"الفكر الفلسفي العربي لا يرى الفلسفة يومية"..

المفكّر فتحي التريكي يوجه دعوة إلى تطوير الفلسفة بمعناها الحقيقي

المفكّر التونسي فتحي التريكي - ارشيف

أزراج عمر

تشغل المفكر والدكتور التونسي فتحي التريكي قضايا متعددة متضافرة مثل “فلسفة اليومي” التي تحتل مكانة خاصة في نشاطه الفلسفي، وإلى جانب ذلك فهو يعالج عنقودا من القضايا الفكرية الساخنة الراهنة التي شغلت ولا تزال تشغل المفكرين المعاصرين في بلداننا وفي مختلف بلدان العالم. “العرب” كان لها هذا الحوار مع المفكر.

كثيرة هي القضايا التي تشغل المفكر الدكتور فتحي التريكي في مقدمتها “أخلاقيات الفلسفة المعاصرة”، و”مجال التفلسف” و”التعددية الثقافية” و”تضافر الثقافات” و”المعقولية وثقافة التقدم”، و”الفلسفة والقول في الفن” و”الهوية” و”دور المثقفين” في حركات التغيير السياسي والاجتماعي.

والجدير بالذكر هو أن عددا من الكتب والأطروحات الجامعية قد أنجزت حول أعمال الدكتور فتحي التريكي منها أطروحة الدكتوراه للأستاذ الجزائري مولود علاق التي ستناقش قريبا بجامعة باوهوس الألمانية وهي مكرسة لإشكالية الهوية في فلسفة فتحي التريكي.

سيرة وملامح فلسفة
في الآونة الأخيرة علمنا أن الدكتور فتحي التريكي شرع في كتابة سيرته الذاتية، وعن هذه التجربة يوضح لنا قائلا “نعم أنا الآن بصدد تأليف كتاب حول الذاكرة والمصير وهو ليس كتابا في السيرة الذاتيّة في معناها المتداول، لأني أردت أن أربط محطّات معيّنة من مسيرتي بتكوّن شخصيّتي الفكريّة وبعض ملامح فلسفتي. وفي الواقع لقد ألحّ عليّ بعض طلبتي وأصدقائي وقرّائي أن أكتب عن مسيرتي الفكريّة والنضاليّة في فترة شبابي وعندما كنت طالبا، لاسيّما وأنا لم أكن أتحدّث عن نفسي في محاضراتي ودروسي الجامعيّة أو في علاقاتي مع طلبتي وزملائي وأصدقائي”.

ويضيف التريكي “كنت في استجواب إلكتروني لي قام به الفيلسوف الفرنسي فانسون ساسبيديس قدّمت بعض المعطيات حول مسيرتي باللسان الفرنسي صدرت رقميّا وفي أقراص مغناطيسيّة، ولكنها لم تصدر ورقيّا. وقد قرّرت ذلك وأنا أعيش حالة الحجر الصحّي بسبب تفشي وباء الكورونا، لا لأنّ نشاطي الفكري قد اكتمل وهل يكتمل نشاط فكري؟ بل لأني بحاجة ماسّة أن أعيد التفكير في الذاكرة والمصير من خلال مسيرتي. لذلك ستأتي رسوم هذه المحطات المفصليّة التي سأصفها في كتابي مزيجا من أدب السيرة الذاتيّة ومن منهجيّة المذكّرات ومن تأريخ لأحداث مهمّة ومن تفكير فلسفي في بعض المفاهيم والتصوّرات التي سأذكرها. وعلى كلّ فإني مازلت في نصف الطريق ولم أنجز إلا نصف الكتاب”.

الفكر الفلسفي العربي لا يرى الفلسفة يومية، فالفلسفة عندنا انحصرت في مادة تدرس في الجامعات والثانويات

وللدكتور التريكي نشاط مكتنز في إطار مسؤوليته على كرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربي، وينتظر أن يجد هذا النشاط مكانا في هذه السيرة الذاتية، وفي هذا الشأن يرى أنه “من الصعب جدّا تقييم مسار كرسي اليونسكو للفلسفة في العالم العربي، لأنّه كان ومازال نشيطا جدّا لا في تونس فقط بل وفي مصر والجزائر والكويت، حيث وجدت أو توجد وحدات فلسفية ناشطة وهي عبارة عن فروع تقوم بالمحاضرات والندوات والمؤتمرات بصفة دوريّة. أنا صاحب هذا الكرسي ولكنّ معي وبجانبي مجلس علمي يضمّ خيرة الفلاسفة في تونس والعالم العربي، وكذا الشأن بالنسبة إلى الفروع. فمثلا يضم المجلس 40 فيلسوفا تونسيا و10 من العالم العربي و5 من العالم الغربي”.

ويتابع التريكي “كما شارك في المحاضرات والندوات أكثر من 110 فيلسوفا من العالم العربي ومن أفريقيا وأميركا وأوروبا وآسيا، وأذكر من بينهم جاك داريدا وبول ريكور وجاك بولان (فرنسا) وسندكولهر وولف وماتياس كوفمان (ألمانيا) وسكولاسون (آيسلندا) وغيرهم كثير. كما أذكر حسن حنفي ومراد وهبة وأحمد عبدالحليم عطيّة وحسن حمّاد ومحمد عثمان الخشت وأنور مغيث (مصر)، وأذكر أيضا زواوي بغورة ومحمد جديدي وبنمزيان بنشرقي وعمر أزراج وأمين الزاوي (الجزائر)، ومن المغرب أذكر محمد المصباحي وعلي بنمخلوف وعزالعرب لحكيم بناني كما شارك أكثر من 90 فيلسوفا ومفكّرا تونسيا، أذكر منهم عبدالوهاب بوحديبة ومحمد محجوب وأبويعرب المرزوقي ومحمد علي الحلواني ورشيدة التريكي وفتحي المسكيني وغيرهم. لم أذكر قامات فلسفية أخرى. وإذا دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على ثراء نشاط الكرسي ودوره الكبير في عودة الرّوح للفكر عامة وللفلسفة خاصة في ربوع العالم العربي”.

الحداثة التونسية
نسأل التريكي عن بنية المشهد الفكري التونسي وأبرز مشكلات هذا المشهد ومرتكزاته الفكرية فيؤكد لنا أن “هذا سؤال تصعب الإجابة عنه فأطروحة دكتوراه كاملة لا يمكن أن تستوفي إلا القليل من هذه الإجابة. على كلّ سأقدّم هنا وجهة نظري في هذا الموضوع. قبل كلّ شيء لا بد من التذكير هنا أن المفكّرين العرب بصفة عامّة في ظل ضبابية المشهد الثقافي العام حاليا ولأنهم لم يقوموا بالتحليل الفلسفي الضروري لظاهرة الثقافة في العولمة أو في ما يسمّى بعصر ما بعد الحداثة، قد تاهوا بين أمرين: أن نستهلك ثقافة التكنولوجيا الغربية، ونرفض في الآن نفسه ما تفرضه هذه التكنولوجيا من قيم جديدة على المستويات السياسية والأخلاقية والثقافية حفاظا مزعوما على الأصالة والتراث والتقاليد، أو أن ندافع جملة وتفصيلا عن الثقافة الغربية أساسا باعتبارها المنتجة للتكنولوجيا والقيم الثقافية التي أنتجتها. بينما كان عليهم التعامل مع كل الثقافات المتواجدة حاليا بالتحليل والنقد لتطوير ثقافتهم الأصلية وإبداع تصورات متأقلمة مع عصرهم”.


ويضيف التريكي “الفكر في تونس يدخل ضمن هذه الإبستيميّة ولكن باختلاف. ولا بد أن أوضّح هنا وجه الاختلاف باختصار شديد. تقريبا كلّ المفكّرين في العالم العربي عندما يدرسون الحداثة العربيّة في نمط تكوينها ونمط عملها ونتائجها يعودون إلى المفكّرين الشرقيين المصريين واللبنانيين والسوريين أساسا، وقلّما عادوا إلى المفكّرين المغاربيين عامّة والتونسيين خاصّة. صحيح أنّك لن تجد في القرن التاسع عشر في تونس مفكّرين في قيمة عبدالرحمن الكواكبي أحد روّاد الحداثة في العالم العربي، ولكنّك تجد مفكّرين مثل الشيخ سالم بوحاجب الذي كان من أبرز المحررين لكتاب ‘أقوم المسالك‘ لخير الدين”.

ويتابع “كان بوحاجب لا يقدّم لنا نظريّات في الحداثة بل كيف يمكّننا من إصلاح البلاد وتحديثها. معنى ذلك أنّ الحداثة في الشرق العربي بقيت نظريّة بينما في تونس صاحبت التفكير في الحداثة عمليّة إصلاح للمجتمع آنيّة. فيجب أن نعرف أنّ تونس هي أوّل بلد عربي ألغى العبودية بشكل نهائي في سنة 1846 قبل الإعلان العالمي الصادر في لندن سنة 1848 ذاك الإعلان الذي نصّ على إلغاء الرق. أوّل بلديّة في العالم العربي هي بلديّة تونس تأسست سنة 1858”.

ويلفت التريكي إلى أن تونس عرفت أوّل دستور في العالم العربي وهو عهد الأمان الذي صدر في 9 سبتمبر 1857 وأوّل برلمان سنة 1861. كما تمّ في تونس تحديث التعليم منذ أواسط القرن التاسع عشر من خلال تأسيس المدرسة التكنولوجيّة متعددة الاختصاص المعروفة بمدرسة باردو سنة في مارس 1840 والمدرسة الصادقيّة حيث تدرّس العلوم الحديثة والفلسفة سنة 1875 كذلك تمّ إدخال إصلاحات جذريّة على جامعة الزيتونة التي أصبحت في فرعها الخلدونيّة تدرّس أيضا العلوم والمعارف الحديثة.

ويواصل حديثه “فكر الحداثة في تونس هو أصلا فكر تطبيقي بينما بقي في الشرق فكرا نظريا وتطبيقه بطيء. وأريد أن أضرب مثالا آخر. قاسم أمين هو من دون منازع رائد تحرير المرأة في العالم العربي ولكنّ تطبيق أفكاره مازال بطيئا بينما كتاب الطاهر الحداد وجد تطبيقا كليا سريعا بعد الاستقلال. عندما اقترحت نوال السعداوي أن تنتظم في الأقطار العربيّة جمعيات حول المرأة والديمقراطيّة كانت تونس منذ الاستقلال قد أسست الإتحاد النسائي التونسي الذي كان مواليا للنظام الحاكم ولكنّه لعب دورا لا يُستهان به في تطبيق قوانين تحرير المرأة ثمّ تكوّنت بعد ذلك سنة 1988 الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وهي جمعية نسوية تعمل من أجل تحقيق المساواة التامة والفعلية بين الجنسين. فالفكر التونسي فكر براغماتي يتّجه غالبا نحو التطبيق. وتلك هي خصوصيّته”.

تطوير الفلسفة

لاشكَ أن هذه الخصوصية قد طعَمها الدكتور التريكي ببعد فلسفة اليومي وفي هذا الخصوص ندعوه أن يسلط الأضواء على هذا المعلم الفكري، وأن يجيب عن سؤالنا فيما كان هذا التوجه هو نتاج للزهد من التقاليد الفلسفية التقليدية عندنا وفي الغرب خصوصا، وكيف يختلف مثلا عن تيار فلسفة اليومي في فرنسا بزعامة هنري لوفيفر؟

فيوضح “في واقع الأمر قلّما نجد في الفكر الفلسفي العربي مقاربة فلسفيّة حول اليومي. لأنّ الفلسفة عندنا انحصرت تقريبا في تاريخها وأصبحت في أفضل الحالات مادة تدرّس في الجامعات وأحيانا في الثانويّات في البلدان العربيّة التي آمنت بالحداثة. فليس لنا في الوقت الحالي إبداعات فلسفيّة كثيرة. والغريب أنّ المنشغلين بالفلسفة أنفسهم يتصدّون لكلّ من يحاول تجاوز تاريخ الفلسفة لخلق مفهوم أو بناء نظريّة ويِؤكّدون أنه ليس لنا فلاسفة وكأنّهم يردّدون ما ذهب إليه المستشرق الاستعماري رونون بأنّ العرب لا ينتجون فكرا”.

ويتابع “أنتهز هذه الفرصة لأقول إلى كلّ المشتغلين بالفلسفة أن يدرسوا تاريخ الفلسفة وأن تكون لهم الجرأة في إنشاء المفاهيم والتصوّرات. فكتابي حول الفلسفة اليوميّة هو لحظة مهمّة في نشأة وتطوّر نظريّتي في ‘العيش المشترك ضمن قاعدة الكرامة‘. لأنّ فلسفة العيش المشترك تتطلّب نهج المحايثة مع العيش ومع اليومي. لقد آن الأوان كي نعود إلى تطوير الفلسفة بمعناها الحقيقي، تلك التي تهتم كما يقول الفارابي ‘بالفضائل النظريّة أوّلا ثمّ بالفضائل العمليّة‘. طبعا قرأت كتاب لوفيفر ‘نقد الحياة اليوميّة‘ ولكنّ الكتاب يبحث أساسا في إشكاليّة الاغتراب عند ماركس. فبالنسبة إليه يكون اليومي استمرارا للاغتراب. هناك أدلجة كاملة لليومي لإخضاعه إلى نمط الإنتاج ولكن وأيضا إلى كلّ متطلبات الحياة. نجد فكرة اليومي أيضا عند ميشال دي سرتو في كتابه “اختراع اليومي”.

ونذكر أن الدكتور فتحي التريكي مفكر تونسي معروف في العالم العربي وقد ترجمت أعماله إلى عدة لغات أجنبية، درس الفلسفة في جامعات كثيرة ببلده تونس، وفي باريس كما شغل منصب كرسي اليونسكو في العالم العربي وساهم في الفعل الفلسفي بالندوات والمحاضرات تونسيا ومغاربيا وعربيا ودوليا فضلا عن مؤلفاته العديدة باللغة العربية والفرنسية منها على سبيل المثال “الفلاسفة والحرب” 1985، و”أفلاطون والديالكتيك” 1986، و”فلسفة التنوع” 1987، و”الفلسفة الشريدة” 1987، و”العقل والحرية – وفلسفة الحداثة” 1992 (بالاشتراك مع الدكتورة رشيدة التريكي)، و”الحداثة وما بعد الحداثة” 2003 (بالاشتراك مع الدكتور عبدالوهاب المسيري)، و”الهوية ورهاناتها” 2010 وغيرها كثير.

المصدر| العرب