قصة قصيرة..

أنا وبابا عبده .. والسيما

كان عشق لا ينتهي .. ظل شاهدا مدى الحياة .. ليس له حدود.. حتى وإن تخطاه الزمن

أحمد الجعشاني

كان عشق لا ينتهي .. ظل شاهدا مدى الحياة .. ليس له حدود.. حتى وإن تخطاه الزمن .. وابتعدت المسافات ..للاماكن حنين وشوق .. يتغلله حكايات .. وأساطير من خرافات الزمن .. عشق قد لا تحكمه قوانين الطبيعة .. لكنها تظل أطلالة .. لازالت تلتصق المكان والزمان .. في شعور قد لا يضاهيه اي احساس جميل في ذلك الوقت .. ربما قد تتغير الأشياء.. وتتبدل الاحلام .. لكنها تظل مثل تلك البصمة الصغيرة .. الذي لايمكن تجاوزها ، او محيها من الذاكرة .. مهما تغيرت بنا الحياة .. او تقدم بنا العمر .

كل مرة كنت اذهب إلى منزل بابا عبده.. أجد الكثير من المتعة والتسلية.. فرصة كنت انتظرها دائما.. كان المشوار من منزلنا في الشيخ عثمان.. إلى منزل بابا عبده في عدن .. مسافة عشرون دقيقه بالحافلة..

.. فكنت أحب هذه الرحلة القصيرة .. وأعشق المكوث فيها ..ولها في نفسي منازل وذكرى لازالت محفورة في ذاكرتي .. حينها كنت اهيئ نفسي جيدا لهذا المشوار .... من حين تبدأ عند ركوبي الحافلة ، وأختار المقعد المجاور للنافذة ... وفي الطريق البحري، او كما يسمونه طريق الجسر افتح النافذة ... فيندفع الهواء البارد، متسلل صوب جسدي الصغير ... فيرفرف شعري ...ويبرد جسمي .. فاحس بالنشوة و الانتعاش ،كأني في حمام بارد ..بعد ضربة شمس قويه ... لحفت بدني الصغير .. بعد مسافة راجلة قطعتها من البيت الى المحطة .. كان يستهويني النظر إلى البحر، ومشاهدة قوارب الصيد ..وهي تطفو على الماء، والسفن الكبيرة الراسية في المرفأ،حلمت ذات يوما أن أكون بحار .. يطوف ارجاء العالم على مركب كبير .. مثل طيور النورس.. وهي تحلق بجناحيها في الهواء ... حين تهاجر شتاء بحيرتها وتغدوا في الصيف تبحث عن الدفء .. كم هي جميله الان .. وأنا اراها امامي.. وهي تسبح وتطفوا تحت الجسر في منطقتها الدافئة...

في عدن .. قبل الذهاب إلى الى منزل بابا عبده .. كنت اتسكع قليلا، في شوارع عدن المزدحمة بالناس، والمكتظة بالمحلات التجارية.. عدن مدينه جميله وساحرة.. واكثر ما يميزها أماكنها و مبانيها الاثرية..وقصورها القديمة.. ودروب الصهاريج العظيمة .. إرث ظل شاهدا ،أن عدن حضارة قديمة .

وفي شوارعها الضيقة .. تشاهد حجارة مرصوفة بنيان لم يغيره الزمن.. مثل تلك الجبال المحيطة بها من كل جهة ، وفي عدن تجد من الهنود واليهود حارات متلاصقة .. ومعابد وكنائس متقاربة .. ومحلات البهرة ،والفرس، واليهود المنتشرة في عدن ، وقليل من العرب ، وجاليات اخرى خليط متجانس.. يتشاركون معا في الأفراح والأحزان .. يقولون ان عدن .. اهلها شعب طيب ودودو.. لكن اكثر ابناء عدن..تجدهم في حي العيدروس ..وحارة حسين ..وحارة القاضي ، وفي وسطها تجد الماركات العالمية، والملابس والأحذية، ومحلات الحلوى.. ودكاكين لبيع الجرائد، وكتب قديمة على الرصيف.. وبينما أنت تمشي رائحة الأطعمة ..تتسلل إليك من المطاعم و مقاهي الشاي العدني .. لكني كنت دائما اتوق النظر ،إلى اللوحات المعلقة والمجسمة ، أمام دور السينما المنتشرة في عدن ، أشاهد صور الممثلين في شكل يبهر المار من أمامها ... واتوقف كثيرا امامها .. كان حلم ظل يروادني في كل مرة .. دخول السيما..وفي كل مرة كنت ..اقرر فيها الدخول... أتردد كثيرا .. شغف ... ظل يستدرجني اليه في كل مرة ، كنت اذهب إلى عدن .

يستقبلني بابا عبده .. في شقته وسيجارته التى لا ييفارقها ،عالقة بين أصابع يديه .. يسألني .. اتيت تأخذ الثياب، اكتفي له بهز رأسي بالإيجاب .. وباباعبده .. هكذا يسمونه أولاده وأحفاده .. هو من أصول هنديه، طويل القامه اشيب الشعر، وشارب طويل ابيض، تجاوز الستين سنه من عمره ، لكنه كان نشيط وخفيف الظل و حيوي ودأئم مبتسم ، ويتحرك بخفه كأنه شاب في العشرين من عمره.. فهو من أبناء عدن.. الذي استوطنها أجدادهم ، ففضلوا العيش فيها .. فاصبحوا مواطنين عدنيين.. وابي لايفضل أحد غيره في خياطة ملابسنا... فكنا نذهب إليه انا اخوتي .. في موسم الأعياد والمدارس ..كانت ملابسنا كلها، في ذلك الوقت، تفصيل قماش نشتريه، من المحلات، ثم نذهب به إلى بابا عبده الخياط.. قبل ظهور الملابس الجاهزة ..كنت اسأل نفسي ..! لماذا ابي يصر، على باباعبده الخياط في عدن .. بينما في الشيخ عثمان ، هناك الكثير من ورش الخياطة المنتشرة في ذلك الوقت .. علمت فيما بعد ان بابا عبده كان زميل أبي في العمل .. وبابا عبده يمارس الخياطة هواية.. وليس وظيفة .. فهو يعمل بحب لهذه المهنه ..كان ابي معجب بعمله..وطريقته في تطريز الثوب..خاصة تركيب الياقات..والاكمام وعمل الأزرار..فهو لديه لمسة.. تظهر براعته ودقته في الخياطة.. .وهي مهنة قد تحتاج إلى دقة متناهية ومهاره عالية وصبر .

في شقة بابا عبده، الكثير من الغرف.. فهي شقة كبيرة ..وفي حي راقي في عدن..ولديه الكثير من الصبيان والبنات ..من هم في سني ومن هم اكبر مني سنا ..لكن ليسوا مثلنا .. بل أكثر جمال وخلق ، بشرتهم بيضاء وشعرهم اسود طويل وله بريق .. وجمال اخاذ.. وفيهم من الحشمة والحياء.. كنت اظن انهم من طينة الممثلين .. من الذي أشاهدهم في الصور المعلقة، أمام دور السينما .. وبابا عبده .. ليس لديه ورشة خياطة ..فهو يمارس مهنته من شقته ..ولديه بناته الجميلات يساعدن بابا عبده في الخياطة ..

حين قررت أن أحقق حلمي ذات يوم .. واطفئ نار الشغف الذي استدرج نفسي، وادخل السينما كان ذلك في ليلة عيد الأضحى يوم الوقفة وصيام الناس .. ذهبت الى عدن كالعادة .. لاحظار ثياب العيد .. وقفت أمام باب السيما.. وانتظرت قليلا حتى بدأ الناس بالدخول،ثم هرولت مندفعا الى الداخل.. لم يوقفني البواب.. ربما رائ سني الصغير فتركني.. كان مثل حلقة الساحر الذي اشاهدها في العيد .. يوم زيارة الهاشمي .. حين تحتفل الشيخ عثمان بزيارته ..كان كرنفال شعبي كبير تقام فيه الألعاب والزينه.. ومسرح للعرائس كنت منبهر به وأنا صغير ، دمى متحركه ، مثل الاراجوز في مصر .... لكن في السيما يوجد شاشة بيضاء كبيره آخر القاعة .. وصور الشخوص تتحرك وتنطق مثلنا .. كان مثل السحر ، لقد سحرتني السيما ..

كان الوقت متأخرأ .. بعد خروجي .. والشوارع خاليه من الناس والمحلات اقفلت .. ذهبت شقة بابا عبده....تفاجئ عندما رأئني.. غضب بابا عبده من حضوري..في هذا الوقت المتأخر.. وظل يسالني كثيرا ..كنت صامت مثل ثمثال ابوالهول.. ولم انطق حرف ..كنت اعرف اني مذنب..ولكني لم أحس بالندم حينها .. هكذا أحسست في ذلك الوقت .. ربما لو اتيحت لي الفرصه مرة اخرى.. لفعلت ذلك مرة اخرى .. اخيرا يأس مني ..لم أعطه جواب .. أخذني معه .. في سيارة صغيره نوع فوكس جن .. التى لم يحركها الا يوم الخميس والجمعة في رحلته البحريه كل اسبوع .. عدنا معا إلى المنزل ..في الطريق بعد أن هدئ قليل.. وبدأ ينفت الدخان من سيجارته.. قال أعلم انك ذهبت السيما .. لاتخاف لن أخبرك والدك.. اخبرني هل كان الفيلم جميلا .. تكلمت حينها ولم يتوقف لساني.. عن سرد أحداث الفيلم حتى وصلنا..

كان ذلك اليوم الاخير في الحياة .. مع بابا عبده.. ولكن ظلت هناك ، بقية من حياة أخرى قد إضافة لي .. كبرت وبقئ شئ مع الزمن ، لازال يحيا معي ..ذكرى السيما.. كانت مثل نافذة صغيرة كنت أرى العالم منها ....