إبعاد كوفيد ـ 19 عن دائرة الأسباب المحتملة..

تقرير: تنفيذية منظمة التحرير بعد وفاة عريقات واستقالة عشراوي؟

عقل مدرّب على المقارنة والتحليل

عدلي صادق

واضح أن السيدة حنان عشراوي، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، هي التي تعمّدت تسريب خبر استقالتها إلى وسائل الإعلام. فبعد نشر النبأ المسرّب، لم تنف عشراوي أنها تقدمت باستقالتها، وتركت للمهتمين بالشأن الداخلي الفلسطيني الاسترسال في التحليلات استنادا إلى ما جاء في الخبر المقتضب، الذي حرصت فيه عشراوي على إبعاد كوفيد ـ 19 عن دائرة الأسباب المحتملة.

وفي الحقيقة كان هذا الأسلوب في طرح موضوع الاستقالة، يعكس إحدى أسوأ سلبيات الطبقة السياسية الفلسطينية، التي تستنكف تماما عن المجاهرة بما لديها بخصوص الأوضاع الداخلية للسلطة ومنظمة التحرير، ما ساعد رئيس “تنفيذية” المنظمة ورئيس السلطة، على التمادي في التفرّد. فقد كان جديرا بعشراوي أن تقف وتضع النقاط على حروف استقالتها، وليس أن تتقدم بها دون إعلان، ثم عندما يقابل عباس الاستقالة بالإهمال وعدم الردّ، تضطر إلى التسريب. فهذه ممارسة تدعو إلى الرثاء وتؤكد مرة أخرى على عجز الطبقة السياسية وعدم صلاحيتها.

إن كان بعض الشبان الشجعان، يجاهرون بمواقفهم وهم غير محصّنين بشيء، ولم يأخذوا من أسباب القدرة على التواصل مع العالم، شيئا مما تسنّى لعشراوي، فمن العيب على عضو في “تنفيذية” المنظمة، سواء عشراوي أو غيرها، أن يجبن عن طرح موقفه، وهو في غير متناول أجهزة أمن عباس بما له من وزن أو بما توافر له من القدرة على إحراج عباس أمام الرأي العام والإقليم والعالم، في حال استهدفته آلة القمع. فمعنى ذلك أن المشكلة ليست عند عباس وحده، وإنما عند الطبقة السياسية التي اختارها وتعمّد صياغتها بنفسه لكي يضمن رضوخها.

كان عباس ولا يزال، بارعا في التكتيكات المحلية التي تتطلب دهاء يحاكي أفلام الأبيض والأسود لفريد شوقي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن

واضح أن السيدة عشراوي، قد أخذت علما بما لدى عباس من خيارات أو توجهات لتسمية أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بعد وفاة الدكتور صائب عريقات. ومن يعرفون عباس، متأكدون أن الرجل لا يتورّع عن تكليف دُمية، بلا تأهيل، بشغل هذا الموقع المهم الذي يُفترض أنه المنصب التالي في الأهمية بعد منصب الرئاسة.

وبينما الفلسطينيون يمرون بظروف دقيقة، فإن عقلا مدرّبا على المقارنة والتحليل، كعقل عشراوي، لا بد أنه استشعر الخطر من خيارات عباس المُضمرة، أو إن حنان، قرأت تلكؤ عباس في تسمية من يشغل المنصب مؤقتا، أو في أن يدعو إلى اجتماع للمجلس المركزي للمنظمة لاختيار من يشغل المنصب. فلقد بلغ السيل الزبى، وربما عباس نفسه أصبح على علم بأن الأمور اختلفت الآن، وأن الطبقة السياسية التي صبرت طويلا على تجاوزاته، لم تعد قادرة على الصبر أكثر، فما بالنا بالمجتمع المدني والقوى السياسية و“العب” كله!

في حال طرح مسألة منصب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والتحذير من التباطؤ في ملء الشاغر؛ بعد وفاة أخينا عريقات رحمه الله؛ ربما يتبادر إلى أذهان البعض، أننا نختلق إشكاليات لكي نكتب عنها، وهذا غير صحيح. فمعمل إنتاج الإشكاليات والسجالات المريرة والتباغضات، موجود في “المقاطعة”، أما الأمور التي يلحّ الوطنيون على وجوب تسويتها، فهي تلك التي صنعها “المعلم كرشة” صاحب المقهى وصانع العاهات، في ثلاثية نجيب محفوظ!

استقر العُرف ـ بشفاعة سابقة واحدة، استفاد منها رئيس السلطة الحالي ـ على أن يكون أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير؛ هو التالي في رئاسة السلطة، بعد شغور المنصب. وهذا هو السبب الذي جعل عتاولة الحاشية، يتذمرون من تعيين الراحل عريقات في المنصب. أحدهم، وهو جبريل الرجوب، قال لكاتب هذه السطور: لا يجوز المجيء بواحد من آخر الصف، وتقديمه ثم وضعه في أول الصف. يومها، كان صاحبنا القائل ـ ولا يزال ـ يتوهم أن الصف هو الرهط الناشط المتواجد حول عباس، وأن هذا الرهط دون سواه، هو الذي يختزل الحركة الوطنية والنُخب السياسية والشعب!

مرّت فترة الراحل عريقات في شغل المنصب، دون أن تحظى أمانة سر اللجنة التنفيذية، بأي ملـمح من الأهمية. ثم باغت المرض الصدري الرجل، فعولج بزرع رِئة، وهجعت الحاشية. ولما هجم كوفيد ـ 19 على أمين سر اللجنة التنفيذية، ثم انتقل إلى جوار ربه؛ تخطت مراثي الحاسدين، في التأسي، حدود كل المناصب، لكن البسطاء الأوفياء الصادقين، ترحّموا على الرجل، إن لم يكن لدوره السياسي، فلطبائعه الإنسانية النَديّة، ولمثابرته على الرغم من السُقام.

في حياة صائب، لم يكن الواهمون المتطلعون إلى الخلافة، يعدّونه، حتى وهو مُعافى، من بين “المُحتَملين” للوراثة. فهو عندهم كان وقضى وهو في آخر الطابور الموهوم. آنذاك، تراجع “العُرف” الذي يجعل شاغل منصب أمين سر “التنفيذية” وارثا الرئاسة في حال شغورها، وانفتح المجال لسباق بين الطامحين، ليس له ميدان سوى مجالس النميمة. ولم يخطر ببال الذين قللوا من شأن “أمين السر” أن هذا المنصب هو المفتاح الوحيد الباقي، لفك أحجية الوراثة، وتسهيل الانتقال السلمي للسلطة، وتحاشي كارثة النزاع الداخلي، طالما لا مؤسسات تشتغل، ولم يُرفع الصدأ عن محرك منظمة التحرير وجسمها.

الأطرف أن مخترعي أكذوبة محمد دحلان كمتربص للسلطة، يحلم بالنزول بالباراشوت لكي يتسلم الرئاسة ويتنعّم بهكذا جنون؛ هم أنفسهم الذين لا يزالون يتحضرون فعليا للانقضاض على الحكم. الفارق بين سيناريو الأكذوبة في سياقها الإخواني والعباسي الطويل، وسيناريو الحقيقة في تجلياتها المشهودة، هو أن الأخير يمثله الطامحون الموجودون على الأرض، والموجودون في أكناف “المقاطعة” أي في مركز الحكم الراهن، وبطاقاتهم المهمة معهم، ولا حاجة إلى باراشوت لن يرضى به حتى المظليّ الجاهل إن أراد الهبوط على جزيرة أقزام.

قلنا مرارا إن عباس بارع في التكتيكات المحلية بقدر ما هو جاهل ولا يصلح للعرض على منصة التكتيكات السياسية. نحن لا نظلم الرجل. فكل الناس تعرف تكتيكاته، بدءا من أيام استخدام مقولات “تحت الحذاء الإسرائيلي” و”نفتش حقائب الأولاد في المدارس لتشليحهم السكاكين” مرورا بـ”تقديس التنسيق الأمني” والزهو بالتأكيد على أن فخامته جاهز للخدمة على مدار الساعة، وعتبه على المحتلين الذين يتغاضون عن جاهزيته، وصولا إلى تكتيك الحرد وعدم تسلم الأموال، ثم الإعلان عن التراجع عن الحرد، واعتبار التراجع والعودة إلى عمل السخرة في التنسيق الأمني مع الاحتلال، مأثرة وانتصارا!

بينما الفلسطينيون يمرون بظروف دقيقة، فإن عقلا مدرّبا على المقارنة والتحليل، كعقل عشراوي، لا بد أنه استشعر الخطر من خيارات عباس المُضمرة

للأمانة، كان عباس ولا يزال، بارعا في التكتيكات المحلية التي تتطلب دهاء يحاكي أفلام الأبيض والأسود لفريد شوقي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن. فهو اليوم، بعد أن تخطى منتصف العقد التاسع من العمر، وأوصل النظام السياسي الفلسطيني إلى حال الضمور والاعتماد على المستشفى الإسرائيلي؛ بات يعرف أن بدائله محصورة في العنصر الضليع ليس في العلاقة مع المنسق “أبو ركن” وحسب، وإنما في كل ما هو وراء المنسق، في دهاليز العسس، ومنتديات “هرتسيليا”. إن محض الضلوع في وداد مع الحاخامية وحدها، لا يكفي. لذا بات السؤال: كيف يمكن، بعدئذٍ، تأمين الأولاد وما يمتلكون، في ضوء ما ثبت من قلة الوفاء لدى البدائل المتاحة؟

أمام هذا المأزق، لا بد للمحنك من وضع معايير لحسم خياراته. ففي الظواهر الطبيعية ـ مثلما عبّرت عنها الماركسية ـ إن لكل شيء معيارا. المتران طويلان جدا بالنسبة إلى قامة الإنسان، لكنهما قصيران جدا بالنسبة إلى المئذنة. فمعيار هذه غير معيار تلك.

مازالت مهمة الاختيار متعثرة وحساباتها تتعقد. هذه المرة، يمكن أن يُستعاد “العُرف” الذي فتح لأمين السر الذي كانه عباس، الطريق إلى الوراثة التي أخربت بيوتنا. قبل عشر سنوات، كان من اليسير عليه فرض الوريث مسبقا. لكنه اليوم تجاوز الخامسة والثمانين، فماذا سيفعل المغادر إن كان الشعب قد اكتفى من المقالب، وإذا هاج وماج عليه الطامحون، ثم أكملها “أبو ركن” فانحاز إلى خيار آخر، أنتجته البيئة نفسها التي صنعها عباس، ولم تستطع البيئة الوطنية الطبيعية ومؤسساتها، الخروج من محبسها، والصعود إلى المنصة، لكي تحسم أمرها؟