شرح القصائد السبع..

كل ماتريد معرفتة عن دارة جلجل و الفيلوجيا

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية توفيق قريرة

توفيق قريرة(القدس)

في البيت العاشر من معلقة امرئ القيس يقول الشاعر: (ألاَ رُب يَوْمٍ لكَ منهن صَالحٍ // ولا سيما يومٌ بدارةِ جُلجل). هذا البيت في رأي بعض المفسرين هو مفتاح معلقة امرئ القيس، إذ يعتبر أن المعلقة قيلت أصلا تفصيلا لحدث دارة جلجل. ربما يبدو الحديث في هذه المسألة غريبا عن تناول اللسانيين والسيميائين، ولكنه في صلب تناولهم مثلما سنرى لأنه في صميم ما يسمى بالتحفيز أو التعليل اللغوي، ونحن نعني به جهازا تفسيريا يعمل في ركاب العبارات لا لتشرحها فقط (فهي لغة شارحة) بل لتكون خطابا موازيا لخطاب أساسي هو ههنا المعلقة.
في كتاب شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لأبي بكر الأنباري (ت 328 هـ) وفي طالع شرحه قصيدة امرئ القيس خبر منسوب إلى الأصمعي (ص 13 ـ 15) يذكر فيه بالاستناد إلى عبد الله بن رألان راوية الفرزدق أن هذا الشاعر العارف بشعر امرئ القيس وأخباره، روى بسَند مرفوع إلى جده «أن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عمه يقال لها عنيزة وأنه طلبها زمانا فلم يصل إليها.. فلم يمكنه ذلك حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل». القصة أن عنيزة وبعضا من رفيقاتها تأخرن عن القبيلة المرتحلة ونزلن يسبحن في غدير ليُذهبن بعض الكلل، فلما أبصرهن امرئ القيس أخذ ثيابهن واشترط لاسترجاعهن ثيابهن أن تخرجن عاريات ففعلن في مشهد عرض للتعري فريد. ما حدث مع امرئ القيس في نجد حدث مع الفرزدق في العراق قريبا من المربد، فقال لما اطلع عليهن: «لم أرَ كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل».
النظر البنيوي إلى القصيدة ونصها المبرر لها لا يفيد، لأنه علينا أن ننظر إلى كل نص كيف يشتغل لوحده وليس في هذا خطأ، بل فيه من الفائدة التي تجعلنا نسلم بأنه لا علاقة لنص امرئ القيس بما أنتجه الناس حوله من أخبار كخبر تفسير القصيدة بردها إلى هذه المناسبة التي لا يوجد دليل عقلي ولا نقلي يؤكدها؛ فحتى الدليل النقلي الذي هو خبر يوم دارة جلجل هو دليل مفتوح على كثير من التأويل التاريخي، موهما بأن الشاعر هو إنسان تاريخي وما يقوله إنما هو نقل تاريخي لما حدث فعلا. وهذا التصور للشعر الذي رسخته للأسف سنن نقدية ورؤية واقعية للفن هو تصور ينزع من الشعري روحه الخيالية ويذيب الشاعر الأديب في ماهيته التاريخية ولا يفصل بين كائن يقول أدبا وينسج خيالا، وهذا هو الصحيح، وكائن يقول شعرا فيقول صدقا. 
لقد عشنا في تعاملنا عبر التاريخ مع النصوص بشعور مزدوج مختلط وقلما فصلنا فيه بين كون شعري إبداعي علاقته بالواقع تمثيلية بشتى أشكال التمثيل، وكون واقعي استخدمنا فيه شعر الشاعر دليلا عليه، حتى لكأنما نصه إيقونة لذاته. إن الإشكال في العمق نابع من كيفية تعاملنا مع اللغة التي كتب بها الشعراء نصوصهم، هل هي ذات طابع تمثيلي تناظري؟ أم ذات طابع تمثيلي اعتباطي. حين نتعامل مع الشعر على أنه كتب بعلامات علاقتها بما تمثله علاقة تمثيل تناظري، فإننا عندئذ نكون في سياق رؤية تجعل عالم النص مشابها لعالم الواقع. فأن يقال إن امرأ القيس قد قال القصيدة ليصف يوم دارة جلجل فهذا يفترض أن هناك عالما واقعيا مثله الشاعر في قصيدته؛ فقصيدته في بعد من أبعادها إيقونة أو هي صورة صوتية (لغوية) لصورة واقعية حدثت فعلا وأن المحسنات الأسلوبية ليست إلا تقنيات إخراج تجود المشهد الواقعي الأصلي مثلما يحدث في السينما، التي تخفي مناظر جدت في الواقع كإخفاء الشاعر كامل مشهد التعري في نصه حفاظا على الأخلاق العامة. لكن حتى هذا التصور لا يبرر السكوت عن حيثيات المشهد الذي لا يتصور أن يخفيها شاعر بصفات امرئ القيس التاريخية، فهذه لحظة شعرية ممتعة والإمتاع فيها مطلب مشروع فنيا.
يختلف الأمر لو نظرنا إلى علاقة الاعتباط أو عدم وجود رابط بين عالم النص وعالم الواقع، فهذه الرؤية هي التي تخدم الفن وتنظر إلى منتجه على أنه فنان يتصور ويبني أكوانا لا علاقة لها بالتاريخ، وإن كانت لها علاقة بالواقع فليس ذاك هو نفسه واقع الشاعر التاريخي. في هذه الحالة سوف لن نحتاج نص الخبر حتى إن وضع على أنه مناسبة للقول. مناسبة القول الشعري التي عادة ما تتصدر نصوص الأشعار تحركها رؤية تاريخية، وإن شئنا قلنا فيلولوجية قديمة تجعل الأدب وكل شيء مكتوب باللغة مدخلا إلى غيره، خصوصا إلى التأريخ. يعلم المؤرخون جيدا أن الوثائق التاريخية درجات في القوة والضعف وقد يعلمون جيدا أن النص الشعري ليس أقواها حتى إن لم يكن أضعفها. يرى زيمتور أن الاستخدام الفيلولوجي يمكن أن يكون موجها إلى أن تبين باللغة عبقرية جماعة ما في حضارة ما وتطورها الثقافي أو فحص النصوص التي وصلتنا من تلكم الحضارات؛ وللفيلولوجيا اهتمام بالتأويل النصي للوثائق. بهذا الاعتبار فإن النص الخبري يهدف إلى أن يصنع جهازا تأويليا من ناحية، ومن ثم يعتبر النص الشعري نصا ناقصا إن لم يقرأ الخبر؛ إنه يصنع ضربا من العلاقة العلية بين النصوص والحق أن الشعر في غنى عن الخبر. 
الرؤية الفيلولوجية هي التي كانت تهيمن على الرؤية التأويلية، الأولى تنظر إلى النص الشعري على أساس أنه وثيقة مادية تصف حياة نفسية في لحظة تاريخية؛ لكن الرؤية التأويلية هي التي تنظر إلى النص باعتباره كيانا دلاليا مستقلا. ومثلما بين فريديريك دوفال، فإن الفيلولوجيا سوف تترك مكانها لتقنيات مستمدة من الأدب، هي التي تصنع النقد النصي الذي يبحث في النص عن عناصره المهمة من رحمه هو، لا من وسائل لغوية خارجة عنه. وستترك الفيلولوجيا مكانها للسانيات المعاصرة التي تنظر في اللغة في ذاتها باعتبارها نظاما. لكنْ يبدو النقد اليوم المتشبث «بدارة جلجل» وبخبرها الذي لا نملك له قوة اليقين ولا يعنينا أن نجدها له؛ ما يزال مسيطرا على الأذهان؛ فالنقلة الذهنية من العصر الفيلولوجي ومن عصر مناسبة القول المستمدة من أسباب النزول ما تزال مسيطرة على النشاط التأويلي للنصوص؛ وأن الفصل بين الشاعر كائنا تاريخيا والشاعر كائنا إبداعيا لم يتحقق حتى في أعلى درجات النقد الأكاديمي أحيانا. وأن الحديث عن امرئ القيس الشاعر يتلبس في غالب الأحيان بامرئ القيس الإنسان، وأن قصته مع ابنة عمه سواء أكانت عنيزة أم غيرها، باتت من تحصيل الحاصل كحكاية يوسف مع زليخة. يبحث المفسرون هنا عن تفاصيل التفاصيل حتى تبدو المرأة كيانا تاريخيا مكسوا بالدقائق، ويبحث الشراح هناك عن تفاصيل التفاصيل لرسم علاقة امرئ القيس بعشيقته؛ وحين لا يبدو النص هنا ولا هناك كافيا يتسع الخيال لابتداع التفاصيل. بذا نكون قد خلقنا قصصا للشعر وقصصا للقرآن هي وليدة من رحمه، لكنها تدعي أنها أسباب لوجوده وهذا من عجيب تعايش النصوص.

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية