تغييب الوعي..

الأدب في الوعي المجتمعي: الأنظمة العربية وسياسات التجهيل

رواية الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس

رامي أبو شهاب(القدس)

إن قراءة رواية من روايات الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، أو مجموعة من قصص الروسي تشيخوف، يمكن أن تسهم بطريقة أو بأخرى بتكريس مجتمع حضاري قادر على تصريف فائض العنف الذي يغشى مجتمعاتنا، التي ما فتئت تغرق في الدمار والهلاك، والكراهية، فقراءة الأدب في المجتمعات العربية لا ينظر له بوصفه سلوكا أساسياً، إنما يندرج في الذاكرة العربية، أو في متخيلها ضمن دائرة الثانوي، أو العرضي، ومع أن هذا ربما يعدّ مسلكاً مجتمعياً، غير أنه نتاج فعل مؤسساتي بامتياز، وعندما أقول مؤسساتي، فإن المعنى ينصرف إلى نظام ثقافي قار في الذهنية العربية التي تسعى إلى مستوى المؤسسة التعليمية والثقافية، والمؤسسات المجتمعية عامة إلى تحييد القيم الجمالية في عقل الإنسان العربي ووعيه، فالجمال لن يدرك إلا بتوفر أو تمثّل مساحة من الحرية والكرامة والإنسانية المطلقة، فلا جرم، أن يُقصى هذا الفعل بأي صورة من الصور، ولكن من قبل دعاة القبح، كونه يشكل تهديداً لعوالم التراتبية التي تقوم عليها مجتمعاتنا. والأدب في أحد تجلياته يعمل على تعرية أنساق الاستقواء المجتمعي القائم على نخبوية سلطوية متعددة الوجوه؛ ولهذا يجب أن يبقى وجدان الإنسان العربي منصرفاً بالكلية إلى التفكير باليومي والمعاش، أو أن يبقى مشغولا بنسق تفكير تاريخي استعادي.

الديكور الثقافي

ولعل رأياً ما يرى أن في عالمنا العربي مؤسسات أكاديمية، ودور نشر، وكتابا، ومعارض كتب في كافة أنحاء العالم العربي، غير أن هذا الفعل ليس إلا مسلكاً منظماً، يشتغل على نمط مزيف، حيث ينظر إلى الثقافة على أنها أمر يتعلق بصورة مقتضيات المدنية والحضارة الطارئة، غير أنها لا تعكس سلوكاً حضارياً، فالثقافة ليست سوى مكمل جزئي من صورة الدولة التي تتعامل معها، من منطلق رغبتها بنيل الاعتراف بوصفها تشكيل في عالم متحضر، وهي تسعى إلى صوغ معيارية معينة لتعريف الدولة، وقيمها وشكلها، ولكنها حقيقية على مستوى الوعي العميق لا تؤمن بالثقافة بوصفها صورة حضارية يمكن أن تكون أداة للتقدم. 
لا شك في أن ثمة فرقاً كبيراً في المقارنة بين نوعين من المعيارية، الأولى التي تستند إليها المؤسسات والمنظمات التي تسعى لنيل الاعترافات والشهادات التي تقيس على سبيل المثال جودة التعليم، ومؤشر الفساد، ونسبة التضخم، ومقياس السعادة، أو الدول الأكثر أماناً، فضلاً عن مدى توفر معدلات نمو اقتصادي، أو مستوى تعليمي مميز، أضف إلى ذلك المؤسسات التي تمنح الاعتمادات للمؤسسات التعليمية والمنظمات والجمعيات الثقافية وغيرها، كل ما سبق يحضر في العالم العربي، ولكن لا من منطلق الإيمان بتلك القيم التي تبحث عنها تلك المؤسسات، أو تنطلق منها، فالنوع الثاني من المعيارية يهدف إلى توفير اشتراطات مؤسسة تنعكس على تقدم الإنسان، والمواطن الذي يبدو سلوكه منبت الصّلة بتمثل الجمالي والإنساني في ما حوله، أي أن الثقافة لا تتبدى سلوكاً، في حين أن هذه المعيارية أتت لتصون مفهوم الإنسان، وهذا ينطبق على القوة العسكرية في دول العالم الثالث التي لا توجد لحماية الشعب، والحرص على أمنه بمقدار ما تبنى الجيوش لتوجه أسلحتها للداخل.

تغييب الوعي

إن كافة التيارات الفكرية الكبرى التي مارست وعياً نقدياً كانت تنطلق من واقع التغيير، ولعل التأمل في التيارات الفكرية الكبرى كانت على اتصال مباشر ببنى المجتمع ثقافياً، فضلاً عن الانعكاسات التي تفرزها النظم الاقتصادية وغيرها، فإن علمية تكوين عقل الإنسان حضارياً وإنسانياً لطالما كانت بعيدة عن الارتجال، إنما هو أمر مخطط له بعناية، ومع أن تفسيرات أفلاطون وتصوراته حول شكل الدولة تكاد تختلف عن أرسطو، غير أن كليهما كان على وعي بقوة المؤسسة، ولهذا صاغوا تصوراتهم في ضوء التأكيد على التربية، فانصرفوا إلى إنشاء الأكاديميات كل حسب تصوره، وهكذا، فإن الوعي في تشكيل فلسفة ما تحتمل التأمل المستمر للواقع، يأتي نتاج فعل عقلي، فإذا كانت الوضعية قد شكلت مجال نفوذ في فترة من الزمن، فإن الفلسفة الظاهراتية أتت لتعيد تقديم الوعي، وكبح جموح المادي، وتصوراته. هذا التجسيد للفعل التأملي يتجلى في مقدار الثقافة التي يتمتع بها الإنسان، إنها ليست الثقافة التي تسعى لأن تستجيب لفعل توفير الاشتراطات للدخول في نوادي الحضارة الإنسانية بإعداد معيارية ظاهرية، وتحقيق استجابة لها، إنما من منطلق أن هذه المعيارية تمارس دوراً وظيفياً إنسانياً في المقام الأول. 
لا شك في أن معظم مناهجنا وسلوكنا الثقافي يتسم بالارتجال، فليس هناك من وعي بأهمية تعليم الأدب إلا من باب ضيق، وكأن ثمة خشية على النشء، ولا سيما في المؤسسات التعليمية، من مقاربة نصوص روائية أو شعرية تتسم بقدر عال من الوعي والفكر والجمال، أو ثمة خشية من أن ينهض العقل، وأن ينشأ الإنسان العربي وهو قادر على التمييز بين الجميل والقبيح، ربما لأن أول معالم هذا التمييز إدراك قبح ما يحيط به من نظم مؤسساتية، غير قادرة على أن تقدم له تصورا لذاته الإنسانية، ولهذا عليه ألا يميز بين السلوك الحضاري والسّلوك المتخلف، فلا يدرك ممارسة الحوار والتسامح باعتبارهما منهج حياة، والأهم من ذلك نبذ الجمال لأنها تقود إلى المطالبة بقيم العدالة، والمساواة، وغير ذلك.

سياسات التجهيل

لا شك في أن القيم السالفة كامنة في التربية الدينية، والأعمال الأدبية العظيمة، غير أن الأولى تتعرض للاختطاف والاستلاب من قبل الجماعات، ما يجعلها موضع تأويل، وتعديل مستمر تبعاً للمؤسسة، وتحولاتها، فبين ليلة وضحاها نكتشف أن ما كان محرماً أصبح مباحاً، في حين أن الثانية بكل ما تحمله من دنيوية تحارب هي الأخرى، فعلى سبيل المثال فإن مسرح بريخت يعدّ القدر الأكثر مأساوية للنظم المؤسساتية الرسمية، لأن منظورها وفكرها للأدب ينطلق من مواصفات محددة، ويأتي فقط تلبية لفكرها، فالتحضر والتفكير النقدي لا يتحقق بعناوين حضارية تقارب منتجات عصرية، أو الحديث عن مشكلات بيئية وتقنية وحسب، وبوجه خاص في ظل وجود مجتمع غير معتاد على قراءة الأدب، ما يفقده مصدراً من مصادر التغيير، وتحديث السلوك الحضاري إلى نسخ جديدة. 
يتحقق البعد الحضاري في تدريس رواية تقدم منظوراً للحياة يخالف الرّواية الرّسمية للمؤسسة، وعلى الإنسان أن يقرر موقفه. إن الوعي بالقيم من خلال الأدب أمر غير محبّذ في تفكيرنا المجتمعي، وهذا ينسحب على محاربة التخيل والفلسفة والفنون، إن مجتمعاتنا لا تحفل بالأدب والفن لكونهما الأداتين الوحيدتين القادرين على تحويل الوعي إلى قوة، فالمشكلة لا تكمن في المؤسسة، أو المجتمع إنما تكمن في النخبة التي تسعى لأن تبقي على وجودها الذاتي، لوظيفتها بوصفها شكلاً من أشكال المسؤولية الواهمة.

الرعب من التغيير

الفساد، والانحراف، والظلم في المجتمعات لا يمكن أن يهزم ما لم يقرأ الإنسان جملة أعمال ديستوفسكي، وماركيز، وول سوينكا، وفوكنر، وميشيما، وجوزيه ساراماغو، وكلود سيمون وغيرهم الكثير، فهذه القراءات هي التي يمكن أن تحرر الطاقات العنيفة والمكبوتة في وعي النشء والأطفال والمراهقين والشباب الذي نشأوا في ظلال منظور واحد لا يتغير. فالأدب الجيد ربما يقود إلى التغيير، في حين أن هذا التغيير يعد أبرز قيمة مرفوضة في مجتمعاتنا القائمة على تكريس الهيمنة، ومع غياب المخيلة، والوعي بحدود واسعة فإن التفكير لن يجنح إلى المطالبة بالتغيير، وإن سعى إلى التغيير، فإنه سيلجأ إلى العنف، لأن العنف ثقافة القبح، ومن خلاله تقاوم الأفكار، ولهذا فإن ردود الفعل تحتكم إلى العنف الجمعي عادة، لأنه فعل متبادل. وهذا يدفعني للتساؤل، كيف يمكن أن نصنع فردا متحضرا ما لم يقرأ الأبعاد الجمالية والإنسانية والفلسفية لألدوس هكسلي، وابن عربي، وناظم حكمت والبياتي وغيرهم؟ وهذا ربما ما يجعلني أتساءل عن وجود الأدب في ثقافتنا ومناهجنا، لا شك في أن هذا التجهيل بقيمة الجمال ينتج مجتمعات تفتقد إلى حس التوازن بين العناصر القومية والدينية والجمالية والإنسانية، فليس ثمة انسجام بين هذه العناصر، فقد كرّست المؤسسة السلطوية فعل التنافر بين هذه المستويات حين أشاعت أفكاراً، في أن الأدب والفلسفة منافستان للدين، أو حين جعلت القومي والوطني مقدماً على الإنساني، أو حين قصرت الجمالي على الذات المطلقة، ولم تعزز الجمالي بوصفه نسبياً يقوم على الاختلاف، والتغاير، وهذا يقرره الفرد. إن أذواقنا وأفكارنا مصاغة بعناية في خطاب المؤسسة، والتفكير غير مجسد إلا بوصفه خدمة للثبات وعدم التغيير، كي لا نمارس الفهم، وهذا ما يدعوني لتذكر مقولة فرانز كافكا حين تساءل عن الأدب وقيمته.. ولماذا نقرؤه… ما لم يتحول إلى الفأس الذي يكسر البحر المتجمد في دواخلنا.

٭ كاتب فلسطيني أردني