الشغف والغيرة والحزن والحرب..

أساطير الحب بين الآلهة في أشهر الأعمال الأوروبية

أساطير الحب بين الآلهة في أشهر الأعمال الأوروبية

وكالات

مثّلت أساطير الحبّ بين الآلهة قصصاً غيرَ محسوسة ومفعمةَ بالطبيعة الخارقة والتحولات السحرية التي اشتبكت فيها ماهيةُ الإنسانِ والحيوان والنبات ببعضها.

فكلُّ عملٍ فني وليدُ عصره، ولكلّ نتاجٍ فنيّ استعاراتُه الخاصة المشتقة من مصادرٍ تختلف باختلافِ التجارب الإنسانية والاجتماعية للزمان والمكان.

من تكويناتٍ احتشدت بالعناصر البشرية والطبيعية ومايدورُ حولها من أحداثٍ وأجواء رُسمتْ بغايةِ الدقّة والعناية، إلى أنظمةٍ بصريةٍ إيقاعية مجردة من كل بيّنةٍ واقعية تخصُّ المحاكاةَ المباشرة، تطبعت الأساطير بالإنسان شكلياً وضمنياً، فتمثلت شخصياتُ الأبطالِ الأسطوريةُ والآلهةُ بالبشرِ، رجلٍ وامرأة، بطبائعٍ إنسانيةٍ لكن أكثرَ مثاليةً وقوة.

تمثلت شخصياتُ الأبطالِ الأسطوريةُ والآلهةُ بالبشرِ، رجلٍ وامرأة، بطبائعٍ إنسانيةٍ لكن أكثرَ مثاليةً وقوة

حبّ الآلهة من الأنسنة الرومنسيّة إلى التشكيل الرمزي

قصص الآلهةِ التي تبناها فنانون وشعراء وأدباء استلهموا منها تلك الحالات الإنسانية القريبة من أنواع العلاقات البشرية اليومية، الحب، الغضب، الحسد، الغيرة، الشهوة، الحزن، الحرب. هذه العلاقات التي تخصّ الإنسانَ وطبعه أكثرَ من كون الأسطورة مادةً دراميةً ملفتة.

فالأساطير لا تملك حياة خاصة بها، كما يقول الفيلسوف الفرنسي العبثي البير كامو الأساطير، لذلك وجبَ عليها أن تنتظرنا لنعطي لها الجسد والمعنى.

بالفعل حصدت الآلهة حضوراً بارزاً بتوصيفٍ إنسانيّ بصري كامل في أعمالِ فناني عصرِ النهضة في أوروبا، تحديداً بعد التحوّل الذي طرأ عليها في العصور الوسطى، فاتخذ فنانو عصر النهضة الشخصياتِ الأسطوريةَ كمصدرٍ جماليّ للقيم والنسبِ المثالية التي كانت تتماشى تماماً مع مبادئ عصر النهضة.

مثل الإنسان في عصر النهضة وجدت الأساطير مادةً مناسبة لتصويرِ العالم الطبيعي الإنساني، فبدأ الفنانون حوالي سنة 1470 بتوظيف رسمِ الجسدِ العاري كدراسةٍ تشريحية، وإبرازِه بقمّة حالاتِه ووضعياتِه المثالية، حتى بما يخصُّ الموضوعاتِ الدينية، وأصبحت الأساطيرُ المادةَ التعريفيةَ لفن عصر النهضة وموضوعاً ملهماً على مدارِ المدراسِ الفنية المتعاقبة بعدها.

"الحب بين الآلهة" من أبرز الموضوعاتِ الأسطوريةِ التي لفتت فناني أوروبا، فقد كان للحب رصيدٌ واضحٌ في أعمالٍ تصويريةٍ وغرافيكية تألقتْ في تاريخ الفن كمرجعٍ معرفيّ يعود للحدث الأسطوري من جهة، وكمرجع تقنيٍ فنيّ ساحرٍ لأسلوب الفنان ومهارته من جهة أخرى.

في القرن السابع عشر تمت دراسةُ موضوع العودةِ من الحرب لـ"بيتر بول روبنز"، فنانٌ أوروبي فلمنكي 1577-1640، تأثرَ بالتاريخ المسيحي والأساطير في أعماله، برمزيةٍ تشيرُ للسلام، ففينوس تنزعُ الخوذةَ عن عشيقها مارس وهو مأخوذٌ بنظراتِها الساحرةِ المغرية.

لكن لم تكن الرمزيةُ بحسب روبنز إلا دلالةً على هشاشةِ السلام، فالحرائق والحرب مازالت متقدةً في الخلف، ويبدو أن للحبّ تأثيراً مؤقتاً على تهدئة الحرب.

كان لحادثة اختطاف الآلهة أوروبا من قبل الإله جوبيتر وقعاً بين الفنانين الأوروبيين، وتطرق عددٌ من المصورين الكلاسكيين لتجسيد هذه الحادثة كـ"كلود غيليه" 1600-1682، فنانٌ فرنسي من عصر الباروك تركزَ نشاطه الفني في إيطاليا، على لوحةِ اختطاف أوروبا، التي كانت تجمع الأزهار قرب شاطئ البحر، وإذ بعاشقها الإله جوبيتر متحولاً إلى ثورٍ أبيض يترصدها بين الماشية.

سُحرت أوروبا بأجواء الطبيعة المذهلة وتجمُع الثيران، فعلَّقتْ أكاليلَ وردٍ على قرنَي الثور الأبيض وامتطتهُ، ليقطعَ البحار هارباً بها إلى جزيرة كريت. حيث عادَ جوبيتر لحياته الطبيعية آسراً سحرَ أوروبا. المزاج الهادئ الرومنسي للفنان يبرز في اللوحة، ويبرعُ بخلق التناقضِ الساحرِ بين جمال الأسلوب ورومنسيته بتوضُّع الأشجارِ وحركة الأمواج والضوء الفاتر وعنف الموضوع الكامن للعمل.

أما الفنان المصور والغرافيكي الهولندي "ريمبرانت فان راين" 1606-1669، صاحبُ الإنجازاتِ المتألقةِ في مجال التصوير وتقنيات الحفر والطباعة، رسمَ الضوءَ وحدّد تكويناتِ أعماله بالعلاقاتِ المبهرة للأضواء والظلال.

رسم ريمبرانت مشهدَ الاختطاف بدراما بصرية خاصةٍ بأسلوبه الفريد الذي تراوح بين ثقلِ كتلة الأشجار المظلمة من اليمين والتي تتوازن بنقيضها الأزرق الوردي في مشهد البحر، العربة مزيّنةٌ بلمساتٍ ذهبيةٍ مضيئة وأوروبا بأجمل الأثواب المنعكسة على الماء.

اعتبرت هذه اللوحة من الأعمال الفريدة لريمبرانت التي تمتازُ بغزارةِ مشهدِ الطبيعة. 

اقتراباً من المدرسة الروسية التي استقطبت فيها الأسطورة عدّة فنانين منهم فالنتين سيروف 1865 -1911، واحدٌ من أهم فناني البورتريه في بدايات القرن العشرين، وإنجازه الفني عام 1910 لأسطورة اختطاف أوروبا، يعدّ من أهم النتاجاتِ الفنية الحداثية في روسيا.

تظهرُ ملامحُ الحداثة في توصيف القصة الأسطورية برمزيةٍ عاليةٍ، مع اختلافاتٍ ملحوظةٍ بين الأسطورة المعروفة وبين أداء الفنان الحداثي للعمل.

كان لفناني بدايات القرن العشرين الأوروبيين تأثرٌ واضحٌ في موضوعات الأساطير والآلهة، بشكلٍ مختلفٍ وبعيد كل البعد عن الغايات الأخلاقية للفن في القرون الماضية.

بابليو بيكاسو أحد أهم فناني القرن العشرين، مؤسس المدرسة التكعيبية الذي نقل موضوع الأساطير لمباحث رمزيةٍ فكريةٍ متجددة، ووظّف موضوعاتِ الآلهة كمصدر إلهام تفنّن في استكشافه من خلال التقنيات الغرافيكية.

عُرضَت سلسةٌ من أعماله بجانب قطعٍ أثريةٍ تعود للحضارة اليونانية القديمة كنوعٍ من الربط والتحليل في معرضٍ افتُتح في متحف الفن المعاصر في باسيل فرنسا سنة 2004 بعنوان "بيكاسو واليونان القديمة".

من أشهر أعماله في الأساطير رسمُه بالغرافيت أسطورةَ اعتداء نيزوس وديانيرا، حيث تتركز القصة على خطف عروس هرقل ديانيرا من قبل نيزوس الذي وعد بالهرب بها عن طريق النهر، ذروة الحدث تتلخصُ تماماً في رسم بيكاسو للحظة الاعتداء.

جنباً إلى جنب وقف ماتيس الفنان الفرنسي الذي يُعرف بفنان اللون في القرن العشرين 1869-1954 بأعماله التي تحمل الصبغةَ التزينية الزخرفية أيضاً بتقنياته ومسوداته على موضوع الأساطير، فكان الاقترابُ من سجلات الآلهة اليونانية والرومانية الحافزَ الإبداعيّ المُلهم في استكشاف التقنياتِ الفنيةِ للعمل المطبوع في أعمالٍ غير محدودة.

كان ماتيس يعتمد المسودات كثيراً قبل الوصول لعمله النهائي، وقد استلهم أيضاً رسماً فنياً من مشهد اختطاف أوروبا، وبشكلٍ ملحوظٍ يمكن قراءةُ الاختلافات البصريةِ والنفسية للتمثيل التشكيلي لهذا الحدث وتغيراتِه عبر العصور.

هناك المزيدُ من التجاربِ المميزة لفنانين حداثيين ومعاصرين فسّروا الآثارَ الإنسانية للأساطير من خلال تجاربهم الشخصية رغبةً منهم في الخوض وراءَ دوافعِهم، محاولين الإيحاءَ بأن العالمَ هو سلسلةٌ من التجاربِ الإنسانية التي لم تتغير ربّما في قدرتها على الإلهام.