كاتبة نرويجية في رحلة غير معروفة..

كيف تطورت جمهوريات الاتحاد السوفيتي بعد الانهيار عام 1991؟

عالم ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 'سوفيتستان'

محمد الحمامصي

عندما فُكِّكَ الاتحاد السوفيتي عام 1991، أصبحت كل دول مثل تركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان مستقلة للمرة الأولى في تاريخها، وقد سمعنا القليل عنها منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من أن هذه الدول مجتمعة تغطي نحو أربعة ملايين كيلومتر مربع، ويبلغ عدد مواطنيها مجتمعة نحو 65 مليون من البشر، فإن معظمنا يعلم أقل القليل عن هذه المنطقة الضخمة. هذا الكتاب "سوفيتستان.. رحلات عبر تركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان" لإيريكا فاتلاند يأخذ قارئه في رحلة غير معروفة، حتى لأكثر المسافرين خبرة، عبر كل من تركمانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، وهي جمهوريات الاتحاد السوفيتي الخمس التي استقلت بعد انهيار الاتحاد في عام 1991. كيف تطورت هذه البلدان منذ ذلك الحين؟

في قرى قيرغيزستان، تلتقي إيريكا فاتلاند ضحايا التقليد المعروف على نطاق واسع لخطف العروس. وتتعرض لمواقف شخصية وتزور العديد من الأفراح في تلك البلدان، كما تزور المنطقة الأكبر المقفرة في كازاخستان حيث اختبر الاتحاد السوفيتي تفجيرات القنابل النووية. وتلتقي بجامعي الجمبري الصينيين على ضفاف بحر الآرال الجاف وتشهد سقوط ديكتاتور. كما تسافر خفية عبر تركمانستان، البلد المغلق أمام الصحفيين. وتلتقي ناشطين حقوقيين منهكين في كازاخستان، ناجين من مذبحة أوش في عام 2010، كما تلتقي الطائفة المينونية الألمانية التي وجدت الجنة في سهول قيرغيزستان قبل 200 عام. خلال أسفارها، لاحظت كيف تتعارض العادات القديمة مع إنتاج الغاز، وشهدت النزاعات الكامنة بين العرقية الروسية والأغلبية في بلد يبني ببطء مستقبله بألوان قومية. في هذه البلدان، التي كانت في السابق أبعد حدود الاتحاد السوفيتي، تتبع الحياة وتيرة أخرى من الزمن. وسط كنوز سمرقند وكآبة العمارة السوفيتية، تتحرك إيريكا فاتلاند بانفتاحها على الناس والمناظر الطبيعية من حولها.

تقول فاتلاند في الكتاب الذي ترجمه سمير محفوظ بشير وصدر عن دار العربي للنشر "مما يدعو إلى العجب هو أن الشخص الذي صنع أكبر جهد في جعل هذه المنطقة "معروفة" في بلاد الغرب هو الممثل الكوميدي البريطاني ساشا بارون كوهين، فقد أحدث فيلمه بورات"مساهمة تعليمية وثقافية بغرض الانتفاع بتلك الأمة العظيمة المدعوة جمهورية كازاخستان. أحدث هذا الفيلم دويًّا والتفاتًا في كل أوروبا والولايات المتحدة. قرر كوهين هذا أن استخدامه اسم قرية بورات يجب أن يكون موقعها في دولة كازاخستان بسبب أن لا أحد من قبل قد سمع شيئًا عن هذه الدولة، بذلك تتاح له حرية فنية كاملة. أما أحداث هذا الفيلم التي من المفترض أن تقع في القرية الكازاخستانية فإنها لم تصور أبدًا في كازاخستان بل في رومانيا. بعدها أصبح فيلم بورات هو أول فيلم يتم منع عرضه في الاتحاد السوفيتي مثل الأفلام الجنسية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، حدث بعد ذلك أن قررت دولة كازاخستان أن تقاضي شركة الإنتاج لكنها أيقنت في النهاية أن ذلك الإجراء سيدمر سمعة البلد فقط أكثر من الفيلم نفسه. لذلك كله، يعتبر هذا الفيلم السخيف أهم مصدر يكشف الكثير عن مدى جهلنا الكامل بهذه المنطقة من العالم".

وتضيف أن كازاخستان تعد تاسع دولة في العالم من حيث المساحة، مع ذلك استمر الوضع على مدى الكثير من الأعوام بعد عرض هذا الفيلم أن أصبحت هذه الدولة بكل بساطة تُسمى باسم "موطن قرية بورات"، حتى بالنسبة إلى الوسائط الإخبارية العالمية المحترمة.

وتؤكد فاتلاند أن مجموعة هذه الدول التي تستقر في وسط آسيا يمكن تجميعها تحت اسم واحد عندما يتم ذكرها، وكانت تدعى سابقًا منذ القرن التاسع عشر باسم "تركستان"، أو كان يطلق عليها ببساطة اسم مجموعة الـ"ستان"، وهي لفظة فارسية تعني "مكان" أو "أرض". لذلك تعني كلمة تركمانستان أرض أو موطن "شعب التركمان". لكن بالرغم من كلمة "ستان" المشتركة بين هذه الدول، فإنها واقعيًا تختلف فيما بينها بشكل واضح. مثلًا تبلغ مساحة الأراضي الصحراوية في تركمانستان أكثر من 80% من مساحتها الكلية، على حين تبلغ مساحة الجبال في طاجيكستان نحو 90% من مساحتها. أما دولة كازاخستان فهي دولة غنية ومؤثرة - والفضل للبترول والغاز والمعادن المتنوعة - هذه الثروات جعلت من هذه الدولة جديرة يومًا بأن تُرشح كي تستضيف دورة الألعاب الأولمبية الشتوية.

أما تركمانستان، فلديها احتياطي ضخم من البترول والغاز، حينما تعتبر طاجيكستان دولة فقيرة للغاية. في عديد من مدن وقرى دولة طاجيكستان هذه، يتمتع السكان بخدمة الكهرباء لساعات معدودة يوميًّا في الشتاء. هذا مع العلم أن النظم الحاكمة في كل من تركمانستان وأوزبكستان من النوع الديكتاتوري الفاسد، لدرجة أنه يمكن مقارنتهما بالحكم السائد في كوريا الشمالية؛ لا توجد صحافة حرة، والرئيس مسيطر سيطرة كاملة على كل شيء. لكن من جانب آخر، نجد أن جموع الشعب في دولة قيرغيزستان استطاعت أن تعزل رئيسين للجمهورية.

وتتابع أنه بالرغم من كل هذه الاختلافات الواضحة بين الخمس دول تلك، فإنها تتشارك كلها في الأصل البشري والمصير نفسه؛ تقريبًا على مدى سبعين عامًا، منذ عام 1922 حتى 1991، كانوا جميعًا تابعين للاتحاد السوفيتي، ذاك الذي كان يمثل تجربة اجتماعية كبرى لا مثيل لها على مدى التاريخ. ألغى هؤلاء البلاشفة مبدأ الملكية الخاصة، كذلك الحقوق الشخصية الأخرى. كان هدفهم هو بسط نظام شيوعي كامل لا يعترف بتنوع الطبقات الاجتماعية وبذلوا كل جهد ممكن لتحقيق ذلك، لذا حدث تغيير جذري في كل منطقة تابعة لهذا الاتحاد وأصبح الاقتصاد محكومًا بخطط خمسية طموحة، لذا أصبحت الزراعة جماعية وتطورت الصناعات الثقيلة من لا شيء تقريبًا. كان الاتحاد السوفيتي يتبع نظامًا له تفصيلات متشعبة بشكل مذهل. أصبح الفرد خاضعًا لمقتضيات الصالح العام؛ هناك شعوب بأثرها نُفِيت خارج بلادها، وملايين من البشر وصموا بأنهم يندرجون ضمن "أعداء الشعب" إما بسبب معتقداتهم الدينية وإما مرجعياتهم الثقافية وإما ظروفهم المالية. وهؤلاء كانوا يُعدمون أو يُرسلون إلى معسكرات العمل في أبعد مكان من تلك الإمبراطورية الشاسعة حيث تصبح فرص البقاء على قيد الحياة شبه معدومة.

وتوضح فاتلاند التي أمضت ثمانية أشهر بين هذه الدول انطلاقا من تركمانستان، ومروا بكازاخستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وأخيرًا أوزبكستان "كانت هناك معاناة واسعة النطاق، والتجربة الاجتماعية أصبحت على شكل كارثة بمفهوم البيئة. لكن مع ذلك، لم يكن كل شيء في الاتحاد السوفيتي سيئ. استطاع البلاشفة تطوير المدارس والتعليم، وتقريبًا استطاعوا محو الأمية التي كانت سائدة قبلًا في أجزاء كثيرة من الاتحاد، وفي كل أرجاء آسيا الوسطى استثمروا وأنفقوا الكثير في إنشاء وتنظيم الطرق والبنية التحتية. حرصوا أيضًا على أن يخضع كل مواطني الاتحاد السوفيتي لنظم الرعاية الصحية، كذلك أنشؤوا فرقًا للفنون والباليه والأوبرا مع كل المنافع الترفيهية والثقافية. إذا تحدثت باللغة الروسية، يمكن للمتلقي أن يفهم حديثك في أي مكان، ابتداءً من دولة كاريليا في الغرب جانب الحدود الفنلندية حتى مناطق "الإستبس" المنغولي في الشرق، وإلى أي مكان تتجه إليه، يرفرف فوقك علم الشيوعية الأحمر، من الموانئ التي تقع على بحر البلطيق حتى شواطئ المحيط الهادي. كان المجتمع عمومًا منتظمًا طبقًا للنموذج الأيديولوجي نفسه، على حين يترأس في كل مكان طبقة من الحكام الروس المهيمنين، وفوق القمة يبزغ نجم الاتحاد السوفيتي الذي كان يمثل ويحتل سدس سطح الكرة الأرضية، يحتوي داخله على أكثر من مئة من المجموعات العرقية المختلفة.

وتلفت "بينما كنت أكبر في العمر، أصبحت نهاية الاتحاد السوفيتي تلوح في الأفق. وعندما كنت في السنة الثانية الابتدائية، بدأ هذا الاتحاد في التفكك تدريجيًّا حتى انفصلت كل أجزائه. لقد تغيرت خريطة العالم بالكامل في خريف عام 1991؛ أصبحت الـ 15 جمهورية التي كانت مجتمعة فيما يسمى بالاتحاد السوفيتي، والتي عرفت أيضًا باسم "الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية"، منفصلة جميعها عن الاتحاد لتصبح دولًا مستقلة في عدة أيام قليلة، وعلى مدى عدة شهور لاحقة، اكتسبت منطقة شرق أوروبا ست دول مستقلة جديدة، وهي إستونيا، ولاتفيا، ولتوانيا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا، ومولدوفا. أيضًا حصلت آسيا الوسطى على خمس جمهوريات جديدة وهي تركمانستان، وكازاخستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان وأوزبكستان. كذلك هناك ثلاث دول انبثقت من المنطقة القوقازية وهي جورجيا وأزربيجان وأرمينيا. في 26 ديسمبر 1991، جرى بشكل رسمي حل وتفكيك الاتحاد السوفيتي، مع ذلك، ظلت الخريطة القديمة مستخدمة كما هي في فصولنا الدراسية طوال فترة بقائي في المدرسة. في فترات منتظمة، كنت أشاهد المدرس وهو يعرض أمامنا خريطة ويشير إلى الأقطار الجديدة التي لم تكن تمتلك أي منها حدودًا ملزمة. لذا على مدى أعوام تالية، تعاملنا مع هذه القوة العالمية الجديدة بحدود متخيلة، والتي لم يعد لها وجود مع الحدود الواضحة الحقيقية لهذه الأقطار الجديدة. أتذكر أنني كم كنت مفتونة ومنبهرة بحجم هذه المنطقة ومدى قربها الطبيعي إلينا، فالاتحاد السوفيتي، الذي أعتبر اسمه مشابهًا مثلًا ليوغوسلافيا أو الحرب العالمية الثانية، ظل هكذا في نظري باهتًا مشوهًا بغبار التاريخ، وكان أيضًا أقرب جيراننا.

وتقول فاتلاند "كلما زاد عدد رحلاتي في كل أرجاء روسيا والاتحاد السوفيتي القديم، ازداد فضولي وتشوقي إلى معرفة باقي أطراف هذه الإمبراطورية الشاسعة، والتي كانت تعج بالكثير من العرقيات والأجناس من الذين اُسْتُعمروا من قبل روسيا على مدى القرن التاسع عشر، من ثمَّ أصبحوا رعايا للاتحاد السوفيتي. هم مختلفون تمامًا عن الروس، سواء من ناحية مظهرهم، لغتهم، أسلوب حياتهم، ثقافتهم، دياناتهم.

وترى أن هذا الملمح حقيقي تمامًا بالنسبة لشعوب آسيا الوسطى. عندما وصل الروس إلى هذه البلاد، كان معظم الناس القاطنون في أقصى أماكن الشمال، وحتى الآن بما فيها دول كازاخستان وقيرغيزستان وتركمانستان، من البدو الرحل. لم تكن هناك دول بالمعنى المفهوم وكانت هذه المجتمعات منتظمة بشكل مفكك يراعي نوعية العشيرة أو القبيلة. أما أناس جنوب آسيا الوسطى، في الأراضي التي تمثل الآن كلًا من دولة أوزبكستان وطاجيكستان، فإنها كانت على شكل مجموعات منتظمة راسخة، لكنها كانت معزولة عن العالم على مدى قرون عديدة، لذا أصبحت مجتمعاتها راكدة في الكثير من أجزائها. كانت الخانات الإقطاعية القائمة في مدينتي خيوة وكونلاند، كذلك تلك الموجودة في إمارة بخارى، تعتبر مصدرًا سهلًا لانتشار فساد سهل للجنود الروس. كل القبائل البدوية، كذلك معظم سكان آسيا الوسطى، هم مسلمون في الغالب. في شوارع سمرقند وبخارى، عادة ما كانت النسوة يغطين أجسادهن بالكامل، وكما هو سائد في عالم القبائل، وحيث أصبح تعدد الزوجات أمرًا شائعًا ومألوفًا. في القرن الحادي عشر، نجد أن مدنًا مثل سمرقند وبخارى كانت مراكز علمية وثقافية معتبرة، لكن في وقت الاحتلال الروسي لهذه البلاد، كان العصر الذهبي الفكري قد انتهى. قبل مائة عام، كان قليل من الناس في هذه الأرجاء من يقرأ أو يكتب، أما المدارس الموجودة هناك حينذاك لم تكن تهتم سوى بالدراسات الدينية.

-----------------------------------------

المصدر| MEO