قناة النيل الإخبارية..

الإعلام الوثائقي وحقوق الإنسان.. من يدفع للزمار؟

قناة النيل الإخبارية لا تستطيع المنافسة في إنتاج أعمال وثائقية

سعد القرش

في زمن لاحق، بعد أن تكفّ مدافع حروب الإعلام عن قصف هذه الجبهة أو تلك، وتتغير الخرائط الجغرافية، وتتبدل معادلات التحالفات الدولية والإقليمية، وينكشف غطاء الحماية فيعرّي أنظمة هشة تستقوي بأذرع إعلامية احترافية، بعد هذا كله، ربما يتوقف باحث أمام مفارقة إعلامية عمرها الآن نحو عشر سنوات، تتلخص في صمت فضائيات عربية عن تناول قضايا البلد الذي يطلقها، واستهدافها مصر تحديدا، وكأن البضاعة الإعلامية سيصيبها الكساد لو توجهت الكاميرات نحو هدف آخر.

ولكن هذا الزمن اللاحق لم يتأخر كثيرا، وها هي دراسة ترصد تراجع الإعلام المصري وآثاره في تقدم قناة الجزيرة إلى شغل هذا الفراغ، ببرامج وأفلام وثائقية عن قضايا مصيرية مصرية، منها مستقبل نهر النيل.

في دراستها لتأثير السياسات الإعلامية على محتوى الأفلام الوثائقية تسجل الباحثة المصرية دينا محسن أن “الجهة المنتجة” تؤثر في طبيعة المعالجة، وتسلسل عرض الأفكار، فلكل قناة تلفزيونية إخبارية كانت أم وثائقية “أجندتها وسياستها التحريرية التي تؤثر بنسب متفاوتة في محتوى الأفلام الوثائقية”. وكان عراق صدام حسين موضع اهتمام قناة العربية، في برامج وأفلام وثائقية، ولكن قناة الجزيرة تخص الشأن المصري باهتمام لافت، يليه الشأن السوري.

ويجري الانتقاء في قضايا حقوق الإنسان، ففي كلتا القناتين تراجع الاهتمام بقضايا الطفل العربي على سبيل المثال، أمام التركيز على القضايا العربية السياسية التي احتلت فيها قضايا التعذيب المرتبة الأولى، تليها الحروب الأهلية، ثم الثورات العربية، ومشكلات الأقليات، وانتهاء بالممارسات العسكرية.

عينة الدراسة كشفت انعكاس “علاقة الندية” بين العربية والجزيرة على إنتاج أفلام وثائقية، وتوقيت بثها، وإن غابت “هذه الندية” عن إنتاج أفلام وثائقية تناقش قضايا حقوق الإنسان العربي، في ضوء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومنها الحق في الأمان، والتمتع بالشخصية القانونية، واحترام الحياة الخاصة، وحرية الفكر والمعتقد وممارسة الحرية الدينية، وحرية التجمع والمساواة أمام القانون؛ إذ تنعكس ظروف العالم العربي “على أوضاع الحقوق والحريات، فأثرت فيها وحالت دون نموها وازدهارها.. ولم تتمكن الدول العربية من إطلاق المشروع العربي لحقوق الإنسان”، بل إن الخطاب الإسلامي المعاصر يركز على “القضايا العقائدية العبادية، لكن قضية حقوق الإنسان، لم تنل مستوى من الطرح والاهتمام إلا بشكل محدود، غالبا ما تكون من منطق الدفاع عن الإسلام أمام من يتهمه بتجاهل حقوق الإنسان”.

حمل الكتاب عنوان “الإعلام الوثائقي وقضايا حقوق الإنسان”، يقع في 223 صفحة وأصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب. وترصد المؤلفة تراجع إنتاج قناة النيل المصرية لبرامج وأفلام وثائقية تتطرق إلى معظم القضايا السياسية العربية، إلى درجة “عدم إنتاج القناة أفلاما وثائقية تتناول أكثر القضايا مساسا بالأمن القومي المصري وهو ملف دول حوض النيل”، ومستقبل تدفق مياه نهر النيل إلى مصر، في حين أنتجت قناة الجزيرة سلسلة من البرامج الوثائقية عنوانها “صراع على النيل”، وبثتها في يونيو 2011، ومن العناوين المصاحبة لهذا “الصراع” في عنوان هذه السلسلة الوثائقية “ميراث النزاعات”، و”نهاية السيطرة”.

وجاءت سلسلة “صراع على النيل” ضمن انشغال القناة بقضايا حيوية مصرية، ومنها “قضايا التعذيب في السجون المصرية”. ولم تنس المؤلفة التنويه إلى أن الرؤى والمعالجات في الفضائيات التي تمولها حكومات تؤثر في طبيعة الطرح. وهو ما بدا أيضا في بث قناة الجزيرة الوثائقية لفيلم “الصندوق الأسود حماة 1982”، عام 2013، عن “مجزرة” ارتكبها الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في مدينة حماة عام 1982. كما بثت القناة نفسها عام 2013 فيلم “الغجر” الذي أنتجته شركة أردنية عن أقلية في سوريا ولبنان، وكيف أن الحكومتين لا تبذلان دورا في إدماجهم في النسيج المجتمعي، وقد عرض الفيلم “وجهتي النظر حول أوضاع الغجر دون أن يوضح وجهة نظر الحكومة تجاه هذه القضية”.

الفراغ الإعلامي المصري، وفقا للكتاب، يرجع إلى قلة الإمكانات المادية والتقنية والسياسات الإعلامية، فلا تستطيع قناة النيل الإخبارية المنافسة في إنتاج أعمال وثائقية، باستثناء الفترة التالية لثورة 25 يناير 2011، ففيها أنتجت ثلاثة برامج وثائقية هي “اسمي ميدان التحرير”، و”حي على الأوطان”، و”18 يوما” وهي أيام اعتصام الحشود المليونية في ميدان التحرير وميادين مصر، حتى خلع الرئيس السابق حسني مبارك في 11 فبراير 2011.

وعرضت الأعمال الثلاثة في الذكرى الأولى للثورة، يوم 25 يناير 2012، وتمثلت الجرأة في تناول برنامج “اسمي ميدان التحرير”، ومدته 45 دقيقة، ما شهدته مصر منذ عام 2000 “من تدهور سياسي واجتماعي موضحا التجاوزات التي ارتكبتها أجهزة الأمن ضد المواطنين”.

وفي 21 أبريل 2015 لم تجد المؤلفة في المكتبة التسجيلية في التلفزيون المصري “أي أفلام وثائقية تتناول قضايا حقوق الإنسان”.

أمام هذا الفقر، أو الإفقار، بسبب التمويل والبيروقراطية ومعاناة قناة النيل الإخبارية من مركزية اتخاذ القرار، تهتم “قناة الجزيرة بالشأن المصري أكثر من المصريين أنفسهم العاملين بمجال التلفزيون”. وتستشهد الدراسة على ذلك بثلاثة أفلام وثائقية أنتجتها الجزيرة الوثائقية هي “حضرة الضابط”، عام 2011، عن علاقة الشعب بالشرطة بعد ثورة 25 يناير. و”وراء الشمس”، عام 2012، عن الانتهاكات داخل السجون في عهد حسني مبارك. و”تحت المنصة”، عام 2013، عن جانب من اعتصام مؤيدي الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة.

في استناده إلى دراسة ميدانية، يعيد هذا الكتاب الاعتبار إلى التلفزيون الذي جاء في المرتبة الأولى، “كأعلى نسبة اعتماد على وسيلة في الحصول على معلومات حول قضايا حقوق الإنسان”، تليه الإنترنت، ثم النشطاء في مجال حقوق الإنسان “في ترتيب متراجع”، وفي الترتيب الأخير، كأقل نسبة اعتماد في الحصول على معلومات، جاء النشطاء السياسيون.

    وتحوز الأفلام التسجيلية اهتمام قطاعات واسعة من الجماهير، وتزايدت فرصها في الوصول إلى المشاهدين في أرجاء العالم تزامنا مع انتشار البث الفضائي عبر الأقمار الصناعية. وفي عصر الصورة، تكون الأعمال التسجيلية هي الأقدر على التأثير في آراء الجمهور وسلوكه، بما تتضمنه من معلومات وحقائق تقدم في قالب شائق يجمع ميزات الاتصال الجماهيري في انتشاره، والاتصال الشخصي في عمق أثره. ولهذا يرى خبراء إعلاميون في الإنتاج التسجيلي أداة مهمة للإعلام والدعاية.

ويزداد دور المادة الوثائقية، داخليا وخارجيا، في وقت الأزمات. وتضرب الباحثة المثل باهتمام التلفزيون المصري أثناء أحداث 30 يونيو 2013، التي أنهت حكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر، بعرض برامج وثائقية عن دور الجيش في الحفاظ على الوطن، وتوعية الشعب بالدور الوطني للجيش في ظل أجواء التشكيك في المؤسسة العسكرية، وأسهم ذلك “في تعبئة الرأي العام والتأثير على قطاع من الجمهور في الاصطفاف حول المؤسسة العسكرية لمجابهة الإرهاب والعنف”.