استغلال الجهاديين الاضطرابات..

تحليل: هل تنجح الاستراتيجية الفرنسية تأمين مصالح الساحل الأفريقي؟

الحقائق الاستراتيجية ستكون الفيصل على الأرض

لندن

تدفع الاستراتيجية الفرنسية المعتمدة على تأمين مصالحها في دول الساحل الأفريقي والصحراء عبر الربط بين الأمن والتنمية في حل مشكلات المنطقة دون تنسيق مع القوة الأكبر في العالم، والتي خلقت تدخلاتها المزيد من الفوضى، باتجاه ترك مساحة للعب قوى جديدة هناك تتقدمها روسيا والصين بعد أن باتت القارة تمثل ساحة صراع اقتصادي، يرى محللون استراتيجيون أن له تداعيات عسكريّة وسياسية وخيمة وقد لا تنتهي أبدا.

يدق الانقلاب العسكري في مالي ناقوس الخطر في جميع أنحاء الساحل والصحراء وغرب أفريقيا، وهي مناطق مهددة منذ سنوات من جانب المتشددين الإسلاميين، الذين يعملون ضمن جماعات ينتمي كل منها إلى تنظيم معين، ولا يمكنها تحمل المزيد من عدم الاستقرار.

ويبدو أن التحرك الفرنسي الأحادي والفوضى التي خلفتها الولايات المتحدة نتيجة الارتجال السياسي لقادتها وعدم فهم طبيعة تلك المنطقة خاصة منذ أن زج البلدان بقوات عسكرية لمساعدة حكومات المنطقة على مواجهة المتطرفين، لكن هناك دلائل كون تلك الاستراتيجية أثمرت نتائج عكسية.

وقد جسد الباحث صموئيل راماني، الذي كتب تقريرا نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية قبل أيام تلك الحالة حتى أنه رأى أن ما يحصل بالفعل يدفع منطقة الساحل والصحراء إلى أحضان كل من روسيا والصين، اللتين تبحثان عن موطئ قدم لهما هناك ضمن سياسة ناعمة مع العمل على مزاحمة فرنسا والولايات المتحدة لكسب تأييد حكومات المنطقة.

ولكن التساؤل المهم الآن، هو لماذا قد تهتم موسكو وبكين بمنطقة مضطربة لاسيما وأنه لا أحد من المحللين والأكاديميين يتوقع أنها ستشهد استقرارا في المدى القريب، وهل لديهما المقاربات المختلفة عن باريس وواشنطن في التعامل مع الأزمات الساخنة في الساحل والصحراء؟

تاريخ مضطرب

يخشى بعض المحللين من أن يستغل الجهاديون الاضطرابات السياسية، وفي مالي تحديدا، حيث تستمر الهجمات الدموية في البلد وعبر حدوده مع بوركينا فاسو والنيجر، وهذا المعطى يغذي النظرية السائدة بأن الاستراتيجية العسكرية الفرنسية بها ثغرات وتعتريها الكثير من النقائص والعيوب.

ولأن السفر في مساحات شاسعة من منطقة الساحل شبه القاحلة شديد الخطورة، حيث قتل نحو ألفي شخص في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، وهي أعلى حصيلة منذ بدء الأزمة في عام 2012، وفقا لمشروع بيانات مواقع وأحداث النزاع المسلح، فإن التعامل مع مجريات الأحداث بالأسلوب القديم فيه الكثير من المخاطرة، كما أنه لن يحقق الأهداف المرسومة.

وتشهد منطقة الساحل، وهي منطقة شبه قاحلة جنوب الصحراء الكبرى تمتد من السنغال إلى إريتريا، أزمة أمنية كبيرة، فمنذ عام 2016، تضاعفت الهجمات الإرهابية خمسة أضعاف في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، حتى أن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قالت في فبراير الماضي إن 4 آلاف شخص في بوركينا فاسو يتعرضون للنزوح كل يوم بسبب العنف السياسي.

ويقول راماني، وهو طالب دكتوراه في السياسة والعلاقات الدولية بكلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، إن مسار العنف المتصاعد استمر على الرغم من انتشار جائحة كورونا، ويهدد انقلاب 18 أغسطس الماضي، والذي أطاح بالرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا من السلطة، بمزيد من زعزعة الاستقرار في منطقة هشة بالفعل.

وأوضح راماني أنه استنادا للمسار الطويل من القلاقل في المنطقة وعدم تمكن بعض الأنظمة السياسية للدول هناك من السيطرة على الأوضاع ومع استمرار تدهور الوضع الأمني في منطقة الساحل، تتم فعليا بين دوائر صنع القرار سواء في أفريقيا أو الدول الفاعلة في المنطقة مناقشة أسباب تصاعد العنف بشكل منتظم، لكن لا أحد يتخذ الإجراءات المناسبة لمواجهته.

وبدأ الصراع على أفريقيا في شمالها وغربها ووسطها بين قوى استعماريّة تقليدية للقارة وبين الولايات المتحدة، ولئن تمكنت واشنطن من إضعاف النفوذ الفرنسي نسبيا لكنها لم تستطع نَقْل قيادة أفريكوم إلى القارة بسبب رفض جميع قادتها وحكوماتها الطلب الأميركي.

وتؤكد وزارة الخارجية الأميركية بشكل روتيني على دور الجماعات الإرهابية، مثل القاعدة وداعش، في إثارة الأزمة الأمنية في الساحل، كما تسلط التقارير الدورية الواردة من وكالات التنمية ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الضوء بانتظام على مؤسسات الدولة الهشة والاستبداد وتغير المناخ كعوامل تسبب عدم الاستقرار.

ومع ذلك، تتأرجح مواقف صناع السياسة حول ما إذا كان ينبغي تخصيص الموارد لجهود مكافحة الإرهاب أو لمبادرات التنمية، وهذا المعطى في حد ذاته يشكل صداعا مزمنا للجميع وهو يعري بشكل واضح مدى تضخم خليط الارتباك والفوضى في طريق اختيار الأولويات بالنظر إلى مجموعة من المحددات.

وعلى الرغم من هذه المناقشات المكثفة، غالبا ما يتم تجاهل أحد العوامل الحيوية التي تساهم في انعدام الأمن في منطقة الساحل، وهي أزمة الحوكمة الدولية. وبدلا من اتخاذ خطوات بناءة لمعالجة مجموعة التحديات، التي تواجه منطقة الساحل، تعمل القوى العظمى والمؤسسات الإقليمية على تفاقم مشكلات المنطقة.

خطط ارتجالية

نظرا لتركيزها الشديد على المنافسة الجيوستراتيجية والموازنة بين الاستبداد والاستقرار، فقد عملت القوى العظمى مثل فرنسا والولايات المتحدة وروسيا والصين، على الحفاظ على استدامة الظروف، مثل الفساد ومؤسسات الدولة الهشة، التي تساهم في تصاعد العنف السياسي في المنطقة.

وقد فاقمت المؤسسات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) من أزمة الحكم بسبب الافتقار إلى التنسيق الاستراتيجي واستخدامهم غير الفعال للموارد العسكرية.

وعلى الرغم من اشتداد المنافسة بين القوى العظمى في منطقة الساحل في السنوات الأخيرة، تظل فرنسا المزود الأمني المهيمن في المنطقة. ففي يناير 2013، استجابت فرنسا لطلب رسمي من الحكومة المالية للحصول على المساعدة من خلال إطلاق عملية “سيرفال” العسكرية، وهي تدخل لمكافحة الإرهاب أوقف تقدم المسلحين الإسلاميين المتطرفين من شمال مالي إلى وسطها.

وبعد عام ونصف العام من ذلك التدخل، شرعت فرنسا ودول الساحل، وهي بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، في حملة لمكافحة الإرهاب على مستوى المنطقة تسمى عملية “برخان”، تشكلت من قوة خاصة قوامها خمسة آلاف جندي وتقدر التكلفة السنوية لنشرها بنحو 600 مليون يورو (715 مليون دولار).

واستطاعت هذه العملية قتل العديد من القادة الجهاديين الرئيسيين، وكان أبرزهم عبدالمالك دروكدال، زعيم فرع القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الذي قتل في غارة جوية فرنسية مطلع يونيو الماضي، وقد شكل إنجازا مهما، بحسب المراقبين، في طريق إضعاف نشاط الجماعات المتطرفة.

وليس هذا فحسب، بل تعاونت فرنسا عسكريا مع بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي، حيث تنشر هذه البعثة ما يصل إلى 13 ألف جندي وحوالي ألفي ضابط شرطة في منطقة الساحل وترصد انتهاكات حقوق الإنسان، التي ترتكبها الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون في المنطقة.

ومع كل هذه النجاحات العسكرية، أدى نهج فرنسا في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل إلى تفاقم الأزمة الأمنية في المنطقة، فرغم أن العمليات العسكرية الفرنسية تعتمد على الاستخبارات الأميركية والدعم اللوجستي من حوالي 800 فرد أميركي منتشرين في النيجر، فإن تفضيل فرنسا للتصرف الأحادي في غرب قارة أفريقيا قد حد من قدرتها على العمل مع واشنطن على تطوير استراتيجية أمنية إقليمية.

وما يدل على ذلك حينما أغضبت فرنسا في عام 2017 البيت الأبيض بعد أن قدمت اقتراحا للأمم المتحدة يدعو إلى نشر قوة أمنية أفريقية قوامها 5 آلاف رجل في منطقة الساحل، حيث اعتبره الأميركيون خطوة منفردة لأنه لم يشرك الولايات المتحدة في المشاورات بشأن خطط باريس قبل عرض مشروع القرار.

وخلال الأشهر الأخيرة أصبحت العواقب السلبية لتصرفات فرنسا أحادية الجانب واضحة ويؤكد توسع العنف السياسي في منطقة الساحل، على الرغم من زيادة الوجود العسكري الفرنسي من حوالي 4500 إلى 5100 جندي في فبراير الماضي، عجز باريس عن حل الأزمة الأمنية في الساحل بمفردها ويزيد من خطر التمدد العسكري الفرنسي المفرط في غرب أفريقيا.