شاعر سوري مقيم في باريس..

قصائد الجندي الهارب

جزء من لوحة لـ فاتح المدرّس

برلين

1


يفكّر الجندي:
أهذه هي الحرب، لم لستُ مسروراً إذن؟
هواءُ المارّين بين صليتين
يثقلُ
والأرضُ الطيّبة تنخسفُ
حرّاسُ النوبة الأخيرة يستندون على بنادقهم الطويلة
والكمائنُ الخفيّة
تعبرها ظلالٌ متطاولة من هبوب المغيب.

ربما لن يعود أحد من الكمين
ربما
ينعس الأعداء وينامون.

هذه هي الحرب إذن؟
ما الذي جاء بي
لأخفّ
وتتلاعب بي رائحةُ غسيل رطب
ويُرديني رغيف.

إنها حربٌ فحسب
يذهب فيها الرجالُ إلى الموت
كأنهم ذاهبون إلى زفاف
والأبناء
يتيتمون
بمرح.

حقلٌ من الصرخات المتجمّدة
تحت زفير المدرّعات
والجثامين تتزايد.
هذه هي الحرب إذن
يا سيدي
يا رسول الله؟


2

لا يُفترَض بي أن أشعر هكذا
اليوم
أو السبت القادم، في جنازتي القصيرة
والزوّار
يُسّقِطون على البلاط الصقيل حوارات داكنة
والمتكلّمون
يستنطقون تلالاً رمادية
ويشحذون فؤوساً مثلّمة، في المجالس.

الحرب طفلتي
أنا جندي الدم والهتاف
لا يُفترَض بطفلتي أن تُدميني.

- هل أنت مريض سيّدي؟
أعني
تطلب مني أن أقفَ وأسدّدَ إلى حيواتٍ أجهلها، أو أشباحٍ راكضةٍ خلف الركام، ولا أظنّ أنّ الرصاص يؤثّر في حالاتٍ مماثلة، ولا أظن أنّ الحرب تحتاج جندياً ذا بصرٍ ضعيف مثلي.
مضيعة للوقت.. أعلم أنّ الضبّاط يعرفون أكثر، لكن الأيامَ هنا تتكرّر كأنها من مصبٍّ واحدٍ، كأن من صنع الأيام الماضية ملّ من تماثلها، فصار يُخرجها من دفاتره القديمة.
أرى من تسمّيهم "أعداءنا" يفرّون من ثغرٍ في البيوت، تحت سحبٍ باردةٍ، خائفين مثلي وجائعين مثلي، ولديهم - لا بدّ - ضابط كريه مثلي
وأرغب بسؤالهم عمّن حاك لهم تلك القبعات الدافئة، وماذا تناولوا على مائدة الغداء، وأعدو خلفهم وسورة الرحمن ترنّ في إثري، كخاتم مكسور.

هل هم أعداؤنا حقاً؟ أعني: هل يشبهون أولئك الذين دخلوا حياتنا في الكتب ونشرات الأخبار، هل يكرهون اسمي كي يطلقوا النار عليه؟

- اذهب واشنق نفسك أيّها الجندي الغبي.

موتى الأسابيع القادمة
الأيام القادمة
موتى السبت والإثنين والأربعاء
ينشجون على بابي
على الأدراج
أمام قمصاني النظيفة
ينشجون
ينشجون
كأنّي قاتلهم الوحيد
يا الله.


3

لا شيء مسلّ في الحرب.
ما الممتع في نثر النحاس اللامع
على وهادٍ مظلمة
ثمّ الخروج برفقة أموات الغد
لتفقّد أموات اليوم؟
أيضاً
ما الحكمة في ترك الغلال نهباً للريح
ثم التشكّي من صيف خانق؟

أقول: ما الحكمة وأنا أعني: ما الجدوى؟
وأقول أموات وأنا أعني: حامل قِدْر المَرَق البارد، المذخّر أشقر الشعر وجندي الاستطلاع المعفّر، أو حتى المراسل الحربي الذي منعته والدته من القدوم لأنها سمعت حظّه في الراديو، فمات على باب الفرن.

ويتركون لكَ رسائل لإيصالها
لقروياتٍ لفحتهم آلام الحصاد
يتركون حقائبَ محشوّة بخرقٍ وقصائد مكتوبة بإملاء ضعيف
يتركون
أغانٍ لتقولها بصوتٍ جهير، عند مقعدٍ في حديقةٍ مهجورة
أو شجرةٍ غادرتها الطيور على عجل
يتركون حيواتٍ بأكملها، لتوجزها بسطرين في مأتم
ودماً كثيراً
يغطي وسادتك عند النوم.

يتركون لك
مساكب تزرعها
واحتفالات ترقص فيها عنهم
يتركون أحلامهم في عهدتك
يخبّئون أسماءهم لديك
لتجيب أمهاتهم حين ينادين
يتركون
ألمهم
لتبكي حين ينزفون.
يتركون لك أسماء مواليدهم المفترضين، نزاعاتهم مع الزوجات الغيورات، أغطيتهم الملوّنة، غرف استقبالهم، ديون ليلة الزفاف
لتُنشئ من كلّ هذا حياةً لهم
تبكيها
عندما يُقتلون.

لا شيء مسلّ هنا
إذا استثنينا الأعداء ذوي اللهجة المضحكة
لا سبيل للعيش تحت قصف هذه العائلة
وفي أنياب هذا الذئب.

لا حكايات هنا إلا الموت
لأن
ما من شيء يحيا إلا الموت
نرى منازل أهلنا ولا ترانا
نرى الهضبة البيضاء
ونخرج إلى الطرق الوسيعة
ونلعب بالكرات الليّنة
ثم ندخل
ونموت خفافاً، على أسرّة خشبية
وترثينا بكلماتٍ سوداء
منازلٌ
رأينا مداخنها
ولم ترنا.

وفي حجراتٍ مظلمة
لمعتْ
دموعُ من فاجأناهم يمضغون آخر الأرغفة.

الحرب
تشبه تجوالاً لاهياً بين غرف الموتى
تشبه
أن ترفع بطرف الحَرْبة، صحناً فارغاً
وتجد
الزمان كلّه، على المائدة.