قرارات بريكست..

أوروبا.. هل تدخل نفق انسداد الشريان الاقتصادي الألماني

برلين تضغط من أجل تغيير الاتجاه في سياسات البنك المركزي الأوروبي

برلين

أدخلت العديد من الأزمات المتراكمة في السنوات الأخيرة وعلى رأسها قضية بريكست في بريطانيا والحرب التجارية المحمومة بين الصين والولايات المتحدة علاوة على السياسة الحمائية التي يقودها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الاتحاد الأوروبي في ركود اقتصادي لم تجد له الدول المنضوية تحت لوائه إلى اليوم خطة واضحة للإنقاذ.

وظل الاتحاد الأوروبي، يتشبث بحبل نجاة الاقتصاد الألماني كونه صاحب قدرة تنافسية ومتنوعا ويعد من أعتى اقتصادات العالم المبتكرة والقادرة على التأقلم مع الأزمات والهزات الاقتصادية والتجارية.

مأزق ألمانيا

يرى العديد من الخبراء الاقتصاديين أن معضلة الاتحاد الأوروبي، تكمن الآن في أن الاقتصاد الألماني دخل بدوره منذ أشهر في نفق الركود جراء الرسوم الجمركية الأميركية التي تحاصره والمفروضة من قبل إدارة دونالد ترامب على عدة بضائع موجهة للصادرات.

ويتساءل المراقبون عن البرامج التي يعكف الاتحاد الأوروبي على إعدادها للخروج من هذه الأزمة، خاصة أن الاتحاد أظهر تخوفه من هذه الأزمة الاقتصادية التجارية بإصداره قرارا في شهر يوليو الماضي تم بمقتضاه تعيين مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد كمديرة للبنك المركزي الأوروبي خلفا للإيطالي ماريو دارغي.

واعتبر الكثير من المتابعين أن هذه الخطوة الأخيرة تدخل في خانة تخوفات الاتحاد الأوروبي من أن تزيد ضغوط الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تختار نهج الانغلاق وعدم التفاعل مع اقتصادات العالم خاصة بعدما أصبحت إيطاليا رهينة حكومات شعبوية معادية للاتحاد الأوروبي.

وتناول موقع “ستراتفور” الأميركي هذه الأزمة الأوروبية الحادة في تقرير قال فيه إن أكبر اقتصاد في أوروبا يواجه أول ركود له منذ عقد من الزمن. وتشير البيانات الحديثة إلى أن الاقتصاد الألماني سيتراجع مرة أخرى في الربع الثالث من عام 2019، بعد أن تراجع بنسبة 0.1 بالمئة في الربع الثاني من نفس العام .

ووفقا لمعهد “آي.أف.أو” بميونيخ، فقد وصلت معاملات قطاع الأعمال في البلاد إلى أدنى مستوى لها منذ سبع سنوات تقريبا في أغسطس. وبالمثل، وجد “آي.إتش.أس ماركت” أن المعنويات بين قطاعي الصناعة والخدمات في ألمانيا، على وجه الخصوص، انخفضت إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2013.

ويرى الخبراء أن ركود الاقتصاد الألماني ستكون له تداعيات كبرى على الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر حيث أن الاقتصاد الألماني يعتمد على التصدير إلى الأسواق الكبرى، ويؤكدون أن وجود مؤشرات خطرة على تدهور النشاط الصناعي قد لا يزيد في خنق ألمانيا فحسب بل أيضا دول الاتحاد الأوروبي برمتها.

وتراجع الاقتصاد الألماني نتيجة عدة عوامل منها حالة عدم اليقين المتزايدة التي تغذيها الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. ويشير التقرير الأميركي إلى أنه من المحتمل أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في أكتوبر إلى التأثير بشكل سلبي على الاقتصاد الألماني الذي يعتمد على التصدير.

وتتصارع برلين مع النشاط الاقتصادي الراكد في أوروبا، علاوة على مكابدتها للتكيف مع صناعة السيارات المتعثرة مع طلبات المستهلكين المتغيرة للحصول على المزيد من التقنيات الكهربائية والقيادة الذاتية. وعلى الرغم من أن الحكومة الألمانية لديها الاحتياطات اللازمة للصراع وتفادي التراجع الاقتصادي، إلا أنها تفتقر إلى الوحدة السياسية لتحفيز هذا النمو، إلى جانب انتشار حالة من عدم اليقين على المستوى الدولي، سيحد من قدرة البلاد على التعافي السريع.

رهانات صعبة

تجد ألمانيا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي نفسيهما أمام رهانات، ستبدأ باحتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون صفقة في شهر أكتوبر. وستتأثر أوروبا بخروج بريطانيا، كون الاقتصاد البريطاني يعد خامس أكبر وجهة للتصدير في ألمانيا وثالث أكبر وجهة لصادرات السيارات الألمانية.

وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك مجال لإتمام البريكست بشكل منظم، فقد زادت فرص الخروج دون عقد صفقة في الأشهر الأخيرة، مما يعني أن الصادرات الألمانية إلى بريطانيا قد تبدأ قريبا في فرض رسوم جمركية أعلى.

وقد تضرر الاقتصاد الألماني من الضجة التي تثيرها قضية بريكست في الأعوام الأخيرة، حيث أدى ضعف الجنيه الإسترليني إلى انخفاض الشحنات الألمانية إلى بريطانيا بنسبة تقارب 21 بالمئة في الربع الثاني من عام 2019.

وتحاصر ألمانيا كبقية مكونات الاتحاد الأوروبي، بتهديدات الإدارة الأميركية الساعية لفرض رسوم جمركية مرتفعة على صناعة السيارات في الاتحاد الأوروبي في شهر نوفمبر المقبل.

ويؤكد تقرير “ستراتفور” أن الخطوة الأميركية ستزيد في الإضرار بصناعة السيارات الألمانية المضطربة. وأنه لا يمكن الحد من هذا التهديد بشكل كبير، إلا إذا أحرز الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تقدما في مفاوضاتهما الحالية.

ولم يتفق الجانبان الأوروبي والأميركي حتى على المنتجات التي ينبغي أن تغطيها الصفقة. وقد تراجعت بروكسل عن مطالب واشنطن بتضمين شحنات زراعية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى ضغوط فرنسا وأيرلندا والتي تخشى فتح أسواقها أمام المنتجات الغذائية الزراعية الأميركية. ومن المرجح أن يستمر الاتحاد الأوروبي في التمسك بموقفه، بالنظر إلى تعيين فيل هوغان، وهو مواطن أيرلندي حمائي، كمفوض تجاري جديد للاتحاد.

وسيؤدي تراجع الاقتصاد الألماني إلى تداعيات خارج حدود البلاد، حيث سيبدأ الشركاء في الشعور بثقل النمو الاقتصادي في برلين، إذا ما أدى إلى انخفاض الطلب الإجمالي على السلع الأجنبية، وخاصة إيطاليا وفرنسا والنمسا وبولندا.

ويأتي كل هذا في وقت تواجه فيه معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تباطؤا اقتصاديا، وذلك بسبب مزيج من القضايا المحلية وعدم اليقين العام حول مستقبل الاقتصاد العالمي.

ومن المرجح أن تستخدم دول جنوب أوروبا تباطؤ الاقتصاد الأوروبي بشكل عام، الذي تفاقم بسبب الوضع الاقتصادي المتدهور في ألمانيا، كمبرر لمطالبة الاتحاد الأوروبي بالمزيد من المرونة في تنفيذ أهداف العجز والديون للاتحاد ككل. وسيكون هذا أحد أكثر التحديات إلحاحا بالنسبة للمفوضية الأوروبية الجديدة، التي ستتولى مهامها في نوفمبر.

الاتحاد الأوروبي أمام رهانات الخروج من معضلات ركود الاقتصاد الألماني وتداعيات قضية بريكست في بريطانيا والحرب التجارية الأميركية الصينية

وسيتعين على رئيس المفوضية الجديد، أورسولا فون دير لين، وفريقها أن يقررا بين التقيد القوي بالسياسات المالية الحالية للاتحاد الأوروبي، والتي يمكن أن تنفر بعض الحكومات مثل إيطاليا، أو قبول بعض المرونة، والتي يمكن أن تضعف أيضا مصداقيتها منذ البداية.

وبالنظر إلى القيود السياسية التي تواجهها ألمانيا في الداخل والشكوك المتزايدة التي تواجهها في الخارج، فمن المرجح أن يستمر أكبر اقتصاد في أوروبا في التراجع في الأشهر المقبلة.

وأجبر تباطؤ النمو الاقتصادي في منطقة اليورو البنك المركزي الأوروبي على اتخاذ بعض التدابير التحفيزية في 12 سبتمبر، بما في ذلك ترك سعر الفائدة المرجعي عند صفر بالمئة وأخذ سعر الفائدة على الودائع (وهي الرسوم المفروضة على ودائع البنوك التجارية لدى البنك المركزي الأوروبي) إلى أدنى مستوى له على الإطلاق عند 0.5 بالمئة.

وتؤثر معدلات الفائدة المنخفضة هذه بشكل متباين على ألمانيا. فمن ناحية، تبقي هذه الإجراءات تكاليف الاقتراض في البلاد منخفضة، مما يسمح لبرلين بالحصول على قروض جديدة دون تهديد استقرارها المالي. لكن معدلات الفائدة المنخفضة تخاطر أيضا بتقليل قيمة مدخرات ودائع الألمان، بينما تؤدي إلى تفاقم مشكلات الربحية التي تواجهها بالفعل العديد من البنوك الألمانية.

وتضغط برلين من أجل تغيير الاتجاه في سياسات البنك المركزي الأوروبي وقد يزداد هذا الضغط ارتفاعا إذا كان مدفوعا بالضغط الانتخابي في الداخل.

ورغم القيود السياسية التي تواجهها ألمانيا في الداخل، فإن المراقبين يعتقدون أن هناك فرصة كبيرة لأن يستمر اقتصاد البلاد في التراجع، مما يزيد من المشاكل السياسية في كل من برلين وبروكسل، وهو ما يضيف رصيد المشاكل الاقتصادية القائمة بالفعل في أوروبا.