات العثمانية، التي كانت طرفا أيضا في التجارة وفي كل شيء.

يكشف بيركهارت عن صورة متعددة الأوجه لمدينة جدة، يقول "لقد أحاط بوصولي إلى الحجاز، بعض الظروف غير السارة، فعند دخولي إلى مدينة جدة في صباح الخامس عشر من شهر تموز/ يوليو سنة 1814، قصدت منزل رجل أحمل له معي خطاب ائتمان نقدي، سلمته عند مغادرتي القاهرة في كانون الثاني/ يناير سنة 1814، ولم أكن حينها قد عزمت أمري تماما على تمديد فترة أسفاري في شبه الجزيرة العربية. وكان استقبال الرجل لي فاترا جدا، إذ إن الخطاب كان من القدم بمكان حتى يحظى بالاهتمام.

ومما شك فيه أن مظهري المهمل الرث كان ليحمل أي شخص على الحذر والاحتراس من التورط مع مراسليه، وذلك بإعطائي مبلغا كبيرا من المال على حسابهم.

"
يكشف بيركهارت عن صورة متعددة الأوجه لمدينة جدة

"

فضلا عن ذلك فإن السندات وخطابات الائتمان النقدي غالبا ما تكون موضع استخفاف في التعامل المتبادل بين التجار الشرقيين. وهكذا فقد جوبهت برفض تام، غير أنه رفض مصحوب بعرض، وهو إقامتي في منزل الرجل ذاك. وقد قبلت العرض لليومين الأولين ظانا بأني قد أنجح، عبر معرفة شخصية أكثر حميمية، في إقناعه، بأني لست أحد المغامرين أو الدجالين".

كانت هذه المحطة الصعبة الأولى التي ستواجه الرحالة، لكنه سيتغلب عليها بتأمين نفسه من جهات أخرى، ورغم ذلك فقد ترك الأمر أثرا عميقا على نفسه، يقول "لقد أصبح بحوزتي الآن مبلغ من المال يكفي لإزالة كل خوف من الفقر وما يجره من معاناة قبل وصول مؤونة جديدة من مصر، مهما تكن نتيجة الطلب الذي أرسلته إلى الباشا.

لكن ما إن رحل يحيى أفندي حتى تسلمت جوابا إيجابيا نوعا ما على الرسالة التي بعثتها إلى الطائف... من ناحية أخرى فقد سمع الباشا بوجودي في جدة عبر شخص آخر، كنت قد رأيته عندما وصل إلى الطائف، وحين سمع الباشا أنني أتنقل بثياب رثة، بعث فورا برسول مع جملين إلى جابي الضرائب في جدة، سيد علي أوجقلي الذي كان يدير شخصيا الأعمال كلها في المدينة، يأمره بأن يزودني بثياب جديدة وحقيبة تحتوي على خمسمائة درهم مالا للسفر، كل هذا مصحوبا بطلب يدعوني للذهاب فورا إلى الطائف مع الرسول نفسه الذي أحضر الرسالة.

وقد فرض على سيد علي أوجقلي، في ملحق للرسالة، بأمر الرسول أن يأخذني إلى الطائف من الطريق العلوية التي تترك مكة إلى الجنوب، حيث أن الطريق السفلية المعتادة تمر في وسط المدينة تلك".

يكتب "يجدر بي إضافة بعض الملاحظات عن مدينة جدة وسكانها. فقد شيدت المدينة على أرض مرتفعة قليلا تصل إلى الجزء الأدنى منها. وتمتد على طول الشاطئ بما يناهز الألف والخمسمائة خطوة، بينما لا يتعدى عرضها نصف المساحة، في أعرض الأماكن.

وقد أحاطها من جهة اليابسة جدار لا بأس بحالته، ولكنه غير متين، ولم يمض على بنائه سوى بضع سنوات، وقد بناه السكان أنفسهم عبر اتحاد جهودهم، لاعتقادهم بأنهم لا يملكون حماية من الوهابيين بوجود الحائط القديم، وكان قد دمر تقريبا بعد أن شيده قانصوه الغوري، سلطان مصر سنة 917 ه.

أما بنية الحائط الحالية، فإنها تعتبر حاجزا كافيا للعرب الذين لا يملكون أي مدفعية، وقد تم تدعيم الحائط عند كل أربعين أو خمسين خطوة بواسطة أبراج مراقبة مجهزة ببعض البندقيات الصدئة، وقد حفر خندق ضيق على طول امتداده، لدعم وزيادة وسائل الدفاع، وهكذا، تتمتع جدة بشهرة في شبه الجزيرة العربية بأنها قلعة حصينة منيعة".


تحصين جدة

يمضي بيركهارت، في وصف التحصينات التي تتمتع بها مدينة جدة، وحتى وإن كانت بسيطة، فإن أهلها يعدونها من أشد المدن تحصينا في منطقة البحر الأحمر، وربما هذه الشهرة هي ما وفر لها الحماية، وليس شيئا آخر.

على مستوى مينائها، يرى الرحالة السويسري، أنه يتم "الوصول إلى المدينة عبر رصيفين، عليهما تنزل قوارب صغيرة حمولة السفن الكبيرة، التي يحتم عليها أن ترسو في موضع قرب الشاطئ يبعد نحو ميلين، ولا تدنو قريبا من الشاطئ إلا المراكب المسماة "سعي"، وهي المراكب الأصغر حجما التي تبحر في البحر الأحمر.

وتقفل أرصفة الميناء كل مساء عند الغروب، فتمنع بالتالي أي اتصالات ليلية بين المدينة والسفن بمجملها. إن لمدينة جدة، من جهة البر، بوابتين وهما باب مكة في الجانب الشرقي وباب "المدينة" في الجانب الشمالي، وقد أغلقت مؤخرا بوابة في الحائط الجنوبي، كما أن المنطقة المحاطة بالحائط الجديد، ويبلغ محيطها نحو ثلاثة آلاف خطوة، لا تكثر فيها الأبنية".


طبوغرافية المدينة

يصف بيركهارت، مدينة جدة، وصفا دقيقا، ويرسم طبوغرافيتها، ويفعل ذلك ببراعة مهندس عمران، يكتب "بعد عبور تلك المساحة قدوما من البوابة، تدخل ضواحي المدينة وهي لا تشمل سوى أكواخ مصنوعة من القصب والقش، فضلا عن الأجمة، وتحيط الضواحي بالمدينة الداخلية المؤلفة من أبنية حجرية.

"
مزيج الأعراق في جدة هو نتيجة الحج الذي يزور خلاله التجار منطقة الحجاز

"
ويسكن البدو غالبا في تلك الأكواخ أو الفلاحون الفقراء والعمال الذين يعيشون هنا على الطريقة البدوية. كما نجد أحياء مماثلة لهذا النمط من الناس في كل مدينة في شبه الجزيرة العربية.

لقد قسمت مدينة جدة من الداخل إلى مناطق مختلفة، فأهل سواكن الذين يرتادون هذا المكان يقطنون قرب باب المدينة، وتدعى أحياؤهم حارة السواكني، وهم يعيشون هنا في بضعة منازل فقيرة لكنهم غالبا ما يسكنون في أكواخ كثيرا ما تلوذ بها الطبقة الدنيا من الناس. كما تقطن فتيات هوى وأولئك اللاتي يبعن الشراب المسكر ويدعى "بوسة".

أما أحياء الناس من ذوي الشأن فتقع قرب البحر حيث يمتد شارع طويل بموازاة الشاطئ، وقد غص بالدكاكين واتسع لعدد غير قليل من الخانات التي يرتادها التجار باستمرار بصورة خاصة.

ومدينة جدة متقنة البناء، بل إنها تفوق في ذلك أي مدينة تركية بالحجم نفسه قد زرتها إلى الآن. كما أن طرقاتها فسيحة ومهواة مع أنها غير معبدة، والمنازل عالية، وقد بنيت بأكملها من الحجر الذي أحضر من شاطئ البحر، وهو من حجر المرجان والأحجار البحرية الأخرى".


البنية الديمغرافية

ولا يفوت بيركهارت أن يولي اهتماما خاصا للمكون البشري والاجتماعي لهذه المدينة المهمة جدا، والتي تعتبر منطلقا للحجيج نحو الأماكن المقدسة، كما أن مسيحيين ويهودا سيقيمون في المدينة، لكن خروج اليهود عن التقاليد المرعية سيدفع بأشراف جدة إلى طردهم منها، ليتوجه أغلبهم إلى اليمن.

يكتب "إن سكان جدة هم في الأغلبية الساحقة تقريبا من الغرباء، كسكان مكة والمدينة، إذ إن المتحدرين من العرب القدماء الذين سكنوا المدينة في وقت من الأوقات قد هلكوا على أيدي الحكام، أو هاجروا إلى بلدان أخرى. فسكان البلاد الأصليون هم فقط بعض عائلات الأشراف وهم متعلمون وملتحقون بالمساجد أو بالمحاكم.

وكل من تبقى من سكان جدة هم من الأجانب أو من نسلهم. وإن من أتى منهم من حضرموت واليمن هم الأكثر عددا، فهناك جاليات من كل مدينة ومقاطعة في تلك البلدان التي استقرت في جدة، وهم يحافظون على إبقاء تجارة ناشطة مع بلادهم الأصلية.

كما أن هناك ما يزيد على مائة عائلة هندية، خاصة من سورات ومن بومباي قد استقروا هنا، فضلا عن بعض الملاويين، وهم سكان شبه جزيرة الملايو، كذلك سكان مسقط. والذين استقروا هنا من مصر وسورية والبرابرة وتركيا الأوروبية وبلاد الأناضول، يمكن تعرفهم من خلال ملامح سلالاتهم التي امتزجت كلها في جماعة عامة واحدة، وتحاكي في عيشها وأزيائها الطريقة العربية ذاتها.

ويبقى الهنود وحدهم عرقا مميزا في العادات والزي والوظائف. وليس هناك مسيحيون يقيمون في جدة، باستثناء بعض اليونانيين من جزر الأرخبيل اليوناني الذين يأتون ببضائع إلى السوق من مصر. وفي زمن الأشراف كانوا يتعرضون أكثر للمضايقات والتحرش، ويكرهون على ارتداء ثوب خاص ويمنعون من الاقتراب من بوابة مكة.

لكن وبعد أن أصبح الأتراك أسياد الحجاز وحكامه، ألغوا هذه القيود، ويتمتع المسيحي الآن بحرية كاملة هنا، وإذا توفي فهو لا يدفن على الشاطئ، لكنه يدفن في واحدة من الجزر الصغيرة في خليج جدة.

وكان اليهود في السابق هم سماسرة هذه المدينة، إلا أنهم أخرجوا منها منذ ثلاثين أو أربعين عاما على يدي "سرور"، سلف "غالب"، إذ إن بعضهم تسبب بالإزعاج نتيجة سلوكهم غير السوي، وقد انكفأوا كلهم إلى اليمن أو إلى صنعاء. ويزور بعض البانيانيين الهنود جدة في سفن هندية لكنهم يعودون معها، ولم يستقر أحد منهم هنا.

إن مزيج الأعراق في جدة هو نتيجة الحج الذي يزور خلاله التجار منطقة الحجاز ومعهم كميات كبيرة من البضائع، ومنهم من لا يتمكن من تصفية حساباته على الفور فينتظر حتى السنة التالية. وخلال هذه الفترة يتعايش هؤلاء التجار، حسب تقاليد البلاد، مع بعض الجاريات الحبشيات، ثم لا يلبثون أن يتزوجوا منهن. وبعد أن يجدوا أنفسهم في النهاية مع عائلات، يستحثهم ذلك على الاستقرار في البلاد. وهكذا فمع كل موسم حج تضاف أعداد جديدة للسكان، ليس في جدة فحسب، بل في مكة كذلك".