تصاعد إعلانات الإفلاس..

هل تؤدي سياسات أردوغان المالية لانهيار الاقتصاد التركي؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان

أنقره

في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو 2016، فرض الرئيس رجب طيب أردوغان حالة طوارئ، لم تحدّ فقط من الحريات السياسية، ولكن من الحريات الاقتصادية أيضًا،  وشمل ذلك فرض حظر على إفلاس الشركات. عندما رفعت الحكومة التركية حالة الطوارئ بعد عامين، أفضى هذا بطبيعة الحال لمخاوف بتصاعد إعلانات الإفلاس. وقد أدّى انهيار الليرة في أغسطس الماضي لتفاقم تلك المخاوف، إذ فقدت العملة التركية 40 بالمائة من قيمتها هذا العام وحده. وقد تَمثَّل ردّ أروغان بالسماح للشركات بحذف خسائرها بالعملات الأجنبية من حسابات الإفلاس, ما يهدد بخلق "اقتصاد الزومبي" الذي يُضاف إلى الديمقراطية الميتة بالفعل في تركيا. 

تحظى تركيا بسمعة مستحقة وسط المقرضين من حيث تعقّد عملية جمع الديون،حيث إن أوجه القصور في النظام القضائي التركي تجعل من الصعب على المقرضين الحصول على المستحقات عبر الإجراءات القانونية. عقب أزمة 2001 الاقتصادية، والتي أوصلت حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان إلى السلطة بعد ذلك العام، ومرّرت الحكومة تشريعًا يمنح المدينين غير القادرين على سداد ديونهم الفرصة لتفادي إعلان الإفلاس عبر الدخول في ترتيبات توافقية لإعادة هيكلة الديون. لقد تحول ذلك الإجراء، الذي ساعد على إرجاع الشركات المتعثرة ماليًا، وبالتبعية، الاقتصاد التركي إلى المسار الصحيح بعد وقت قصير إلى ثغرة استغلها المدينون بسوء نية لتأجيل سداد القروض لمدة تصل لسبع سنوات. 

في عام 2014، ومع تأثر الاقتصاد التركي سلبًا بفضل حكم أردوغان المتسلط، استغلت 720 شركة أحكام الإفلاس المعلّقة للضغط على المقرضين لمنح شروط أكثر ملاءمة، وقد ردّ المقرضون بدورهم برفع 12.339 قضية. لقد تقدّم ما يزيد على 1000 شركة بطلب لتعليق إعلان الإفلاس في عام 2015؛ ما دفع أردوغان لتجميد تلك الثغرة، مستخدمًا سلطات قانون الطوارئ الذي فُرض بعد وقت قصير من الانقلاب الفاشل. منذ ذلك الوقت، ألغى الرئيس التركي تلك الممارسة، مشجعًا المدينين بدلاً من ذلك على إجراء اتفاق تسوية مع دائنيهم يسرّع من عملية دفع الديون. وبعد أن أصبحت الشركات غير قادرة على التهديد بعدم دفع الديون لمدة سبع سنوات عبر اللجوء للمحاكم، بدأت تلك الشركات في عقد مفاوضات سرية للتوصل إلى شروط سداد أقصر، وبمعدلات فائدة أكثر ملاءمة للمقرضين. لقد وصل عدد الشركات التركية التي طلبت عقد اتفاق تسوية مع دائنيها في عام 2018 إلى ثلاثة آلاف شركة، ومن المتوقع أن يصل الرقم إلى سبعة آلاف بنهاية العام. 

وبالإضافة إلى منع حدوث موجة من إعلانات الإفلاس في مرحلة ما بعد حالة الطوارئ، كان ذلك الإجراء يهدف أيضًا لمنع موجة من حالات التخلف عن سداد الديون من جانب الشركات التركية التي تعاني من الانخفاض الكبير في قيمة الليرة. وتأمل الحكومة التركية في منع حدوث هذه الموجة عبر قانون جديد يسمح للشركات باستبعاد الخسائر بالعملات الأجنبية من حسابات التخلف عن السداد. من المرجّح أن يؤدي هذا لخلق "اقتصاد الزومبي" الذي يعجّ بشركات لم تتخلف من الناحية الفنية عن سداد مدفوعات فائدة لا يمكن تحملها، لكنها في الوقت ذاته ليس لديها ما يكفي من المال لمواصلة عملياتها.

إن تدابير أردوغان المؤقتة تهدد أيضًا بتفاقم قضايا شفافية الشركات، وذلك في وقت تحتاج فيه تركيا بشدة إلى تعزيز ثقة المستثمرين. بإمكان الدائنين النظر إلى حالة شركة "تورك تيليكوم"، وهي أكبر مزوّد للاتصالات وخدمات التكنولوجيا في تركيا، بوصفها حكاية تحذيرية بشأن مخاطر المحاسبة الإبداعية. لقد كانت شركة "تورك تيليكوم"، التي خضعت للخصخصة عام 2005 وعرضت أسهمها للاكتتاب العام لأول مرة في عام 2008، من أكثر الشركات ربحية في تركيا. مع ذلك، في سبتمبر 2017، وعقب سنوات من مزاعم الفساد وسوء الإدارة، كانت الشركة عاجزة عن سداد أول دفعة قدرها 290 مليون دولار من قرض تبلغ قيمته الإجمالية 4.75 مليار دولار، كان قد موّل شراء مستثمرين خليجيين حصة أغلبية في الشركة. 

لقد مثلت تلك الأخبار إحراجًا لحزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان، والذي لعب دورًا مهمًا في الخصخصة. وبعد أن تخلفت "تورك تيليكوم" عن سداد الدفعة الثالثة، تدخلت هيئة الرقابة المصرفية وطلبت من البنوك عدم إعادة تصنيف الدين بوصفه دينًا متعثر السداد؛ ما يستوجب البدء في إجراءات الإفلاس. التزم المقرضون وصنفوا الدين بوصفه "مراقبًا عن كثب". وعندما فشلت محاولة الحكومة التركية لبيع الشركة، وافق الدائنون على الاستحواذ على 55 بالمائة من أسهم الشركة تبلغ قيمتها مليار دولار، بينما حصل المالكون الأصليون على عوائد تبلغ أكثر من 6 مليارات دولار جمعوها أثناء ملكيتهم للشركة والتي دامت عشر سنوات. 

إن قضية شركة "تورك تيليكوم" هي نموذج على اتجاه مقلق آخر في الاقتصاد التركي، وهو إعادة تصنيف القروض المتعثرة السداد على كشوف الميزانية العمومية للبنوك. في شهر مايو، توقعت وكالة "موديز" أن تبلغ قيمة القروض المتعثرة السداد 4 بالمائة من القروض الإجمالية بنهاية العام. ونظرًا إلى زيادة انخفاض قيمة الليرة، واتخاذ إجراءات جديدة تخص المحاسبة الإبداعية، فإنه من المرجح أن يكون هذا الرقم أعلى وسيشهد زيادة أيضًا. لكن هذه ليست المشكلة الوحيدة، إذ إن القواعد التنظيمية الحكومية الجديدة بشأن طريقة تصنيف القروض المتعثرة السداد ستؤدي لزيادة الوضع سوءًا. 

في شهر أغسطس، اقترح مقرضون أتراك إجراءًا جديدًا، يهدف لتسريع عملية إعادة الهيكلة عقب التخلف عن سداد الدين، وحذف القروض المتعثرة الدفع من سجلات البنوك الحسابية. وفقًا للإجراء الجديد، فإن 75 بالمائة فقط من دائني شركة ما يجب أن يوافقوا على إعادة الهيكلة، وهذا يشمل تغييرات في هيكل رأس المال، وعمليات ضخ الأموال، ومبيعات الأصول. أما بالنسبة للمقرضين الذين يرفضون إعادة الهيكلة، ويفضلون اتباع عملية ذات طابع أكثر رسمية، مثل المقرضين الدوليين، فسوف يواجهون مصيرًا سيئًا. وقد وافقت الحكومة بالفعل على هذا الإجراء. 

في الوقت ذاته، يتلقى المقرضون نداءات من الحكومة باتباع نهج متساهل مع مدينيهم، ما يؤدي إلى إجراءات غير رسمية وغير طوعية لترحيل الديون وفرض معدلات فائدة أقل. لكن الديون المتعثرة السداد تواصل تراكمها. لقد أسفر ازدهار سوق العقارات، الناتج عن القروض الرخيصة والأنفاق الحكومي الهائل، عما يسميه خبراء الاقتصاد بـ "الخطيئة الأولى" في الأسواق الناشئة. فالمطوّرون العقاريون الذين اقترضوا بالدولار الأمريكي لكنهم يكسبون دخلهم بالليرة التركية، لم يعودوا قادرين على تسديد مدفوعات الفوائد عقب خسارة العملة لأربعين بالمائة من قيمتها. في قطاع الإنشاءات وحده، 90 بالمائة من القروض هي بالعملة الأجنبية. 

تظهر وثائق مسرّبة أن الحكومة تفكر الآن في إنشاء "بنك سيء" ينقل إليه المقرضون الأتراك قروضهم المتعثرة السداد. مع ذلك، وكما يقول أحد التجار، "ما من سبيل لتفادي حدوث تراجع عام في الجدارة الائتمانية لتركيا، بغض النظر عن المكان الذي ستُنقل إليه القروض المتعثرة السداد". لو مضت الحكومة قدمًا في خططها، فإنها بذلك تثير السؤال التالي: ما الذي يعرّف قرضًا ما بوصفه قرضًا متعثر السداد، وأي القروض المتعثرة السداد ينبغي نقلها إلى هذا "البنك السيء"؟

للأسف، فإن هذه الإجراءات المتناقضة هي مؤشر على توسّع نطاق المحاسبة الإبداعية، والتي تهدف للتغطية على المشاكل الهيكلية في الاقتصاد التركي. وكما يتبيّن من حالتي اليونان والبرازيل، فإن هذه المشاكل العويصة لا تنتهي بطريقة جيدة- تستطيع تأجيل أزمة عبر خلق "اقتصاد الزومبي" الذي يتمتع بسيولة مالية فقط على الورق، لكن عاجلاً أو أجلاً سيدرك المستثمرون الدوليون الفرق بين ما هو حي وما هو ميت. 

بمجرد انهيار خطط المحاسبة الإبداعية التي يتبعها أردوغان، فإن العدوى الناتجة عن الانهيار الاقتصادي التركي ستكون لها تبعات خطيرة، ليس على أنقرة فقط، ولكن على مقرضيها على ضفتي الأطلنطي. لقد حذر البنك المركزي الأوربي بالفعل من انكشاف بنوك الاتحاد الأوربي على تركيا، فيما حذرت ميركل من أن بقاء تركيا ضعيفة لن يكون في مصلحة ألمانيا، ما عرّضها لانتقادات في الداخل بأنها متساهلة مع أردوغان. 

أما في الضفة الأخرى للأطلنطي، وردًا على "دبلوماسية الرهائن" التي تتبعها تركيا، واستمرار اعتقالها للقس الأمريكي "أندرو برونسون بتهم مشكوك فيها، فقد اختار الرئيس الأمريكي مضاعفة ضغوطه على نظيره التركي، الذي اتهم واشنطن بشنّ "حرب اقتصادية". يستطيع أردوغان الآن أن يتخلى عن سياساته الاقتصادية غير التقليدية وأساليب المحاسبة الإبداعية، وفي الوقت ذاته يضع علاقات بلاده مع حلفائها على المسار الصحيح. لكن، لو كان سجله الأخير يدل على شيء، فإنه يدل على أن رجل تركيا القوي من المرجّح أن يسقط بطريقة صاخبة، مطيحًا ليس فقط باتباعه، ولكن بالعديد من المستثمرين والمقرضين الغربيين.