قصة قصيرة..

ربيع الحب في لندن (1)

شارع كوينز واي في العاصمة البريطانية لندن - أرشيف

د. علوي عمر بن فريد
كاتب وباحث تاريخي جنوبي يكتب لدى صحيفة اليوم الثامن

في مثل هذا اليوم من شهر أيار مايو كنت في لندن في مرحلة الشباب والجمال والنشوة والفرح بالحياة يحدوني الأمل في مستقبل واعد أنظر لكل شي أمامي بمنظار التفاؤل و البهجة و السرور .. شاب يمتلئ صحة و حيوية تلمع عيناه و يشع وجهه ألقا و بهاء ..
كنت أمشي في نفس الطريق الذي صادفتها فيه نعم في منطقة كوينز واي .. كنت في رحلة علاجية بمرافقة بعض الأقارب ..
كنت وحيداً في ذلك اليوم الربيعي الجميل ونسمات باردة تهب في مثل تلك الأيام ..
كنت أرتدي جاكت أبيض اللون و ألتحف رباطاً خفيفاً ألفه حول عنقي و أنا عائد إلى المنزل في تالبوت رود, وحيداً بعد أن تركت رفيقاي في المستشفى على أن أعود لهما في اليوم الثاني.. الوحدة قاتلة.. وما أصعبها على شاب وحيد لا يجد مؤنساً ولا رفيقاً ..الناس كثر من حولي في الطرق التي أعبرها ولكن كل واحد محمل بهمومه ومشاغله ..لا يلتفت أحد على الآخر .. الجميع يركضون و يسرعون الخطى كأن القطار سيفوتهم أو سيمضي دونهم يتسابقون للحاق بالمواصلات في الاندرجرواند ..
ويهبطون السلالم مسرعين ..أو يصعدون وهم يجرون للحاق بطوابير الباصات اللندنية الحمراء في الشوارع .. طلاب و طالبات المدارس بزيهم الجميل ينتشرون في الشوارع .. رجال أعمال شرطة .. نساء يتسكعن و يتفرجن على محلات الأزياء .. وعاطلون .. وعابرون يجلسون على المقاهي يقرأون الصحف .. يشربون القهوة يتحاورون .. يتناقشون بهدؤ .. أما أنا فكنت أسير وحيدا لا يلتفت إلي أحد ..
توقفت أمام مكتبة تبيع الكتب العربية و الانجليزية.. ترددت في الدخول , ولكنني تشجعت فدخلت وقفت أمام رف يحوي العديد من العناوين لكتب و مجلات و أشرطة وفجأة رأيتها في المكتبة في الناحية المقابلة لي .. فتاة تماثلني في العمر ذات شعر كستنائي فاتح ينسدل على كتفيها و وجه يشع ضوءاً و يتضوع أريجاً و جمالاً و وجنات حمراء كأنها تفاح لبناني و بشرة الوجه بيضاء مشربه بحمرة خفيفة وعيون سوداء واسعة جميلة تتقد جمالاً و حيوية ..
وجه ملائكي هبط من فضاء آت و عوالم أخرى إلى كوكبنا .. كانت تقف قريبة مني و أنا ألتقط من الرف بعض الكتب و المجلات و أضعها في سلة أحملها بيدي ..
بينما هي كانت تقرأ غلاف أحدث الاسطوانات التقت عيناي بعينيها وتسمر كل واحد منا في مكانه مصعوقاً مندهشاً ينظر إلى الآخر ولا يستطيع أن يرفع بصره عن الآخر ..!!
يا الهي ما هذا الجمال الرباني الذي هبط من السماء في ربيع العمر , فتاة طويلة بيضاء ترتدي ملابس بنجابية إنها من شمال الهند فيها سحر الشرق و عبقه .. وصفائه وبراءته ..
تسللت إلى مسام جسدي تشع نوراُ في خلاياه و توقظها من سباتها .. وتسرب إلى دمي وتجري معه ..
يا الهي إنها لا تزال محفورة في ذاكرتي و أحلام استرجعها طيفاً لا يغيب عني .. إنها أشبه بالسحر و الخيال لم أرى جمال ولا أغرب من هذا الجمال الذي انتصب أمامي .. خيال يفرز واقعاً أغرب منه و أجمل ..
أخذت تبادلني ذهولاً بذهول كأنها لا تستطيع مثلي أن تصدق ما يحدث ..انجذاب لقانون جاذبية الأجسام و الأرواح عندما تلتقي و تتآلف و تتحد .. كأنها تبحث عن نصفها الآخر , الذي كأنه منفصل عنها ..لحظات مرت التقت الأرواح فيها و حلقت في عوالم السحر و الخيال ..
فيض من المشاعر و فوران .. والصمت يغلف المكان و الزمان بيننا والعيون وحدها هي التي تنطق و تترجم المشاعر وتنقل نبضات القلوب التي تتسارع دقاتها ولهفة المشاعر و الحنين إلى الطرف الآخر .. وهو ينسكب رحيقاً و شهداً له طعم و رائحة تنتعش لها كل حواس الجسم و خلايا البدن لم أكن أعرف لها اسماً ولا لغة و لكنني شعرت أننا التقينا واتحدنا في الزمان والمكان ..
لقد استنتجت من لباسها أنها من الهند من ملابسها و قسماتها و جمال الشرق الذي يتجسد في شعرها و يشع حنيناً و بهاء في قسمات وجهها و قوامها الفارع الطول المنتصب كتمثال من الرخام الأبيض ..هي الأخرى شعرت أنني بقسماتي الشرقية قادم من مطلع الشمس من بلاد العرب ولو أن هناك في ملامحي بعض القسمات التي توحي بأنني من شمال الهند ..
صدمات كهربائية هزت وجداني .. وكأن أبراجاً تتهاوى داخل نفسي , وكأن خصائص الحلم قد التقت و وحدت قلبين عاشقين في محطة تمثل محطة التقاء الطرق بين مدن العالم في هذه المكتبة لتحدث معجزة التواصل بين روحين هائمين في سديم الكون ..
و كنا كمن يمضي به الشوق و الدهشة و يتأجج ساعة الوصال و حنيناً و عناقاً في هذا المكان و تخيلت نفسي و أنا أرمي بسلة الكتب التي أحملها بيدي على الأرض و انطلق مثل الإعصار نحوها أحتضنها و أسحق جسمها بين ذراعي ,وهي ترد على عنف اندفاعي بالتحام و بلهفة الشوق و قوته تحيطني بذراعيها و تضغط بصدرها على صدري و فمها على فمي وشعرها يغمر وجهي و يتضوع منه عبير الحب ..
أحسست كأنني أتذوق الشهد من شفتيها و جسمي ينتفض بحمى حرارة اللقاء يتقد كالجمر و اللهب يحرقني .. هذا ما تصورته و تخيلته في تلك الأثناء ..
و رغم ذلك بقيت مزروعا في مكاني أواصل النظر إليها .. و أحسست أن طيفاً من روحي خرج من جسمي و ألتحم معها و يقوم بالمهمة نيابة عني .. و أنا مازلت واقفاً مرتبك مكبل بالخجل و أنعقد لساني عن الكلام فأصبح كقطعة من الخشب أو لوح من الثلج ..
إنها هي من أبحث عنها .. فهي تزورني في منامي و أحلامي .. نفس الفتاة التي أحلم بها أن تصبح حبيبتي .. التي انتظرت سنين صباي و شبابي انتظرها لنحلق معاً في الفضاء و نعبر المستحيل ولن تقف الأعراق و الحواجز بيننا و لن تفرقنا عوادي الزمان ..
و فجأة انتابني شعور بالخوف من فقدانها كما فقدت " منى " التي كانت ذهبت ضحية حادث سير ذات ليلة مظلمة في طريق الجنوب مع أسرتها أصيب فيه أفرادها و نجوا ولكنها ذهبت دون رجعه و دفنت أحلام صباي معها ..
كنت أخشى أن يسرق الزمن الفرح و الغبطة مني .. مازالت تنتصب أمامي في لباسها البنجابي الأرجواني اللون و كأنه منسوج من ضوء الشفق و وجهها يشع نوراً و سحراً و بريق يطل من عينيها السوداويين .. و قفز قلبي وهي تتجه نحوي وكأنها قررت أن تكون أكثر جرأة و إقداماً مني .. وعندما رأيتها تشجعت متقدماً نحوها و أنا أحس بجاذبيتها تشدني إلى الأمام و تشحن كل خلايا جسدي بطاقة هائلة و قوة دافقة و أحسست بالدم ساخن في عروقي ولم أكن أعرف ولم أنتبه إلا أنها كانت تسير نحوهم عندما دخلوا عليها من خلفي إلى المكتبة و قد شاهدتهم بعد سماع ضجيج أصواتهم عندما التفت خلفي لأرى شلة من الشباب و الشابات وهم يلوحون لها بأيديهم و يستعجلونها للانضمام إليهم إنهم فريق مدرستها و زملائها الذين كانوا في رحلة تسوق أتوا من خارج لندن ..
عندما لمحت شعار مدرستهم على صدورهم مكتوباً بالانجليزية " كلية بورموث" وهدير الباص يقف خارج المكتبة و يرتفع صوت الزمور مزمجراً يستعجلهم للخروج من المكتبة .. وشعرت وقتها بأن هؤلاء البشر قد قتلوا كل الموجات العاطفية التي تبادلناها وقد وضعوا بزحامهم حداً لذلك التفاعل الخصب و طمسوا كل حوار كان يمكن أن ينشأ بيني و بينها ..
انتبهت على صوت سائق الباص وهو يدعو الطلبة والطالبات عبر مكبر الصوت يحثهم على الإسراع في ركوب الباص , وقبل أن أفيق من هول المشهد و الصدمة كان الفريق الطلابي قد أحاط بها وجرها معه إلى خارج المكتبة بينما هي تحاول جاهدة أن تخترق الحصار و تستدير أو تتوقف لتودعني .. أخذت تمد رأسها إلى الخلف و قد أكتسى بلون الذهب .. والمصباح يعكس نوره على جدائل شعرها ,وهي فوق الجميع بطولها الفارع ..
التفتت نحوي من وسط الدائرة المحيطة و أنا واقف كتمثال أبي الهول من فرط الدهشة و رمتني بنظرة أخيرة ورفعت يدها ملوحة ..وسمعت كلمة قالتها رغم تداخل الضجيج وصوت المكبر المنطلق من الباص كلما سمعته كلمة "باي " وأنا أقف من دهشتي و ذهولي و رددت نفس الكلمة "باي " وقد خرجت من حلقي عصيه كمن ينتزع شوكة من ثوب من الصوف .. أو حشرجة تخرج من مريض يعاني سكرات الموت عندما يحتضر ..
ذهبت اللحظة , وذهبت الفتاة ولكن وجهها مازال مقيماً في الذاكرة شباباً و ألقاً وحيوية و نضارة , ولم يهرم ولم يتبدل كما هرمت و تبدلت , ولم يجرؤ الزمان الذي مر علي انه يأخذ ذرة واحدة من ألقها و شبابها و جمالها فهي مقيمة في مسام الجسد و خلايا الذاكرة صورة مشرقة و أيقونه جميلة استحضرها وقتما أشاء و يلتهب جسمي و ينتعش فؤداي كلما استحضرت صورتها الجميلة الرائعة رغم السنين ..
-----------------------------
حقوق الطبع محفوظة لصحيفة اليوم الثامن