مراقبون..

المشروعية الإعلامية بوابة للمشروعية السياسية في تونس

وجود قيس سعيد في السلطة لا يبرر استضافة الإعلام لأخيه

محمد شلبي

تمكين المتحدثين من القول العام بلا صفة يحوّل المجالين السياسي والإعلامي إلى حوانيت مقاولة سياسية وإعلامية لا تحكمهما إلا المصالح الشخصية والغايات الربحية.

 أجرت الإذاعة التونسية “شمس” يوم الثلاثاء 21 يناير، حديثا دام ربع ساعة مع نوفل سعيّد، شقيق رئيس الجمهورية، تحدث فيه عن ضرورة “إعادة تعديل النظام السياسي قصد التوازن بين المؤسسات الدستورية”. وقد نقل عدد من وسائل الإعلام كلام الرجل في حين أن الأهم لم يكن ذاك، بل الصفة التي دعته بها “شمس” لتمكّنه من الخطاب العام أو القول العام.

الحديث إلى عموم الناس عبر وسائل الإعلام، أي القول العام، مسألةٌ تمثيلية أوّلا وآخرا تبررها الهيئة التي يُخاطب المتحدثُ الناسَ باسمها مثل أن تكون الهيئة حزبا أو نقابة أو جمعية أو منظمة أو مؤسسة أو جماعة تحظى باعتراف واسع، أو أن يكون المتحدث من ذوي الوجاهة الفكرية أو العلمية. ويُسند القول العام كذلك إلى عموم الناس في برامج مختلفة ليدلوا بتجاربهم المتعلقة بمجريات الأحداث أو الملفات العامة.

فبأيّ صفة أُعطيَ نوفل سعيّد الكلمة؟ جعلت له الإذاعة ثلاث صفات وهي؛ أستاذ مختص في القانون الدستوري ومكلف سابقا بحملة رئيس الجمهورية وشقيق الرئيس. وهناك مشكلة في الصفات الثلاث تجعل الإذاعة وبقية وسائل الإعلام الأخرى، التي تناقلت مضمون الحديث، في سياق انحرف بها عن المهنة وعن مقتضياتها الأخلاقية.

المشكلة الأولى هي أن صفة نوفل سعيّد شقيقا لرئيس الجمهورية لا تكسبه مشروعية التمتع بالقول العام لمخاطبة عامة الناس في أي موضوع كان عملا بمبدأ أن المتحدث العام يفعل انطلاقا من كونه يحدث الناس باسم هيئة ذات تمثيلية والأخوّة ليست كذلك. والمشكلة الثانية أن الرئيس قيس سعيّد نفى مرارا أن يكون قاد حملة انتخابية في الخريف الماضي ممّا ينزع عن نوفل سعيّد صفة أن يكون مكلفا بما لم يكن أصلا.

أما المشكلة الثالثة فهي دعوته بصفته مختصا في القانون الدستوري، والرجل كذلك، غير أن المقلق في الأمر هو لماذا لم يُدع بصفته تلك قبل اعتلاء أخيه الرئاسة؟ منذ تسع سنوات تداول عدد كبير من المختصين في القانون الدستوري على وسائل الإعلام لم يكن نوفل سعيّد من بينهم. كان منهم الرئيس الحالي الذي اكتسب من حضوره مشروعية إعلامية – سياسية ومنهم جوهر بن مبارك الذي كان على رأس ضيوف رئيس الحكومة المكلف جديدا غداة تكليفه وآخرون حفظ التونسيون أسماءهم ووجوههم.

واضح أن دعوة نوفل سعيّد لم تكن بصفة الخبير في القانون، وإلاّ لأحضرته وسائل الإعلام قبلها، ولا بصفته مكلفا بالحملة التي لم تكن وإلا لسمع عنه الناس إبانها بل لكونه شقيق الرئيس. وقد أحدث ذلك تململا في بعض الأوساط منها تدوينات كثيرة على فيسبوك تشير إلى عودة ممارسات حكم العائلة التي خالها التونسيون فانية بلا رجعة.


كان حكم العائلة زمن نظام زين العابدين بن علي أمرا واقعا بقوة الاستبداد، في حين أن ما يخشاه الذين تحدثوا عن عودة حكم العائلة من جديد سيكون، إن حدث، بفعل الإعلام أساسا دون أن يكون الأمر مقصودا بالضرورة. فقد تكون إذاعة “شمس” دعت نوفل سعيّد طمعا في استقاء معلومات عن تعديل الدستور قد يكون المدعو حصل عليها من أخيه رئيس الجمهورية.

وهنا مكمن الخطأ عندما تفترض وسيلة إعلامية أن شخصا ما مطلع على شؤون الدولة لمجرد أنه شقيق رئيس الجمهورية فتعطيه مشروعية سياسية لا يملكها تتيح له صفة المتحدث العام، وهو ليس كذلك، الأمر الذي سيجعل منه سياسيا بالعصبية العائلية، عبر المشروعية الإعلامية، إن تكرر الأمر وحاكت إذاعات وتلفزيونات أخرى إذاعة “شمس” بدعوة نوفل سعيّد للتحدث في الحياة السياسية.

ويكتسب السياسيون عادة مشروعيتهم، المعروفة بالمشروعية الكلاسيكية، من العمل الحزبي ومن المشاركة في الانتخابات ثم العضوية في المجالس المنتخبة، حتى أولئك الذين لا ينتمون إلى أحزاب، في حين أن الذين يكونون خارج هذه المسالك يلجأون إلى المجال الإعلامي لاكتساب مشروعية إعلامية تؤهلهم لاكتساب مشروعية سياسية.

وقد سلك الرئيس الحالي قيس سعيّد ذلك المسلك أي من المشروعية الإعلامية، عندما كان يُدعى باستمرار في البلاتوهات الإذاعية والتلفزيونية بعد يناير 2011، إلى المشروعية السياسية حتى رئاسة الجمهورية. وقد صنع لنفسه على امتداد تسع سنوات كاريزما أعانته على صنعها وسائل الإعلام.

وكان لقيس سعيّد وقتها الحق في القول العام إذ كان يتحدث بصفة الوجاهة الفكرية، أستاذا في القانون في مؤسسة جامعية مرموقة، وهي الدعامة الأولى التي تتيح له القول العام، ثم مصداقية ما يقول لدى الناس وهي الدعامة الثانية للقول الإعلامي كما يوضح ذلك الباحث الفرنسي في الإعلام والاتصال باتريك شارودو. ولا يعني ذلك ألاّ مصداقية لما يقول أخوه نوفل غير أن صفة أخ الرئيس طغت على صفته الأكاديمية.

وتلجأ وسائل الإعلام إلى إعطاء مشروعية لفئة أخرى من الراغبين في العمل السياسي ممن أقصتهم المسالك التقليدية أي العمل الحزبي الفاشل أو العجز عن بلوغ المجالس التمثيلية عبر مسالك الجمعيات أو المنظمات أو ما شابه ذلك. ومن تلك الحالات جوهر بن مبارك الذي لم يستطع ممارسة السياسة عبر شبكته “دستورنا” التي خاض الانتخابات تحت رايتها فاتخذ من المنابر الإعلامية أرضية للحصول على ما يسميه الباحثون بالكفاءة الإعلامية التي يحولها صاحبها بالظهور المتكرر إلى مشروعية سياسية.

وليس أدل على ذلك من المقابلة التي جمعت رئيس الحكومة المكلف سابقا الحبيب الجملي بجوهر بن مبارك عند مشاورات تشكيل الحكومة، التي رفضها البرلمان يوم 10 يناير، ثم المقابلة بين رئيس الحكومة المكلف الجديد إلياس الفخفاخ وجوهر بن مبارك غداة تكليفه. ويعتبر بن مبارك مثالا عن الشخصية العامة التي صنعتها وسائل الإعلام وأعطتها مشروعية إعلامية تحوّلت إلى سياسية.

ويفسر الباحثان بيار لورو وفيليب تيّي في بحثهما “المشروعية الإعلامية والعمل السياسي” سعي عدد من الصحافيين في إكساب السياسيين غير التقليديين تلك المشروعية رغبة منهم في إثارة مواضيع يحجم عن الخوض فيها السياسيون التقليديون لارتباطاتهم الحزبية أو المؤسسية. ويقدم الباحثان تفسيرا ثانيا يتمثل في سعي البعض الآخر، ممن أشرف نجمهم على الأفول، في سبيل الشهرة مجددا بدعوة سياسيين غير تقليديين يقبلون ما لا يقبله غيرهم.

لقد وجه جوهر بن مبارك أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية نقدا لاذعا للمرشح قيس سعيّد في البلاتوهات وفي الاجتماعات العامّة وعلى صفحته على فيسبوك حتى قال فيه إنه “رجل خطر” على تونس ثمّ بكى “فرحا” على بلاتوه القناة التلفزيونية حنبعل مساء الإعلان عن فوزه بالرئاسة. مثل تلك “الحوارات السياسية” تكسب البرامج صيتا وتعيد أصحابها إلى الواجهة.

ويقدمان كذلك تفسيرا ثالثا يتمثل في ضعف البرامج الحوارية السياسية الجادة التي انتقلت بالقول العام من البرامج الحوارية التقليدية إلى برامج توك شو التي يقبل بعض السياسيين حضورها وهي برامج تخلط بين الإخبار والترفيه (أنفوتينمنت) وقد كان النائب والمرشح السابق للانتخابات الرئاسية الصافي سعيد يحضر عددا منها باستمرار مما أكسبه وجاهة سياسية لدى عامّة الناس وإن كان الرجل معروفا كاتبا وصحافيا لدى النخبة قبل ذلك.

وهناك فئة أخرى معنية بالقول العام توظفه على غير وجهه وهي فئة “الصحافيين – المعلقين” (الكرونيكور) الذين قد يخدمون مصالحهم لغايات سياسية، ومنهم من رُشح اسمه لمنصب حكومي، أو قد يخدمون سياسيين أو هيئات سياسية أو غيرها. إنّ تركيز هؤلاء على الآراء والجدل السياسي في البلاتوهات التي يحضرونها يفقدهم الصفة التي تخول لهم القول العام وهي صفة الصحافي.

إن ممارسة هؤلاء ما يُسمى بالصحافة الجالسة تفقدهم بالضرورة صفة الصحافي المخبر وتُبقي لهم على صفة الصحافي المفسر أو المحلل. وتقتضي تلك الصفة من المعلقين تقديم تفسيرات وتحاليل أكثر عمقا من التعاليق السريعة على الأحداث الجارية. ويكون دورهم بحث وجهات النظر للمقارنة بينها واستخلاص النتائج ليفهم الناس تعقيدات الأحداث.

لا يفهم الناس بالآراء فهي مجعولة للتوجيه ومهمة التوجيه لا تعطي المعلقين الحق في صفة المتحدث العام. ولا يعني ذلك أنه محرّم على الصحافي أن يبدي رأيه بل أن يفعل بعد التفسير والتوضيح لأن الانتقال من رواية الأحداث إلى التعليق عليها بالآراء مباشرة يطمس معانيها. إن ذلك العمل التفسيري التحليلي ذا البعد البيداغوجي وحده يبرر حضور معلقين في البلاتوهات لممارسة القول العام.

لا ينبغي أبدا أن تكون مخاطبة العموم عبر وسائل الإعلام سبيلا لخدمة أشخاص ولو كان رئيس الجمهورية ولا البحث أولا عن الربح بمسرحة “الحوارات السياسية” ولا لخدمة مصالح الصحافيين.