ترجمة..

رد فعل الأسواق المالية على التصعيد العسكري بين أمريكا وإيران؟

أمريكا وإيران

رؤية الإخبارية
لبرهة وجيزة يوم الثلاثاء الماضي، بدا وكأن الولايات المتحدة وإيران ربما تذهبان للحرب. منذ بضعة أيام، قتلت غارة جوية أمريكية الجنرال الإيراني قاسم سليماني. ثم في يوم الثلاثاء، ردّت إيران بشنّ هجمات صاروخية على قواعد عراقية تضمّ جنودًا أمريكيين.
جاء ردّ فعل الأسواق المالية فوريًّا على ما حدث: هبطت أسواق الأسهم، وارتفعت أسعار الذهب والنفط، وانخفضت العوائد على سندات الخزانة الأمريكية.
بحلول صباح يوم الأربعاء، هدأت الأمور، بعد أن أشارت تصريحات الجانبين إلى أنّ أيًّا منهما لا يرغب في تصعيد الأمور. لكن كيف يمكن تفسير طريقة رد فعل الأسواق المالية على هذا النوع من الأزمات؟ كلنا لدينا فهم ضبابي بأن "اضطرابات السوق" هي رد فعل طبيعي على أشياء مثل هجمات إرهابية ومواجهات دولية. لكن ما الذي يحدث حقيقةً على المستوى التقني؟

العنصر المركزي هنا هو ما يسمى "الهروب للجودة" أو "الهروب للأمان". يبيع المستثمرون، بصورة أساسية، الأصول الأكثر خطورة - والتي عادة تعني الأسهم - وضخّ أموالهم في أصول أكثر أمانًا، والتي تعني عادة سندات الخزانة الأمريكية.
لنتحدث بصراحة أكثر، فالطلب على الأسهم هو وسيلة للتعبير عن اعتقاد المستثمرين بمدى ربحية شركة ما. ولو ظنّ مشترو الأسهم أن العمل التجاري قد يسوء، فهذا سبب يدفعهم للبيع: لن تكون مدفوعات أرباحك أقل في المستقبل فقط، لكن ما قد يدفعه أشخاص آخرون لك لشراء أسهمك سينخفض أيضًا، وربما أقل مما دفعته فيها، وحينها تكون خسرت أموالاً.
عندما يقع حدث مثل الردود الانتقامية بين إيران والولايات المتحدة، يقلق المشاركون في الأسواق المالية من أنهم قد يدخلون أزمة أكبر توقف النشاط الاقتصادي وتضر الأعمال والأرباح بوجه عام. لهذا السبب، على سبيل المثال، انخفض مؤشر "ستاندارد آند بورز 500" بنسبة 1,7 بالمائة بعد أخبار الضربات، قبل أن يتعافى. لم يكن ذلك فقدانًا لحظيًّا للثقة في شركة بعينها، ولكن في أرباح الأعمال بشكل كامل.

أما عن مدى عقلانية هذه المخاوف فهذا أمر آخر. فقد أثبتت أسواق الأسهم في الواقع أنها مرنة للغاية في مواجهة صدمات سابقة، مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأزمة 2008 المالية. مع هذا، تميل هذه المخاوف لأن تكون سمة دائمة وسط المشاركين في أسواق الأسهم، والنقطة المهمة هي أن قيمة الأسهم مرتبطة بتقلبات الاقتصاد والعالم الحقيقي، وهوما يجعلها بطبيعتها أصولًا خطرة.

لكن لو حاول المستثمرون حماية أنفسهم من الخطر، لماذا يبيعون الأسهم من أجل شراء سندات خزانة أمريكية؟

يبحث المستثمرون أساسًا عن أصول من غير المتوقع أن تخسر أموالًا، وقيمتها غير مرتبطة بقدر المستطاع بأحداث عشوائية في العالم، والمعيار الذهبي لهذا النوع من الاستثمار هو سندات الخزانة الأمريكية.

إن السند هو وسيلة من الشركة أو الحكومة لاقتراض المال. يدفع المشتري للبائع مبلغًا محددًا من المال مقابل السند، ويوافق البائع على دفع هذا المبلغ الأصلي في نهاية المطاف، إضافة إلى مدفوعات الفوائد. ويمكن للشخص الذي اشترى السندات دائمًا أن يبيعها في المستقبل لشخص آخر- بسعر أكبر أو أقل من السعر الذي دفعه فيها في البداية، اعتمادًا على طلب السوق. لكن لو اشتريت سندات واحتفظت بها، فإن الكيان الذي باع السندات لك ملزم بدفع المبلغ الأصلي الذي دفعته كاملًا.
الآن، لو اشتريت سندًا من شركة، فمن الممكن دائمًا أن تفشل هذه الشركة وتفلس. وفي تلك الحالة، قد تخسر بعض أموالك. الأمر ذاته ينطبق على سندات الحكومة، ولكن من الناحية العملية نادرًا ما يحدث هذا. لكن الحكومة الأمريكية تقوم حرفيًّا بطبع الدولارات؛ لهذا لا يمكن مطلقًا أن "تنفد" منها الأموال، أو "تفشل" بالمعنى التقليدي مثلما يحدث مع أي شركة خاصة. يمكنها ان تختار أن تتخلّف عن سداد مدفوعات سنداتها، لكن هذا سيكون قرارًا سياسيًّا وليس عملًا قسريًّا يفرضه واقع اقتصادي. يمكن للحكومة الأمريكية دائمًا خلق الأموال اللازمة لسداد التزامات سنداتها المقوّمة بعملتها هي، وهذا فرق مهم؛ لأن الدول (لا سيما الفقيرة أو النامية) تبيع أحيانًا سندات مقوّمة بعملات لا تتحكم فيها. الأمر ذاته ينطبق على الدول المتقدمة الأخرى التي تصدر عملاتها ولا تحاول ربط قيمة هذه العملة بأي مقياس خارجي، مثل الذهب أو عملات دول أخرى.

بالطبع، ما يزال ممكنًا من الناحية الفنية أن تشعل هذه الحكومات أزمة تضخم جامح عبر سوء الإدارة الاقتصادية، وتدمير قيمة سنداتها بهذه الطريقة. لكن عمليًّا، لو كنت بلدًا لديه اقتصاد متقدم ومتنوع ولديه فرص استثمارية كثيرة، فمن الصعب للغاية أن يحدث تضخم جامح يؤدي لتدمير قيمة سنداتك.  علاوة على هذا، تتمع الولايات المتحدة بطبقة إضافية من الحماية في هذا المجال، بفضل مكانة الدولار الأمريكي بوصفه عملة احتياط عالمية.

باختصار، لو اشتريت سندات خزانة أمريكية، أو سندات من الحكومة الكندية أو الألمانية، فإنك ستسترجع أموالك مرة أخرى، إلا في حال الانهيار التام للحضارة الغربية.

لهذا السبب، عندما بدأت الصواريخ الإيرانية في الانطلاق يوم الثلاثاء، انخفضت عائدات سندات الخزانة الأمريكية لوقت وجيز من 1,8 بالمائة إلى 1,7 بالمائة. إن كلمة "عائدات" هي مصطلح فني نوعا ما، لكن انخفاض العائد على السندات يعني أساسا أن الطلب على السندات يرتفع. لهذا السبب أيضًا، عندما تقع أزمات دولية مثل هذه، فإننا نشهد انخفاضًا في عائدات سندات تعود لحكومات لديها اقتصاديات متقدمة.

إن الارتفاع اللحظي لأسعار الذهب هو نتيجة للعامل ذاته. بالنسبة للأشخاص الذين يعتقدون أن الانهيار التضخمي للدولار الأمريكي هو احتمال حقيقي، يعتقد هؤلاء غالبًا أن الذهب هو بديل آمن: العملة المختارة التي ربما ستنجو في مرحلة ما بعد خراب العالم. مرة أخرى، يمكنك أن تجادل بشأن مدى عقلانية هذا المنطق، لكن ذلك هو السبب الذي يفسر ارتفاع الطلب على الذهب؛ وبالتالي ارتفاع أسعاره عندما تقع أزمات مثل تلك التي نشهدها اليوم.

أخيرًا، ارتفعت أسعار النفط ردًا على هجوم إيران. هذه المسألة تُعدّ أكثر وضوحًا: الشرق الأوسط هو مصدر كبير للنفط العالمي، وهناك قلق وسط الأسواق من أن اندلاع صراع أوسع هناك يمكن أن يقطع إمدادات النفط للسوق العالمي.  هذا يعني ارتفاع أسعار النفط وعقود النفط الآجلة بشكل مؤقت. لكن مجددًا، بمجرد أن يتضح أن المواجهة قد لا تتصاعد، تنخفض عقود النفط الآجلة مجددًا.

وفي النهاية، لا حاجة للقول إن هناك عوامل أخرى كثيرة يمكنها تعقيد هذه السيناريوهات. لكن لو أردت فهم ردود فعل الأسواق على أزمات مثل هجمات أمريكا وإيران المتبادلة، فإن "الهروب للأمان" هو العامل الأهم الذي يجب أن تفكر فيه.