الفهم الاجتماعي للتاريخ..

الكتابة التاريخية عند المسلمين فاقت مع تطورها

عصر التدوين يعود عملياً إلى أوائل العصر العباسي

محمد الحمامصي

رأى د. أيمن فؤاد سيد أن الكتابة التاريخية عند المسلمين فاقت مع تطورها، ما وصلت إليه الكتابات التاريخية السابقة (اليونانية واللاتينية والفارسية) في الفهم الاجتماعي للتاريخ أو التنظيم العلمي للمادة التاريخية، وعلى الأخص اعتبارا من المسعودي ومسكويه في القرن الرابع الهجري وصولا إلى ابن خلدون ومدرسته في القرن التاسع الهجري. حتى أصبح التاريخ أحد الفروع ذات المجلدات المتميزة في الإنتاج الأدبي العربي، وتحتل نسخه الآن المكان الأكبر على رفوف خزائن الكتب العالمية. 
لكن د. أيمن من جانب آخر أكد أنه حتى الآن لم يمكن عمل قائمة كاملة بالمؤلفات التاريخية التي أنتجها الفكر العربي الإسلامي على امتداد ثلاثة عشر قرنا هي عمر الإنتاج الفكري العربي المخطوط. وقال في تقدمته لكتابه الضخم "الكتابة التاريخية" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية: "يعرف الدارسون المحدثون هذه المؤلفات بطريقة متفاوتة تبعا للعصور التاريخية والمناطق الجغرافية المختلفة، خاصة وأن ما وصل إلينا منها يعد نذرا يسيرا مقارنة بما ذكر في كتب التراجم والطبقات، وما أورده محمد بن إسحاق النديم في نهاية القرن الرابع الهجري، في كتاب الفهرست، وحاجي خليفة في منتصف القرن الحادي عشر في كشف الظنون، فلا شك أن دراسة الكتابة التاريخية عند المسلمين وتطورها تتطلب بالطبع توافر قائمة بما أنتجه المؤرخون المسلمون في هذا الميدان".
وأضاف د. أيمن أنه كانت هناك محاولات لذلك قام بها وستنفلد وبابنجر وبروكلمان ومؤخرا فؤاد سيزكين وروزنتال وستيفان همفري وشاكر مصطفى، ولكنها غير مكتملة، وعلى ذلك فما يزال كثير من كتب التاريخ الإسلامي والأساسية فيه غير معروفة على نطاق واسع وليس من السهل الحصول عليها بسبب عدم الاهتمام بالنشر النقدي للمصادر القديمة. إن أهم المصادر التي نتعرف من خلالها على الأنواع المختلفة للتأليف التاريخي عند المسلمين وعناوينها هي، كتاب "الفهرست" لأبي الفرج محمد بن إسحاق النديم، ثم المقدمة الشاملة التي كتبها صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي لكتابه الضخم "الوافي بالوفيات"، ورسالة "المختصر في علم التاريخ" للكافيجي، وكتاب "الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ" لشمس الدين السخاوي، وأخيرا كتاب "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة كاتب جلبي، إضافة إلى كتابي "تاريخ الأدب العربي" لكارل بروكلمان وتاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين.

لم يتم جمع القرآن بين دفتي كتاب إلا في عهد  الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق، بعد أن أقنعه بضرورة ذلك الفاروق عمر بن الخطاب نتيجة لأن القتل استحرّ بالقراء يوم اليمامة

كما أن هناك جهودا لعلماء سابقين مهدت الطريق لدراسة تطور الكتابة التاريخية عند المسلمين، يأتي في مقدمتها مادة "تاريخ" التي كتبها السير هاملتون في الطبعة الأولى لدائرة المعارف الإسلامية، ومقال يوسف هوروفتش المهم "المعازي الأولى ومؤلفوها"، ودراسة عبدالعزيز الدوري "بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب" وكتاب فرانز روزنتال الذي لا غنى عنه "علم التاريخ عند المسلمين"، الذي أشار فيه إلى الفروق الموجودة بين المفهوم الأوروبي الحديث للتاريخ ومفهوم المؤلفين المسلمين في العصر الإسلامي، ثم الفصل الذي عقده فؤاد سزكين عن التدوين التاريخي في كتابه "تاريخ التراث العربي" فيما يخص فترة النشأة والذي بذل جهدا خاصا بالنسبة للمؤرخين الأوائل ورفع أسماء مؤلفاتهم التي لم تصل إلينا إلا عن طريق مؤلفين متأخرين، ومقالا كلود كاهن "علم التاريخ العربي من الأصول إلى القرن السابع الهجري"، و"التاريخ والمؤرخون: من البدايات وحتى زمن الطبري". 
وكتاب السيد عبدالعزيز سالم "التاريخ والمؤرخون العرب" ودراسة عثمان موافي "منهج النقد التاريخي عن المسلمين والمنهج الأوروبي"، وكذلك دراسة شاكر مصطفى "التاريخ العربي والمؤرخون - دراسة في تطور علم التاريخ ومعرفة رجاله في الإسلام"، ومقال تاريخ الذي كتبه ستيفان همفري، وكتب حسين مؤنس "التاريخ والمؤرخون - دراسة في علم التاريخ ماهيته وموضوعاته ومذاهبه ومدارسه عند الغرب وأعلام كل مدرسة وبحث في فلسفة التاريخ ومدخل إلى فقه التاريخ". 
وأخيرًا كتاب طريف الخالدي "الفكر التاريخي العربي في العصر الكلاسيكي" وكتاب فريد دونر "بدايات الكتابة التاريخية الإسلامية" وكتاب فاروق عمر فوزي "التدوين التاريخي عند المسلمين – مقدمة في دراسة نشأة علم التاريخ وتطوره" وكتاب عبدالسلام الشدادي "العرب واستيعاب التاريخ – ظهور وبدايات نمو التدوين التاريخي عند المسلمين"، وكتاب وجيه كوثراني "المدارس التاريخية في الغرب وعند العرب - مدخل إلى علم التاريخ" وتاريخ التأريخ اتجاهات - مدارس - مناهج". 
إضافة إلى التقرير الذي كتبه شيز روبنسون حول دراسة تقدم علم التاريخ عند المسلمين، والملاحظ على أغلب هذه الدراسات، التي يمكن أن نضيف إليها كذلك كتابات جواد علي عن "موارد الطبري، وموارد المسعودي" أنها اختصت بالفترة الإسلامية المبكرة والقليل منها فقط تناول الفترات التاريخية اللاحقة.
وحول ما يثار حول نشأة الكتابة التاريخية عند المسلمين تساءل د. أيمن: هل كانت هذه الكتابة ابتكارا إسلاميا أصيلا منذ بدايات الإسلام؟ أي هل هناك تميز وتغير كامل في الكتابة التاريخية مع ظهور الإسلام، مع الأخذ في الاعتبار بالطبع بوجود مؤثرات خارجية وإن كانت بشكل ثانوي، أم أن هناك استمرارية مع تقاليد الكتابة التاريخية القديمة طوَّرها ظهور الإسلام وأدخل عليها تجديدات خاصة به؟ مع ملاحظة أن الهدف الرئيسي للكتابة التاريخية الإسلامية في بداياتها كان وعظيًا ولم يكن إطلاقا لغرض الانتقاد والبحث.
وتناول د. أيمن مفهوم التاريخ وتطور الفكرة التاريخية عند المؤلفين المسلمين وتطور معالجتهم لها مع اختلاف المدارس التاريخية، أولا في المدينة والبصرة والكوفة، ثم في مصر وفي إقليم الشام والجزيرة واليمن، إضافة إلى المصادر التاريخية سواء التي كتبها النصارى أو اليهود الذين عاشوا في المجتمع الإسلامي، ودراسة الأشكال المستخدمة في عرض المادة التاريخية، وكذلك مناهج ونظريات النقد التاريخي عند المؤرخين المسلمين في إطار نشأة وتطور الثقافة الإسلامية في العموم في الشرق مهد الإسلام ومركز ثقله الدائم، بحيث إننا لا نستطيع فهم الحضارة الإسلامية وتطورها ما لم ندرس الشرق الإسلامي عن كثب، مستعينا بالدراسات السابق ذكرها التي وضعت الأساس الصحيح لهذا الموضوع، وندين لها بمعارفنا وأفكارنا الأساسية، وتناولت بعد ذلك التاريخي ونظريات النقد التاريخي عند الغربيين وكتابة العرب المحدثين للتاريخ الإسلامي. 

أخذ الحفظ يتناقص
مفهوم التاريخ وتطور الفكرة التاريخية 

رأى د. أيمن أن بداية التدوين وتطوره عند المسلمين في المائة وخمسين عام الأولى للإسلام يكتنفه الكثير من الغموض وعدم الوضوح، فقد كان الدين الجديد في حاجة إلى من يكتبون الوحي، أي يدونون آيات القرآن الكريم، ويكتبون الرسائل التي يبعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى شتى بقاع الأرض يدعو الناس فيها إلى الدخول إلى دين الله. وهناك أخبار متواترة عن قوم كانوا يعرفون الكتابة في الجاهلية، فيروي البلاذري أن الإسلام دخل وفي قريش سبعة عشر رجلًا كلهم يكتبون، ويروى عن الواقدي أن الإسلام جاء وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون وقد أحصاهم فبلغوا إحدى عشر رجلًا على رأسهم سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبي ابن كعب، وزيد بن ثابت. واقتصر ما نعرفه عن الكتابة قبل الإسلام على أن العرب كانوا يستخدمون الكتابة في تسجيل عهودهم وأحلافهم وصكوك دينهم، ولم ترد إلينا معلومات عن تدوين الشعر في العصر الجاهلي، وإنما كان يتداول مشافهة فكان الرواة يأخذون الأشعار المنسوبة إلى الجاهلية وصدر الإسلام عن أي بدوي يصادفونه، فجاءت من هنا الفروق المختلفة للقصيدة الواحدة، يضاف إلى ذلك أن ظاهرة الرواة لا توجد عادة إلا حيث ينعدم التدوين، كما أن الحديث عن المعلقات ليس مشتقا من التعليق وإنما من مادة علق، والعلق في اللغة هو الشيء النفيس، وتجمع كتب السيرة النبوية على أن رسول الله جعل فداء أسرى قريش في غزوة بدر أن يعلم الواحد منهم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة، فاتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من بين هؤلاء الذين كانوا يعرفون الكتابة، كتابًا للوحي تراوح عددهم تبعا للمصادر بين 26 و 42 كاتبًا، في مقدمتهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، إضافة إلى عدد كبير من القراء والحفاظ شارك نحو السبع مائة منهم بعد وفاة الرسول في معركة اليمامة، غير إنه لم يتم جمع القرآن بين دفتي كتاب إلا في عهد  الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق، بعد أن أقنعه بضرورة ذلك الفاروق عمر بن الخطاب نتيجة لأن القتل استحرّ بالقراء يوم اليمامة وخشية عمر أن يستحرّ القتل في القراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن. وعهدا بهذه المهمة الثقيلة إلى زيد بن ثابت أحد كتاب الوحي، واجتمع رأي الصحابة على تسميته المصحف، وظلت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة ابنة عمر.
وقال إن مرحلة تدوين المرويات وجمع النصوص المتفرقة تبعتها مرحلة تالية في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي رتبت فيها هذه المادة ترتيبًا موضوعيًا وفق الموضوعات المختلفة في فصول أو أبواب وهو ماعرف بـ "تصنيف الحديث". كان ذلك في وقت عرفت فيه الحركة العلمية في المجتمع الإسلامي عمومًا مدونات جامعة، فألف كل من محمد بن إسحاق، وأبي مخنف لوط بن يحيي، وعوانة بن الحكم مدوناتهم في التاريخ، ووجود في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي عدد من علماء الحديث وصفوا بأنهم أول من صنف الحديث منهم: عبدالملك بن جريح المتوفي سنة 150هـ/767 في مكة، ومعمر بن راشد المتوفي سنة 153هـ/770 في اليمن، وسعيد بن عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما في البصرة، وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي في الشام، والإمام مالك بن أنس في المدينة، وسفيان الثوري في الكوفة، والليث بن سعد، وعبدالله بن لهيعة، وعبدالله بن وهب في مصر، يقول الذهبي: "وقبل هذه العصر كان ثائر الأئمة يتكلمون عن حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة، فسهل ولله الحمد تناول العلم، وأخذ الحفظ يتناقص، فلله الأمر كله".
وأقدم الكتب التي وصلت إلينا من تلك الفترة "كتاب الجامع" لمعمر بن راشد، و"كتاب المناسك" لقتادة برواية سعيد بن أبي عروبة، و"كتاب الجامع" ربيع بن حبيب البصري المتوفي سنة 160هـ/777، وكتاب"الجامع في الحديث" لعبدالله بن وهم المتوفي سنة 197هـ/812، واستمر هذا الوضع إلى أن ظهرت في أواخر القرن الثاني للهجرة طريقة أخرى لترتيب الأحاديث وفق أسماء الصحابة رضي الله عنهم، وذلك في كتب تحمل اسم "المسند". ومعنى ذلك أن عصر التدوين يعود عملياً إلى أوائل العصر العباسي.