شجون الهجرة في "غربة بلون الرمل"..

ألهذا الحد قهرتكِ الغربةُ؟

النصّ مفعم بالتثاقف الحضاري، الذي يعني التفاعل والاحتكاك بين المجتمعات المختلفة

رحمن خضير عباس

"ألهذا الحد قهرتكِ الغربةُ؟"


قد توجز هذه العبارة الصغيرة التي وردت في أحد فصول رواية "غربة بلون الرمل" فحوى الرواية ودواعي كتابتها. إنها الغربة في جحيم تجلياتها، سواء كانت بشكل طوعي أو اضطراري، وهي للكاتب المغربي الحافظ الزبور، والذي يعيش في مدينة مونتريال الكندية/ مقاطعة كيبيك، ويعمل مستشارا في الإدماج الاجتماعي. صدرت الرواية هذا العام ( 2020) عن روافد للنشر والتوزيع في القاهرة .


 يكتسب العمل الفني حرارته من وهج التجربة، لذلك فقد قدّم لنا الكاتب رؤيته عن مفهوم الهجرة، لأنه جرّبها بنفسه، وقد كان طرحه على مسارين متناقضين من الهجرة والهجرة المضادة. 


بطل الرواية (بيير) مواطن كندي من أصول كيبيكية، وكانَ من أتباع الكنيسة الكاثولكية التي كانت تسيطر على مقاليد الدين والدولة حتى مرحلة الستينيات من القرن الماضي. وقد أصبح قسّاً في التدرج الكنسي، ولكنه كان يختلف مع الأساقفة ورجال الدين في طريقة حكمهم التعسفي الثيوقراطي، والذي لا يؤمن بالحريات العامة خارج سلطة الكنيسة. لذلك فقد اتجه فكريا نحو النقيض، وتشبّع بالفكر الاشتراكي، معجبا برموزه كجيفارا وسلفادور الليندي، ونتيجة اختلافه مع الفكر الكنسي، فقد تخلّى عن جبّته  الكهنوتية، واتجه إلى الحياة المدنية، حيث مارس عمله كمهندس زراعي في مدينة مونتريال.  


وقد منحنا الكاتب الحافظ الزبور فكرة عن "الثورة الهادئة" التي اجتاحت كيبك في الستينيات من القرن الماضي، والتي سحبت البساط من سلطة الكنيسة على المجتمع، فأصبح الكيبيكيون تحت حكم علماني، يؤمن بفصل الدين عن الدولة، وقد شكّل ذلك قفزة في المجتمع، وكان هذا الإنجاز ينسجم مع أفكار بيير المتحررة، التي جعلته ينفتح على أغلب المهاجرين الذين يأتون إلى كندا من مختلف دول العالم، ومنهم (عزيز) المغربي الذي تخرج كمهندس زراعي وعُين في الدار البيضاء، ولكنّه كان يعيش حلم الهجرة إلى كندا، فأقنع زوجته الطبيبة بشرى بترك المغرب، لتحقيق مستقبل جميل، ولكنه اصطدم بواقع آخر، وهو صعوبة الحصول على عمل في حقل اختصاصه، لأن نقابة المهندسين لا تقبل المهاجرين إلا بعد امتحانات عسيرة، فاشتغل سأئق تاكسي، وانجرف بفعل عوامل الإحباط واليأس إلى الإدمان على الخمر والمتع الطارئة، مما أثّر سلبا على علاقته بزوجته التي طلبت الانفصال عنه. 

لقد أورد الكاتب بشكل غير مباشر قحط وبساطة البنية التحتية لمنطقة كولميم، التي تنتمي إلى هذا التصنيف المتعسف، عن قطعان الجمال التي تمخر الصحراء، عن الطبيعة الجبلية، والأفجاج التي تأخذ مسارها عبر الصخور، تحدّثَ عن المغارات التي تغوص في المرتفعات ، وعن الطرق التي تتلوى على القمم الجبلية الشاهقة، وعن الحمامات الكبريتية والتي تعالج أمراض الجلد، وعن حرارة الصيف، وقسوة الحياة، وصعوبة التنقل، ووعورة البيئة التي هي مزيج من الجبال الصخرية والصحارى الرملية. وقد تعاقد بيير مع الحكومة المغربية، من خلال إعلان في صحيفة مغربية، تعلن عن الحاجة إلى كفاءات في مجال الزراعة الحديثة. وتمّ قبوله كخبير زراعي في مدينة كولميم التي تقع في الجنوب المغربي ذي البيئة الصحراوية. 


وحينما وصل بيير إلى هناك، أخذ يتلمس الحياة الصحراوية، برملها وكثبانها وقسوة أجوائها، كما تعرّف على عادات أهل المدينة وتقاليدهم، من خلال معرفته ببعض البسطاء من أفراد المجتمع، مثل حسن التوريس ومحيجيبة الدلالة وغيرهم. ويتم استدعاؤه لإلقاء محاضرة في المعهد الزراعي لمنطقة آيت ملّول، ويُجابه بسؤال سياسي محرج  من أحد التلامذة الراديكاليين، ورغم أن بيير كان قادرا على تجاوز الإجابة عن السؤال، باعتباره خارج نطاق المحاضرة.

ولكنّه أعلن رأيه الصريح، دون معرفة العواقب، وعلى أثرها هتف الطلبة بشعارات ثورية، تمجّد شخصية جيفارا. وكان رد فعل السلطات المغربية في غير توقعاته، فقد تمّ استدعاؤه والتحقيق معه بتهمة تحريض الطلبة، ولم ينقذه من الطرد من المغرب الإ تدخل السفير الكندي، والذي نصحه بأن يكون محافظا على خصوصيات البلد المضيّف.


أما عزيز فقد بقي على سلوكه العبثي التدميري لذاته، من إدمان على الخمر، وقد أصيب بداء السرطان الذي لم يمهله طويلا، وقد طلب في وصيته أن يُدفن في تراب الوطن، كما كتب رسالة إلى بيير، تتضمن حجم أسفه في انفصاله عن زوجته بشرى وأطفاله، وعن ندمه على انجرافه في تلبية نداءات الجسد وشهواته في الجنس والكحول. ويتعرف بيير على عائلة الفقيد  في مدينة الدار البيضاء، ويؤدي طقوس الدفن معهم، ويتسنى له رؤية واقع مستشفيات المدينة التي تفتقر إلى الرعاية والتجهيزات، فيطرح على بشرى أن يعودا معا إلى المغرب لفتح مشروع استشفائي، يتحمل بيير نفقاته، وتتكفل بشرى بإدارته. 


 بعد هذه النبذة السريعة للرواية التي جاوزت الأربعمائة صفحة، ماذا أرادت الرواية قوله؟


لنتأمل الرمل الذي استعار الكاتبُ لونَهُ لوصف الغربة. هذا الرمل الذي يبدو وجودا لا نهائيا. ولكنه في حقيقته تكوين لمئات الملايين من السنين، ورغم أنّ لونه يُكتسب من طبيعة الصخور.

ولكنّ امتداداته الهائلة، وألوانه وندرته وقسوته في الصيف، وحركاته التي تغير المسارات، هي التي جعلت الكاتب يربطه بالغربة، فما أقساها، لا سيما إذا كانت هي البديل عن القحط المعيشي الذي تعيشه الأوطان، في عدم قدرتها على ترويض الرمل، وجعله أكثر حنانا في احتضان أبنائه. هذا الرمل الشحيح العطاء، استطاع أن يمنحَ إنسانه الأصالة في الكرم والنبل والبساطة. 


ينتهج الكاتب أسلوب الاسترجاع (الفلاش باك) لبناء شخوصه الروائية ونمو أحداثه، وذلك من خلال النمو التدريجي الذي يأتي في سياق النص الذي يتركه الكاتب، ليعود إليه مرة أخرى، من أجل إشباعه بما يتعلق به من معلومات وأحداث، قد يقدمها الكاتب على هيئة جرعات صغيرة، وهكذا يستمر البناء السردي بشكل متأنٍ ليصل إلى صورته المتكاملة. وهذا ينطبق على بناء أغلب أبطاله، فلم نتعرف على بيير أو عزيز أو حسن التوريس دفعة واحدة، وإنما بشكل تدريجي ومتزامن مع أجواء السرد.   


وهذا ما وجدناه في إحباطات عزيز وعلاقاته العاطفية والجنسية المتشعبة، وهو من الشخصيات الجدلية، فقد كان ضحية لوهم كبير لم ينجل حتى رحيله الأبدي. وكذلك عشيقته الشيلية كرسيلا، التي لم تجد عملا في مونتريال سوى أن تصبح نادلة في أحد البارات، بعد أن كانت محامية في بلدها كولومبيا. وقد دافعت عن ضحايا تجار المخدرات في بلدها، ودخلت عالم السياسة لتصحيح الوضع، ولكنّ قوة المافيا هناك حاولت اغتيالها. ولم تجد من يدافع عنها حتى من بين فقراء العاصمة الذين دافعت عنهم، لذلك لجأت إلى كندا.


صحيح أنها تخلصت من أخطار المافيا، ولكنها بقيت على الهامش، لأنها لم تطوّر مهاراتها ودراستها في المحاماة، فلم تجد سوى الأعمال الرثة، كنادلة في بار ليلي، وتتعامل مع العيّنات التي تبحث عن اللذة في العلب والبارات الليلية.    


لقد كان النصّ مفعما بالتثاقف الحضاري، الذي يعني التفاعل والاحتكاك بين المجتمعات المختلفة، بين بريق الثلج الكندي، وعَتَمَة الرمل الگولميمي. فبيير الكيبيكي يجد نفسه أمام فضاء واسع من (الكلچر) المغربي الصحراري. ولاسيما منطقة وادنون، وولع النسوة بالأساور الفضية، وتقاليد الأعراس التي تقام هناك وما يرافقها من أفراح، وطبيعة السكن، ونوع مفروشاته، وغرف الضيوف وطريقة طهي الطعام، وعلاقات القرابة بين الناس، والسلوك المتبادل بين الجيران من تطفل على بعضهم البعض، والذي يعتبر كسلوكية شائعة، كما وصف تقاليد (الأتاي) الصحراوي، وما يرافقه من اكسسوارات، وطريقة تقديمه التي تتأسس عليها روح الألفة، فاحتساء الشاي في الصحراء المغربية يقترب من الطقس الروحي ذي الملامح الجمعية.

كما يصف لنا النص الزيارات العفوية بين أفراد المدينة الواحدة، والتي لا ترتبط بموعد مسبق، وتقاليد صوم رمضان، واتجاه الناس لأداء طقوسهم وشعائرهم الدينية. 


كما تنقلت الروايا في كثير من هذه المدلولات المترسخة في المجتمع الصحراوي من خلال منظور أجنبي تنتابه مزيجٌ من الدهشة المشوبة بالحيرة. ولم تقتصر الرواية على سرد الكثير من التفاصيل، بل تشبعت بتضاريس المكان، ووصفت الزوايا غير المرئية من الحياة، وأجواء المدن الصحراوية النائية والمنسية، والتي صنّفها الجنرال الفرنسي ليوطي في عهد الحماية ، بالمغرب غير النافع!  

هذه البيئة الشحيحة في عطائها، حيث يجد إنسانها نوعا من الوهن، فيضع بديلا لذلك في أحلام الرحيل والتغرب عن حبيبات الرمل، فيذهب البعض إلى أمهات المدن المغربية، وبعضهم يذهب إلى الخارج إذا أتيحت له الفرص والظروف، ولكنهم يبقون معلقين بسحر مدنهم، وبيوتهم التي شهدت خطواتهم الأولى، هذا البيت الذي عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي باشلر: "البيت الذي وُلدنا فيه محفور بشكل مادي في دواخلنا". 


وفي إطار ذات التثاقف الحضاري، فقد كانت الرواية زاخرة بطبيعة بعض الأمكنة البديلة التي أصبحت قبلة للمهاجرين الذين يبحثون عن سقف آخر. وهي كندا، وخاصة مدنها الفرنكوفونية، والتي تستقبل الكثير من المغاربة، لسهولة الاندماج اللغوي.

وقد سبر الكاتب قاع مدينة مونتريال، وأماكنها التي تستقطب العناصر المهمشة من المهاجرين، الذين كانوا يحلمون بالمال والعمل، وقد تنقل بنا بين جان تالون وسان ديني وسنت كاثرين. والمقاهي الرديئة والبارات وأماكن اللهو في هذه المدينة المترامية الأطراف، والتي يخيّم عليها شتاءٌ ثقيل، هو الأكثر برودة في العالم.


ولكنّ برودة الطقس تُصبح محتملة، إذا قيست ببرودة العلاقات الاجتماعية، التي تميل إلى نوع من العزلة، بعكس العلاقات الاجتماعية المغربية التي تتميز  بالحرارة.


لقد أكدت الرواية على أن الهجرة ليست نزهة محفوفة بالورود، فقد تكون ناجحة للبعض، وفاشلة للبعض الآخر، فهذا المهاجر الذي ترك الوطن لأسباب متعددة، قد يحقق بعض الإنجازات التي ترافق مسار حياته، ولكنه سيفقد جذره، ويبقى معلقا في الهواء.