باحث وكاتب كوسوفي سوري..

"سياحتنامه": ثلاثة أسباب لترجمة الرحلات الألبانية إلى العربية

(رحلة أوليا جلبي في عمل لـ شرمين جِدّي)

محمد الأرناؤوط

يزداد الاهتمام في السنوات الأخيرة بالرحّالة العثماني أوليا جلبي (1611 - 1684) وكتابه الموسوعي "سياحتنامه"؛ حيث لا تمرّ سنة دون نشر دراسة أو ترجمة جديدة إلى لغة من اللغات. ومن هذه الإصدارات الجديدة ما يخصّ مختارات من الكتاب تتعلّق بجوانب تاريخية واقتصادية وثقافية واجتماعية للبلدان التي زارها مؤلّفه على امتداد أربعين سنة، أو ترجمة جديدة تتعلق بالقسم الخاص ببلد معين، أو إعادة نشر ما طُبع سابقاً.

وكان درويش بن محمد ظلي، الذي اشتهر باسم أوليا جلبي، وُلد في إسطنبول لأسرة ذات صلة بالبلاط العثماني من جهة الأب والأم؛ فقد كان والده كبير الصاغة (قيوم باشي) في البلاط بينما كانت والدته أبخازية جُلبت جاريةً إلى السلطان أحمد الأول (1603 -1617م) وأصبحت ذات مكانة بعد أن أصبح قريبُها ملك أحمد باشا صدراً أعظم، وهو ما فسح المجال لـ أوليا جلبي لكي يحظى برعاية دائمة من الهرم العثماني (السلطان والصدر الأعظم والولاة)، سمحت له ألّا يرتبط بوظيفة بل يتجوّل في أرجاء العالم العثماني وجواره قرابة أربعين سنة، وهو ما ساعده لكي يدوّن ما رآه وسمعه وتخيَّله في عشر مجلّدات كبيرة تُشكّل كنزاً للتعرّف على الدولة العثمانية في أوج امتدادها وعلى ما فيها من شعوب وثقافات وجغرافية طبيعية ومشاكل وغير ذلك.

ومن هنا، وبعد عدّة محاولات شَغَل نفسه بأمور متعدّدة منها مشاركته في الحملة العسكرية على قندية في 1669 التي تتوّجت بالفتح العثماني النهائي لجزيرة كريت، سنحت له فرصة غير متوقّعة حين زار مصر عام 1672 ليجد راعياً جديداً يُقدّره حقّ قدره؛ هو الوالي كتخدا إبراهيم باشا، فبقي في القاهرة عشر سنوات لإكمال رحلته في المناطق المجاورة (السودان والحبشة وغيرهما)، ثم تدوينها بالشكل النهائي الذي لم يكتمل بسبب رحيله عام 1684 على الأغلب.

"
رصد الجوانب التاريخية والثقافية والاجتماعية في البلدان التي زارها
"
صحيح أن ما خطّه جلبي انتقل بعد ذاك إلى إسطنبول ونشأت عنه عدّة نسخ مخطوطة، ولكن الانعطاف المهم كان في 1804 مع عثور المستشرق النمساوي المعروف جوزيف فون هامر (1774 - 1856) على أربعة مجلّدات منها، فاعتقد أنَّ هذه كل "سياحتنامه" أوليا جلبي، فنشر منها مختارات بالألمانية منذ 1814 ثم نشرها في مجلّدين بالإنكليزية في 1834 و1850، لتدخل التاريخ بعد ذلك مع إقبال المستشرقين الغربيّين على دراستها وترجمتها إلى لغات عديدة، علماً بأنّ الطبعة التركية لها امتدّت من نهاية الدولة العثمانية إلى رحيل مؤسّس تركيا الكمالية (1896 - 1938)، بينما لم تصدر الطبعة المحقّقة حسب الأصول العلمية إلّا خلال أعوام 1999-2007.

وقد أثار الكتاب اهتمام العديد من الباحثين الألبان والأجانب على مدى قرن من الزمن، وصدرت أكثر من ترجمة وطبعة للقسم الخاص بألبانيا أو بلاد الألبان؛ فقبل أن يكتمل نشر طبعته الأولى باللغة العثمانية ثم باللغة التركية الحديثة، نُشرتْ في تيرانا عام 1930 ترجمة القسم المتعلّق بألبانيا؛ حيث نقلها عن العثمانية مباشرةً صالح فوشترنا، وحظي العمل بترحيب آنذاك كمصدر مهم للتعرّف على ألبانيا والألبان في الماضي العثماني القريب - البعيد، أي بعد أن تطوّرت الحركة القومية الألبانية التي أفضت إلى إعلان استقلال ألبانيا عن الحكم العثماني في أواخر 1912.

ولكن في الوقت نفسه، كان موضوع الألبان في "سياحتنامه" يستثير اهتمام الباحثين الأوروبيّين، نظراً لما يطرحه هذا الموضوع من قضايا تتعلّق بأصل الألبان وعلاقتهم بالعرب وإسلامهم المختلف. وفي هذا السياق، نشر المستشرق الألماني فرانز بابينغر (1891 - 1967) في 1930 دراسة بعنوان "رحلة أوليا جلبي في ألبانيا"، ثم أتبعها في 1931 بدراسة أخرى بعنوان "إنشاء إلباسان"، وهي المدينة التي تتوسّط ألبانيا، وتتميّز - حسب زعْم جلبي - بوجود ضريح جبلة بن الأيهم الذي يعتبره الجدَّ الأعلى للألبان.

ومع تطوّر الدراسات الشرقية في يوغسلافيا بعد 1950، مع تأسيس معهد الاستشراق في سراييفو وقسم الاستشراق في جامعة سراييفو، كان تلميذ بابينغر، حسن كلشي (1923 - 1976)، أوّلَ باحث ألباني يهتم بهذا الموضوع وينشر في 1955 بالألبانية دراسته "كوسوفو وميتوهيا في رحلة أوليا جلبي"، أي عن النصف الآخر للألبان الذي أصبح ضمن الدولة الجديدة (يوغسلافيا) التي تكرّست حدودها في مؤتمر الصلح بباريس 1919.

وكان من الملفت للنظر أنه في الوقت الذي ضُمرت فيه الدراسات العثمانية في ألبانيا خلال الحكم الشيوعي (1945 - 1990)، أو أصبحت أكثر أديولوجيةً وانتقائية، نجد أن الدراسات الشرقية تتطوّر في كوسوفو بعد تأسيس قسم الاستشراق في جامعة بريشتينا على يد كلشي، وتصبح أكثر انفتاحاً وموضوعية. وفي السياق نشر الأكاديمي الكوسوفي مارك كراسنيتشي عام 1982 دراسته "الألبان في سياحتنامه أوليا جلبي". ويلاحظ هنا أنَّ الاهتمام لم يعد يشمل الخريطة السياسية لألبانيا التي تبلورت عام 1913، بل أصبح يشمل أيضاً النصفَ الآخر للألبان الموجود في يوغسلافيا، وبالتحديد في كوسوفو والجبل الأسود ومقدونيا.

وفي الواقع، لقد اعتمد كراسنيتشي في دراسته على الطبعة الثانية من ترجمة المختارات التي أعدّها وترجمها العالم البوسنوي حازم شعبانوفيتش وصدرت 1967 وشملت رحلات جلبي في الولايات العثمانية التي انضوت أراضيها لاحقاً ضمن يوغسلافيا. وبعد انهيار يوغسلافيا 1991-1999 وبروز سبع دول قومية مكانها (سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية وصربيا وكوسوفو)، أصبح الآن الاهتمام بـ "سياحتنامه" ينصبّ على الدول القومية الجديدة أو الجماعات القومية التي كانت ضمن الدولة العثمانية.

وفي سياق آخر، فقد اهتمّ الأكاديمي الكوسوفي رجب إسماعيلي بما أورده جلبي عن اللغة الألبانية والأمثلة التي سمعها وسجّلها في كتابه، وهي تشمل التحيّات والتمنيات والأعداد وعبارات السوق وحتى الشتائم. وكانت هذه الكلمات والعبارات قد كتبها جلبي كما سمعها في العثمانية، وبالتحديد في الحروف العربية، وهو ما اهتمّ به رجب إسماعيلي في كتابه "النصوص المبكرة" للغة الألبانية كنموذج على التحوّل الجديد لكتابة اللغة الألبانية بالحروف العربية، وهو التحوّل الذي بدأ في القرن السادس عشر ووصل إلى ذروته في بداية القرن التاسع عشر.

"
مصدر مهم للتعرّف على ألبانيا خلال الماضي العثماني
"
وقد ترافق هذا مع بروز مجموعة من الباحثين الأوربيّين والأميركيّين الذين اشتغلوا على جلبي و"سياحتنامه" ونشروا دراسات وترجمات جديدة له إلى الإنكليزية كان لها صداها، سواء في الغرب أو في البلدان المعنية. وفي هذا السياق، لا بد من ذكر الباحث الأميركي روبرت دانكوف والباحث الكندي/ الألماني روبرت إلسي (1950 - 2017) لما ساهما به في التعريف بجلبي و"سياحتنامه" سواء في المجال الأوروبي - الأميركي أو الألباني.

فبعد عدّة سنوات من العمل، جاء كتابهما المشترك "أوليا جلبي في ألبانيا والمناطق المجاورة: كوسوفو والجبل الأسود وأوهريد" ليمثّل ذروة في التقصّي والإخراج العلمي، حيث نُشر النص التركي مقابل الترجمة الإنكليزية (صفحة مقابل صفحة)، بالإضافة إلى ملحق يتضمّن الأصل العثماني لـ"سياحتنامه" وعشرات التعليقات والتوضيحات في أسفل الصفحات. وبالاستناد إلى هذا العمل المشترك، قام إلسي بالتعاون مع مترجم ألباني بإخراج طبعة أخرى من الكتاب بالألبانية في 2008.

ويبدو الآن أنَّ نقل القسم المتعلّق ببلاد الألبان من "سياحتنامه" إلى اللغة العربية أمرٌ مهمّ لثلاثة أسباب على الأقل؛ فأمّا الأول فيتعلّق باختراع جلبي للأصل العربي للألبان، وهي الأسطورة التي انتشرت لاحقاً ولا تزال تضخّ العديد من ردود الفعل؛ فثقافة جلبي كانت دينية - عثمانية، ولم تكن لديه خلفية علمية للتعامل مع أسماء الأماكن، الذي أصبح عِلْما قائماً بذاته (التوبونوميا) يتطلّب معرفة اللغات والتاريخ والثقافات المحلية، ولذلك كان يسارع إلى تفسير بعض أسماء الأماكن بالاستناد إلى تشابه لفظي بينها وبين غيرها في مناطق أخرى.

وهكذا، حين كان في جنوب ألبانيا مرّ بجبل كرْفليش فربطه فوراً باسم قريش وقصّة الأمير الغساني جبلة بن الأيهم الذي، بعدما اعتنق الإسلام وحجّ، داس أعرابيٌّ على إزاره فلطمه لطمةً فقأت عينه فشكاه إلى الخليفة عمر بن الخطاب، الذي حكم عليه على قاعدة السن بالسن والعين بالعين، ولكن ابن الأيهم طلب تأجيل الحكم إلى الصباح وغادر مكّة خلال الليل مع عشيرته إلى بلاد الروم. ومع الخيال الذي عُرف به جلبي تفرّق ابن الأيهم وأولاده، حيث استقر ابن الأيهم في جنوب ألبانيا وتناسل من جماعته الألبان، بينما استقرّ أحد أولاده في القفقاس وأصبح جدّاً للشركس، بينما أصبح الأبن الآخر جدّاً للأبخاز.

وقد دعم جلبي تفسيره هذا بوجود كلمات عربية كثيرة في اللغة الألبانية، التي أصبح يُنصِت إليها ويسجّل بعض مفرداتها الأساسية، دون أن يلحظ هنا أن هذه الكلمات العربية لم تكن في اللغة الألبانية فقط، ولكن في لغة سكّان البوسنة أيضاً، والتي عرفها جيّداً وغيرها، نتيجة لانتشار الإسلام واللغة الجديدة (العثمانية) التي كانت تحوي الكثير من المفردات العربية. غير أنَّ جلبي لم يكتف بذلك، بل ذهب به الخيال أبعد، ليقول إنَّ ابن الأيهم تُوفّي ودُفن في مدينة إلباسان، التي تقع وسط ألبانيا وأسهب في وصفها والحديث عن ضريحه هناك الذي يزوره الألبان ويعبّرون عن احترامهم له باعتباره جدّهم الأعلى!

"
يتناول أصل الألبان وعلاقتهم بالعرب وخصوصية إسلامهم
"
ولكن رواية جلبي هذه عن وجود ضريح ابن الأيهم في مدينة إلباسان أو "عروس ألبانيا" وتعظيم الألبان له لم ترد في أي مصدر محلي أو لدى أي رحّالة، مع أن جلبي قد يكون سمع شيئاً من الألبان عن صلة ما لأسلافهم الأليريّين (السكان الأصليّون في الجزء الغربي من شبه جزيرة البلقان) بالشرق، قد تكون مبنية على الرواية المتعلّقة بجدّهم المفترض إلير التي تقول الأسطورة إنه ابن الأمير قُدمُس بن آجنور ملك فينيقيا الذي أرسله أبوه للبحث عن أخته أوروبا في هذه المنطقة، وبالتالي يبدو أنّ ابن الأيهم أخذ دور قدُمُس في الأسطورة الجديدة التي نسجها ونشرها جلبي وانتشرت بين الألبان في المنطقة بعد ذلك، إلى أن جاء الرحّالة الألماني يوهانس فون هان وتناولها من جديد.

وأمّا السبب الثاني، فيتعلّق باكتشاف جلبي لمجتمع مسلم مختلف عمّا رآه في رحلاته؛ ففي الوقت الذي جال فيه ألبانيا (النصف الثاني للقرن السابع عشر)، كان الإسلام ينتشر بين الألبان ليشمل الغالبية حتى نهاية ذلك القرن. وبعبارة أخرى، كان الألبان في حالة انتقالية دينية وثقافية واجتماعية مع انتشار الدين الجديد، ولكن في الوقت نفسه دون أن يفقدوا خلفيتهم الوثنية أو المسيحية. وحتى الدين الجديد (الإسلام) انتشر بين الألبان مع خصوصية أصبحت تميّزهم، إذ أنهم بقوا يراعون تقاليدهم وعاداتهم ولباسهم وحُبّهم للحياة، وحتى في شربهم للخمر بأنواعه العديدة التي يصفها جلبي، ويتكيّفون بالتدريج مع متطّلبات الدين الجديد.

ومن ناحية أخرى، فإنَّ الإسلام الوافد إلى ألبانيا لم يكن واحداً؛ إذ أنّ ألبانيا بالذات عرفت انتشاراً كبيراً للطائفة البكتاشية، التي تمركزت في جنوب ألبانيا، وقد تحوّلت مع الزمن إلى طائفة مختلفة عن الإسلام التقليدي كما يوضّح جلبي ذلك في كتابه. وبعبارة أخرى، فإن هذا القسم من "سياحتنامه" مفيدٌ في التعرّف على اكتشاف جلبي للإسلام الجديد أو المختلف عمّا رآه في المناطق الأخرى.

وأمّا السبب الثالث، فيكمن في غنى الكتاب بالمعطيات المختلفة عن بلاد الألبان في ذلك الوقت (القرن السابع عشر) حتى أنَّ دانكوف يسمّيه بحق "منجم معلومات". صحيح أنه لدينا مصادر عثمانية رسمية (دفاتر التحرير والجزية وسجلات المحاكم الشرعية وغير ذلك) عن القرون الأولى للحكم العثماني الجديد في ألبانيا، ولكن نفتقد إلى مثل هذا التوثيق للحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت في بلاد الألبان خلال النصف الثاني للقرن السابع عشر. فإذا تجاوزنا بعض مبالغات جلبي الواضحة، فقد كان صاحب "سياحتنامه" مهووساً بالتفاصيل في وصف المنشآت العسكرية (القلاع وغيرها) والمدن والأسواق والمنشآت الاقتصادية والدينية والتعليمية، حتى أنّ كتابه أصبح لا غنى عنه لمن يكتب عن ألبانيا والألبان خلال الحكم العثماني.

وفي الواقع، كانت ألبانيا المطلّة على البحر الأدرياتيكي آخرَ امتداد للدولة العثمانية في اتجاه الغرب، ومجال صراع مع الدول التي كانت تحكم ألبانيا (البندقية وغيرها) والتي بقيت تحاول استردادها. ومن هنا اهتمّت الدولة العثمانية بترميم القلاع الموجودة وبناء القلاع الجديدة، ونشأت في بلاد الألبان عدّة مدن جديدة (تيرانا وكورتشا وبتشين وكافايا وإلباسان وغيرها)، كما نمت بسرعة المدن الصغيرة التي كانت موجودة (شكودرا ودورس وفلورا وغيرها) ممّا جعل صورة ألبانيا خلال زيارة جلبي لها تبدو مختلفة كثيراً عمّا كانت عليه من قبل، وهو ما يسلّم به حتى الباحثون الألبانيّون الذين لا يتعاطفون كثيراً مع الدولة العثمانية.