"ابنة الجحيم"

قصة فتاة في رحلتها الغرائبية ما بين الحياة والموت

غلاف كتاب "ابنة الجحيم"

وكالات

تصحبنا الروائية التونسية "خيرية بوبطان" في روايتها الجديدة "ابنة الجحيم" في رحلة سردية إلى عوالم شديدة الغرائبية والغموض، لتناقش فيها ثنائيات الموت والحياة، الخلق والعدم، الروح والجسد، الخير والشر... ضمن قالب شديد التعقيد لدرجة يصعب معها الوصول إلى تفسير واحد لما نقرؤه.

تبدأ الكاتبة روايتها بالعدم الأول "بين بين"، لنكون أمام مشاهد متتالية شديدة الإلغاز في ما قبل الوقت، تحكي عن أنثى موجودة في فراغ لا نهاية له ولا بداية، تحلق، تسقط، تضحك، تركض، تسبح، تشعر بوجود أشباح يحيطون بها، دون أن تكون قادرة على تحديد ماهية المكان الذي هي فيه.

"الطريق سالكة، فلا جبل ولا صخرة. إنها الأرض المنبسطة الواسعة التي لا حدود لها. لا نقطة بداية ولا نقطة نهاية. كأنها أرض بلا خريطة. هل عليّ أن أعيد تحديد الأمكنة ورسمها؟ تنتابني نوبة الضحك الهستيري. ماذا سأحدد وأنا عاجزة عن تحديد من أنا فما بالك بموقعي، هل أنا في الأعلى أو في الأسفل؟ هل أطفو أم غارقة في عمق سحيق؟ بل أنا لا أعلم حتى إن كنت في صحو أو في منام؟ في حلمي أو في حلم كائن آخر غيري؟".

يتكشف جزء من الغموض قليلاً مع بداية العدم الثاني "بدء التكوين"، إذ تتشكّل داخل رحم الأم من رافقناها في منطقة ما قبل الوجود الأرضي، هكذا نتتبع تفاصيل مكوثها في سوائل الأم، وبكل الغرائبية الممكنة والسريالية تجعل الكاتبة من الجنين كائناً يحس ويشعر ويتلقى الإشارات من المحيط الخارجي ويتفاعل معها وينقلها لنا، ثم ينتهي كل ذلك بخروجها كائناً دبقاً، لزجاً، رطباً، يطلق عليها اسم "أسماء"، وتترافق ولادتها مع مطر غزير ومع موت أمها.

لا يلبث الأب أن يتزوج بـ"آسيا" بعد وفاة زوجته، ما ينشئ كراهية عميقة متبادلة تصحب الطفلة طوال حياتها تجاه المرأة التي احتلت مكان أمها وقلب أبيها الصامت والسلبي أمام قوة زوجته الجديدة وجبروتها.

وبموت العمة "سالمة" التي كانت تربيها وتحكي لها عن تاريخ العائلة منذ الجد الأول، تتفلت خيوط الضغينة والشر، تشعر أن ثمة روح شريرة تسكنها، فتمتلك قدرة خارقة على اصطحاب الآخرين إلى كوابيسها، وتجعلهم يتعذبون بعذاباتها، بعد ذلك تتطور هذه القدرة إلى موت كل شخص تراه في حلمها. وحين تكتشف هذه القدرة تقرر استغلالها في الانتقام.

"في مرحلة ما كلما رأيت أحدهم في المنام أصحو على خبر موته. نجا ثلاثة: أبي وآسيا وشمس. لكن إلى حين. عندما اكتشفت الصلة بين أحلامي والموتى خفت كثيراً. (...) علاقتي وطيدة بالموت. ربما أنا وسيلة من وسائله. لعلي الرسولة التي اختارها لينذر من حان أجله. أو ربما أنا يد من أياديه. خواطر وأفكار مجنونة سيطرت على كل ذرة فيّ وآمنت بها حتى النخاع. هكذا بدأت طوراً آخر. إنها رحلة الانتقام".

تتوالى المشاهد الغامضة التي رسمتها الكاتبة، لا شيء واضح، وحتى استنتاج الأشياء وربط التفاصيل ببعضها، يحتاج إلى الكثير من الصبر والتأني والتركيز، فالرواية لا تتقيد بالتسلسل الزمني أو بالحبكة، إنها أشبه بغابة متشابكة الأغصان تقوم على الهواجس والخيالات والأحلام والهلاوس والصراعات الداخلية التي تمور داخل البطلة، ولا مرشد لنا يخبرنا الحقيقة، ما سرّ "أسماء"؟ هل ما نقرؤه حقيقة أم مجرد تهيؤات تجري في عقل فتاة مصابة باضطرابات نفسية؟

لا إجابة واضحة، فحتى بعد أن تحاول الانتحار ويتم أخذها إلى المصح، تستطيع أن تتلاعب بالطبيب بعد أن تكتشف أنه يملك قدرتها الشيطانية نفسها، وحين تعود إلى المنزل يموت أخواها ومن ثم تلحق بهم هي.

في العدم الثالث "الرحلة الأثيرية"، نجد أسماء في ما بعد الحياة، في مكان هلامي تعاني من أصوات وأفكار متداخلة، وثمة من يطلب منها أن تتطهر من آثامها وتتحرر من روحها المظلمة.

"أنا عينان خضراوان مفتوحتان على وسعهما. عينان عالقتان في مكان ما. أنظر من حولي. عيون كثيرة مثلي هنا. ترى كل شيء في أدق تفاصيله. عيون كثيرة تراقب عن كثب في انتظار شيء ما. ميّزت من بينها يس وشمس ووالدي... لكن آسيا غابت عن هذا السفر بين السموات... فأدركت أنني لم أرَ الجحيم بعد".

في العدم الثالث تنتهي الرواية التي توغلت في تحولات الحياة وما قبلها وما بعدها، وصوّرت المصائر الإنسانية، فناقشت الكثير من الأسئلة الوجودية في قالب متاهيّ، تاركة باب التأويل والتفسير مفتوحاً على كثير من الاحتمالات.

خيرية بوبطان، كاتبة وشاعرة تونسية من مواليد عام 1974. باحثة في الأنتربولوجيا الثقافية. لها ثلاث مجموعات شعرية، وروايتين: "عايش ميت"، و"ابنة الجحيم".