تطورات الأوضاع العسكرية والسياسية..

"مجزرة الدبابات".. هل تعطي حقيقة الوضع العسكري في المعركة؟

حضرت الدبابة وغابت الحرفية القتالية

واشنطن

لم يكن يوم 27 سبتمبر 2020 يوما عاديا على جبهة إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان حيث يراقب العالم بدقة تطورات الأوضاع العسكرية والسياسية، فالجيوش النظامية في حيرة بعد التطورات الميدانية المتلاحقة جراء “مجزرة الدبابات”، والتي طرحت أسئلة في صميم تلك التطورات عن مدى فعالية المدرعات والدبابات الحربية في معركة ما تزال متواصلة، وهل ستسجل أكثر المناطق سخونة في القوقاز نهاية الدبابات؟

وضع النزاع بين أرمينيا وأذربيجان على منطقة إقليم ناغورني قره باغ صناع القرار العسكريين حول العالم في حيرة بشأن حقيقة موت الدبابات وتفوق التكنولوجيا الحديثة المتمثلة في الطائرات بدون طيار في الحرب التقليدية بين قوتين نظاميتين تتقاتلان على منطقة ذات تضاريس جبلية وعرة ومفتوحة في بعض الأحيان.

قبل نحو قرن من الزمن، كانت وما تزال الدبابة واحدة من أهم وأقوى الأدوات القتالية الهامة في حسم الحروب، واستخدمت لأول مرة في الحرب العالمية الأولى عام 1914. وكانت بمثابة الحصن المنيع لقوات المشاة في قتالهم ضد الخصوم. الآن بعد الحروب التي شهدها العالم على مدار عقود، طرحت إشكاليات التقنيات والأدوات القتالية المتطورة وتأثيرها على فعالية “الدبابة”، فهل فعلا انتهى عصر تلك الأداة القتالية أم لا؟

يرفض روبرت بيتمان، الكاتب والمؤرخ والضابط السابق في الجيش الأميركي، نظرية انتهاء عصر الدبابة وإمكانية إحالتها على التقاعد خاصة خلال النزاع الدائر حاليا في إقليم ناغورني قره باغ، معتبرا أن الأمر لا يخلو من المبالغة والسخرية نتيجة “لافتقاد كلا الطرفين للكفاءة” في استخدام الدبابة والمدرعة في ساحة المعركة.

واستخدمت أرمينيا وأذربيجان وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الدعاية وحشد الأنصار وزعم التفوق في حرب ما تزال دائرة في تلك المنطقة، وروج البلدان لمقاطع فيديو أظهرت تدميرا واسعا للدبابات والمركبات المدرعة، ومنذ ذاك الحين سرت أنباء عن انتهاء “عصر الدبابة” في الحرب التقليدية بين الجيوش النظامية، وتفوق الطائرات المسيّرة في ساحة المعركة الحالية.

ويقول بيتمان إنه “قد تموت الدبابة، لكن القتال في منطقة قره باغ لا يقدم أي دليل على زوالها”، ويحدد عناصر أساسية في المعركة الحالية تتعلق بـ”التدريب والتضاريس والتكتيكات والمغالطة” لحسم المسألة المتعلقة بنجاح أو فشل تلك الأداة القتالية.

ويوضح أن المغالطة التي يقع الترويج لها تكمن في “الافتراض الخاطئ بأن التكنولوجيا الجديدة والطائرات دون طيار تتفوق على التكنولوجيا القديمة للدبابات المدرعة”.

وتستخدم أذربيجان الطائرات المسيّرة بكثافة في المعارك الدائرة في تلك المنطقة. وتدعمها تركيا بكل قوة في هذا الجانب لتحقيق تفوق عسكري على الخصم اللدود أرمينيا.

ويشير إلى المزاعم المبالغ فيها التي يروج لها كلا الطرفين، حيث تقول أرمينيا وأذربيجان في بياناتهما الصحافية إنه تم تدمير حوالي 130 مركبة مدرعة (أرمينية) و137 (أذرية) في الأيام الأولى للنزاع. ويقول الضابط السابق في الجيش الأميركي إن هذه “النسبة لا تصدق مقارنة بإجمالي عدد قوات الجانبين”.

ويفترض روبرت بيتمان في تقرير نشر في مجلة فورين بوليسي الأميركية أن لدى أذربيجان ما بين 500 و600 دبابة قبل القتال الأخير، بينما تمتلك القوات الأرمينية عددا أصغر، ولم يكن لديها أكثر من بضع مئات من الدبابات العاملة في البداية. ويشير إلى أن الأمر مجرد أرقام سخيفة لا تقدم حقيقة الموقف على الأرض.

وتشير معلومات متداولة عن إمكانيات الجيش الأذربيجاني أنه يمتلك بالفعل معدات عسكرية تتكون من 220 دبابة قتال رئيسية ونحو 590 من المركبات القتالية المدرعة، وليست متوفرة بعد معلومات عن إمكانيات الجيش الأرميني، حيث يعرف بتفوقه الجوي.

ويقول إن الادعاءات الأذرية والأرمينية بشأن موت الدبابات “فارغة، ولا يحتاج المرء إلى التعمق ليدرك أن البيانات الصحافية لكلا الجانبين سخيفة”.

كفاءة القتال

تعتمد الجيوش النظامية على كفاءة جنودها وتدريباتهم ومناوراتهم العسكرية أثناء المعارك لتحقيق النصر على الخصوم. ولا يبدو أن الأمر حاسم في الصراع الدائر على المنطقة الانفصالية في إقليم ناغورني قره باغ للوصول إلى نظرية انتهاء عصر الدبابات وتفوق المسيّرات.

وأعطى القتال في منطقة ناغورني قره باغ وضعية صعبة لحسم مسألة انتهاء الدبابات وتفوق الطائرات بدون طيار في تلك المعركة المدعومة من قوى إقليمية تريد تحقيق أهداف سياسية وتحركها دوافع انتقامية.

وتغذي تركيا الصراع وتقويه عبر دعم أذربيجان بالمرتزقة والطائرات المسيّرة، وروسيا تنظر إلى الدولتين السوفييتيتين على أنهما امتداد طبيعي لها ولا تريد في الوقت نفسه تفاقم الأزمات في الإقليم المتنازع عليه، وهي في صراع نفوذ مع تركيا في أكثر من منطقة.

ويقول روبرت بيتمان إن الروس يزودون أذربيجان بأفضل دباباتهم القتالية من طراز تي – 90 وأن كلا الطرفين يتمتعان بنفس التكنولوجيا العسكرية.

ويضيف أن الطرفين “لا يبدو أي منهما مستوعبا الفكرة أن الدبابة الأكثر تطورا تصبح مجرد خردة معدنية، إذا لم يكن المقاتل داخلها مدربا، ويختلف عرض الدبابات الجديدة اللامعة عن القدرة على استخدامها بكفاءة في ساحة المعركة”.

ويشير إلى أنه يتضح من ساحة معركة قره باغ أن هناك نقصا في فهم فكرة أن فاعلية السلاح تبقى جزءا بسيطا من قيمة تدريب الأشخاص على استخدام هذا النظام بكفاءة.

ويوضح أن “تشكيل المشاة يعود إلى الإغريق قبل ألفي سنة على الأقل، وكان التدريب وليس التكنولوجيا هو القوة المهيمنة”.

ويقول الضابط السابق في الجيش الأميركي إنه عند متابعة مقاطع فيديو تلو الأخرى من ساحة المعركة “ترى دبابات تتجمع كما لو كانت في حركات إدارية، وليست قتالية”.

ويضيف أنه يلاحظ أن “الجنود لا يناورون وهم مشتتون على نطاق واسع كما تستدعي ظروف القتال”. وأنه “بالمثل، تُرى الدبابات في مواقع القتال ثابتة دون أن يبذل الجنود أية محاولة جادة للتمويه في ثوانيهم الأخيرة”.

ويؤكد أن الأمر “عندما يتعلق بالتضاريس، فإن جبال قره باغ الجافة ليست مناسبة للدبابات، حيث يصعب إخفاء الدبابات ضمن الغطاء النباتي. وهذا يجعلها معرضة للخطر بشكل خاص”.

غطاء جوي

لا يوافق الكاتب والمؤرخ الأميركي على أن الدبابات وغيرها من المركبات المدرعة لا يمكن أن تقاوم في ساحة معركة حديثة تهيمن عليها الطائرات دون طيار، معتبرا أن “هذا خطأ”.

ويظهر الصراع الحالي وجود قوتين عسكريتين غير مؤهلتين أو مدربتين بشكل كاف حيث تركتا نفسيهما مفتوحتين أمام غارات جوية من الطائرات الحربية أو المسيّرات.

ويقول روبرت بيتمان إن كل الدمار للدبابات “لا يأتي من التكنولوجيا المتطورة”، حيث تظهر بعض مقاطع الفيديو التي أعيد تغريدها بوضوح دبابات دمرتها ألغام أرضية مضادة للدبابات، وهي تقنية عمرها أكثر من 100 سنة. وأن البعض الآخر أصيب بذخائر بقي نوعها غير واضح.

ويعتبر أنه يمكن أن تساهم المسيّرات في مراكمة الدبابات المدمرة، لكن هذا الأمر يحصل ضد قوات غير مدربة ومجهزة بتقنيات متطورة.

ويوضح أن “في كل مقطع فيديو تقريبا عرضته كل من أرمينيا وأذربيجان، كانت القوات المتعارضة تتصرف مثل هواة، ولا تستخدم أسلحة مشتركة، وتترك نفسها عرضة للهجمات من الجو”.

ويشير إلى أن مدفعية الدفاع الجوي تعتبر مكونا حاسما للقوة البرية، ولاسيما ضمن الجيوش التي لا تمتلك قوة جوية كبيرة. وذكّر بما قاله الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ذات مرة، في إشارة إلى الدفاعات النازية، “بنى هتلر حصنا حول أوروبا، لكنه نسي أن يضع سقفا عليه”.

ويقول إن الأمر مشابه في الصراع في منطقة قره باغ، إذ أن “الطائرات دون طيار ليست شبحية أو طائرات تسقط ذخائر من ارتفاع 50.000 قدم، بل يمكن إسقاطها بسهولة نسبية بالمعدات والتدريب المناسبين”.

ويوضح الضابط السابق في الجيش الأميركي أن “الطائرات دون طيار ستشكل تهديدا متزايدا، لكن يسهل إسقاط تلك الطائرات رخيصة الثمن أيضا، ويمكن للقوات الحديثة ذات الأسلحة المختلطة أن تضع حدا لهذا التهديد القادم من السماء”.

ويضيف أن “في مواجهة قوات استعراضية برية لم تخصص معظم ميزانياتها للتدريب بل لشراء أحدث الألعاب، ستفوز أي قوة محترفة حديثة”.