"سياسة التفتيت"..

تحليل: تأثيرُ التفتيتِ العرقي والطائفي على القضيّة الفلسطينية

يمارس الكيان الصهيوني سياسةً تقسيميّة مستفيدًا من قدراته الاستخباراتية المدعومة أمريكيًّا وغربيًّا

رضي الموسوي

في اللحظاتِ الفارقة، وفي المفاصلِ التاريخيّة؛ تتصارع الأطرافُ المعنيّةُ بالحدث باحثةً لها عن موقعٍ تحت الشمس لاستثماره لصالحها، وليّ عنق الحقيقة والتاريخ، إن تطلبت المصالح خطوةً كهذه. في هذا الجانب، ليس هناك أكثر خبثًا، وأكثر سقوطًا أخلاقيًا من الكيان الصهيوني، الذي يقوم على مبدأ "فرّق تسُد" وهو المبدأ نفسه الذي كانت تمارسه بريطانيا العظمى، صاحبة وعد بلفور المشؤوم، التي كانت تطبق هذا المبدأ على الشعوب الخاضعة تحت احتلالها وانتدابها، كما هو الحال مع بلدان الخليج العربي.

يمارس الكيان الصهيوني سياسةً تقسيميّة؛ مستفيدًا من قدراته الاستخباراتية المدعومة أمريكيًّا وغربيًّا، ويحرص على التقاط الفرص وتوظيفها في المسار الذي يخدمه؛ حصل هذا عندما سقطت العاصمة الأفغانية كابل منتصف آب (أغسطس الماضي) في أيدي مسلحي حركة طالبان، فقد سارع مراسل قناة "كان" الصهيونية وبثَّ تصريحًا مفبركًا منسوبًا للمتحدث باسم الحركة "سهيل شاهين" في العاصمة القطرية الدوحة، التي تحتضن المفاوضات "الأمريكية- الطالبانية"، في وقتٍ كانت فيه الفوضى تعتمل في كابل؛ محدثةً مفاجأةً للجميع، وربما لطالبان نفسها أيضًا، وذلك نظرًا لسرعة سقوطها، وما أعقبه من هروبٍ كبيرٍ للأمريكان، يشبه هروبهم من فيتنام، وترك عملائهم يلاقون مصيرهم على أيدي ثوار هوشي منه والجنرال جياب. في التصريح الإعلامي المزعوم؛ أوضح شاهين في تغريدةٍ له أنه "ربما يتنكر بعض الصحفيين، ولكني لم أجرِ مقابلةً مع شخصٍ يقدم نفسه بأنه من وسائل الإعلام الإسرائيلية"، هكذا تتصرف الدولة العبرية وإعلامها، وبما يخدم الاستراتيجية الصهيونية في إحداث الفرقة والتشظي، وتفتيت المنطقة العربية ومحيطها الإسلامي، ودفعه إلى هاوية الإقتتال الداخلي على أسسٍ طائفيةٍ ومذهبيةٍ وعرقية. يُذكّر الحدث الإعلامي في الدوحة بما جرى قبل 39 عامًا؛ عندما تنكر أحد الصحفيين الأجانب، وحضر مؤتمرًا صحفيًّا للقائد المؤسس الراحل جورج حبش في مبنى مجلة الهدف بكورنيش المزرعة في بيروت، بداية الغزو الصهيوني للبنان صيف 1982؛ خرج المراسل الأوروبي – الصهيوني في اليوم التالي بتغطيةٍ للمؤتمر نشرته صحيفةُ بديعوت أحرنوت، وقد أثار تعليقاتٍ وتفاعلاتٍ كثيرة. وقتها؛ كان الكيان الصهيوني يبحث عن تسجيل نقاط؛ يريد من خلالها الإشارة إلى أنه حاضرٌ في عقر دار المقاومة؛ محاولًا بذلك إبهار العالم بقدراته، وبث روح الإحباط في صفوف المقاومين، وضرب إسفين بينهم.

إنّ سياسة التفتيت، والاختراق، ومحاولات تعفين و"تدمير القلعة من الداخل"؛ هي سياسةٌ اتخذتها الحركة الصهيونية منذ ما قبل تأسيس الكيان حتى الوقت الراهن؛ فهذه الحركة لا تعيش إلا على شطبِ الآخر وإقصائه ومحوه من الوجود، كما تمنّت جولدا مائير ذات يوم: "كل صباح أتمنى أن أصحو ولا أجد طفلًا فلسطينيًّا واحدًا على قيد الحياة.

زلزال أفغانستان هو جزءٌ من السعي لتحقيق اختراقٍ يوصل إلى الأهداف التي وضعها قادةُ الحركة الصهيونية، المتمثلة في بسط السيطرة على المنطقة العربية، خصوصًا دول الطوق من خلال إضعافها من الداخل؛ بإثارة الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية فيها، وحصارها اقتصاديًّا، وسياسيًّا، والضغط على الدول المحيطة بها عبر الولايات المتحدة، التي لا تتردد في استخدام العقوبات المتعددة الأشكال ضد الدول والشعوب التي لا تسير في الركب الأمريكي المطلوب، ولا تتبع تعليمات البيت الأبيض. لقد كثّف وزير الخارجية الصهيوني الأسبق شيمون بيريز؛ أهداف الكيان واستراتيجياته في كتابه الشهير "الشرق الأوسط الجديد" الذي صدر بُعيدَ مؤتمر مدريد بقليل، حيث الوضع العربي يتجه نحو منحدراتٍ خطيرةٍ مثل اتفاق أوسلو.

أكد بيريز في كتابه على أن قيادة المنطقة ينبغي أن تكون للكيان مركزًا، والدول العربية أطراف قوامها أكثر من 300 مليون نسمة، ليست إلا مجتمعاتٍ مستهلكةً للإنتاج الصهيوني، وأن تتغير التسمية إلى الشرق الأوسط؛ لتتوسع المنطقة، ويضاف للجغرافيا الجديدة كلٌّ من: إيران، وتركيا، وباكستان، وإثيوبيا، ودول إفريقية أخرى. كانت الاستراتيجية تقوم على ما ثبّتته الحركة الصهيونية في مؤتمراتها الأولى التي وضعت فيها خارطةَ طريقٍ واضحةً، ترتكز على خلق التوترات داخل كلّ دولة، كضمان احتلال فلسطين، وإقامة الوطن القومي لليهود حسب الوعد. بدأت بالخواصر الرخوة؛ فكان السودان الذي تمكن منه الصهاينة وشظوه إربًا، وحققوا الانفصال الأولي؛ بتأسيس دولة جنوب السودان. بينما تعمّقت الحرب الأهلية في الأقاليم الأخرى، وأهمها: إقليم دارفور، الذي استنزفت مقدراته  وثرواته، وتركته للفقر والمجاعة والمرض؛ تماشى مع ذلك التوجه صوب أرتيريا؛ بخلق علاقاتٍ حميمةٍ معها طمعًا في موطئ قدمٍ في باب المندب؛ فكان أن حرّض الكيان الصهيوني أرتيريا على احتلال جزر حنيش اليمنية في تسعينات القرن الماضي؛ عندما كان اليمن يعاني من حالة الضعف الاقتصادي والسياسي والعسكري، ورغم توقيع اتفاقية كامب ديفيد، إلا أن الكيان مارس عمليةَ تحريضٍ بين مكونات الشعب المصري؛ بهدف إشعال الفتنة بينها.

أما الخارج العربي؛ فقد مارست الدولة العبرية سياسة تطويق البلدان العربية من جوارها غير العربي؛ عبر التحذير من قوة النفط، وفكر القومية العربية وخطرها على دول الجوار، ومارست تحريضًا لزعزعة الاستقرار الداخلي؛ بالعمل على اختراق الأقليات العرقية، وتوجيهها ضد الدولة المركزية؛ مستفيدةً من غياب الاستراتيجيات والانفراج الأمني والسياسي؛ ففي مؤتمر حزب العمال الصهيوني عام 1960؛ قالت وزيرة الخارجية، حينها، جولدا مائير "لقد نجحنا في إقناع الدول المحيطة بالدول العربية لإقامة حلف الدائرة، ليشكل سورًا من حول تلك الدول؛ يدرأ الخطر، ويقي هذه الدول، ويصونها من حركة القومية العربية ".

بالتوازي مع إقامة أسوار الحضارات، كان التعاون الأمني مع ثلاث دولٍ محوريةٍ، هي: تركيا، وإيران، وأثيوبيا؛ يشكّل هدفًا رئيسيًّا؛ فعقدت هذه الدول لذلك العديد من اللقاءات والاجتماعات السرية بين  رؤساء أركانها في نهاية خمسينات القرن الماضي، وأرسل بموجبها الكيان آلاف الخبراء العسكريين، بلغ عددهم في 1978-1977 أكثر من عشرين ألف خبير عسكري وأمني؛ فضلًا عن تزويد تل أبيب الدول الثلاث بصواريخَ ومدافعَ ورشاشات.

الآن، وحيث تعيش المنطقةُ إرهاصاتٍ وتطوراتٍ فارقةً ومفصلية؛ يسعى الكيان إلى تعميق الهوّة بين مكونات البلدان العربية وفسيفسائها؛ مستفيدًا من حالات الفساد والاستبداد التي تعاني منها الشعوب العربية، وغياب الحريات العامة، وزيادة معدلات الفقر والبطالة والمرض، ما زاد من عدد الدول الفاشلة، وهي اللحظة التي التقطها "دوري غولد" رئيس مركز القدس للشؤون العامة، ومستشار رئيس الوزراء الصهيوني السابق بنيامين نتنياهو، ليعبّر بقوله: "إن ما يحدث في المنطقة العربية هو نقطةٌ لخلق شرق أوسط مختلف، تعّم فيه الفوضى، ويعدُّ تحقيقًا لأمنياتٍ وطموحاتٍ بعيدةٍ لدى صانعي السياسة الصهيونية المهتمين جدًّا بالتطورات الإقليمية".

حالة الضعف والتفتت التي بلغتها المنطقة، وغياب المشروع العربي الموحد؛ أكدت على حقيقة أن الدول العربية عاجزةٌ عن القيام بالحد الأدنى من برامج التنمية الإنسانية، حيث يعشعش الفساد المالي والإداري، والتفرد في اتخاذ القرار، وتهميش الآخر المختلف وعدم الاعتراف به، وإغراق الموازنات بالعجوزات المالية المتكررة على مدار عقودٍ من الزمن؛ أدت إلى تراكم الديون العامة؛ الداخلية منها والخارجية؛ أفقد الدولة سيادتها واستقلالية قرارها، وأصبح اقتصادها مرهونًا لدى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمؤسسات المالية العالمية الدائنة، هذه المعطيات أدت إلى انقضاض الكيان الصهيوني على أغلب الفرص؛ بهدف خلق الفوضى، وإضعاف الدول العربية، خصوصًا، دول الطوق التي تعاني شعوبها كثيرًا، ما شجّع الدولة العبرية على تطوير مشاريعها بالتعاون والتنسيق والدعم غير المحدود من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة؛ فكانت "صفقة القرن" أحد المشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية التي اجترحتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلا أن الموقف الفلسطيني الصلب الرافض والمناهض لهذه الصفقة؛ أفشل مخططات الكيان والبيت الأبيض؛ رغم اختراقات التطبيع بما يسمى "الاتفاقات الإبراهيمية" التي تمكن منها الكيان مع الإمارات و البحرين والسودان والمغرب.

يراهن الكيان الصهيوني على استمرار الأنظمة العربية في السير بخطًى سريعةٍ نحو إجبار الشعوب العربية على اللجوء إلى الهويات الفرعية، بدلًا من الهوية الجامعة المؤمنة بالدولة الوطنية الجامعة، التي هي جزءٌ من الوطن العربي الكبير، ما يعمق حالة التفتيت والتجزئة، والاختراقات الصهيونية، لإبعاد البلدان العربية من الاقتراب والتنسيق الاقتصادي والسياسي، وبالتوازي يعمل الكيان بقوةٍ على الاقتراب أكثر من منابع النفط والمقدسات؛ تنفيذًا لحلم جولدا مائير التي قالت يومًا وهي واقفةٌ على شاطئ خليج العقبة "إني أشمّ رائحة أجدادي في خيبر"، في إشارةٍ للأطماع الصهيونية في المملكة العربية السعودية التي تعكف مراكز البحث على رصد التعويضات التي يمكن للكيان فرضها على الرياض والعواصم الخليجية الأخرى، كانعكاسٍ لحالة الوهن التي بلغتها الأمة؛ بسبب تشظيها وتفتّتها إلى فرقٍ وشيّعٍ وكانتونات لا حول لها ولا قوة؛ همُّها البحث عن رغيف الخبز والماء والكهرباء، وهذه المعطيات لا تقود إلى تضامنٍ عربيٍّ يواجه الصهاينة الذين يتمتعون باقتصادٍ قويٍّ يبلغ 395 مليار دولار في 2019، ويبلغ دخل الفرد فيه نحو 32 ألف دولار، وهو دخل أعلى من دخل الفرد في كل من مصر ولبنان والأردن وتونس والمغرب وسورية مجتمعين! بينما يتجاوز دخل الفرد في السعودية والكويت والبحرين وعمان؛ رغم الثروات التي تتمتع بها بلدان الخليج العربية. كما يأتي الاقتصاد الصهيوني بعد السعودية (793 مليار دولار) والإمارات (421 مليار دولار) وأعلى من مصر (303 مليار دولار)؛ علمًا أن السعودية والإمارات؛ تعتمدان أساسًا على عائدات النفط، بينما يعتمد الاقتصاد الصهيوني على الخدمات والصناعة والزراعة والتكنولوجيا.

إن الانزلاق نحو الهويات الفرعية؛ سواءً الإثنيات العرقية، أو الانتماء الطائفي والمذهبي؛ سببه الرئيس تخلي الدولة عن واجباتها تجاه المواطن، وهو ترجمةٌ لغياب العدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة، أي غياب دولة المواطنة المتساوية، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، ويضع المواطن العربي في دائرةٍ ضيّقةٍ تقود إلى انفجار الأوضاع برمتها، ويلقي بأعباءٍ ومترتّباتٍ جمّةٍ على مستقبل القضيّة الفلسطينيّة.

---------------

* صحفي وكاتب الامين العام السابق لجمعية وعد  البحرين