مواجهة الانفصالية الإسلاموية..

تقرير: الإخوان المسلمين.. بين تشتيت المجتمعات الغربية والاضطهاد

تقوقع يخدم التموقع

باريس

تستعد فرنسا لتشديد ترسانة قوانينها من أجل مواجهة النزعات الانفصالية الإسلاموية وتحجيم أنشطة جماعات الإسلام السياسي على أراضيها التي باتت تهدد قيم الانفتاح والتسامح أهم المبادئ التي بنيت عليها الجمهورية الخامسة. وشهدت فرنسا خلال العشرية الأخيرة تمددا لافتا للمجتمعات الدينية الموازية ما يهدد التماسك المجتمعي ويؤصل للتطرف والانعزالية التي ترجمت في الكثير من الأحيان في الهجمات الإرهابية التي شهدتها البلاد.

أظهر استطلاع جديد للرأي في فرنسا أن غالبية ساحقة من الفرنسيين المسلمين الشباب يضعون الإسلام فوق قوانين الجمهورية الفرنسية، وذلك في وقت تتهيأ فيه الحكومة الفرنسية لطرح قانون يناهض النزعات الانفصالية الإسلاموية في البلاد.

ونشر “المعهد الفرنسي للرأي العام” سبتمبر الجاري استطلاعا للرأي بعنوان “الحق في التجديف، حرية التعبير”، طلبه مركز “جان جوريس”، أظهر أن 74 في المئة من الفرنسيين المسلمين ممن تقل أعمارهم عن 25 عاما يضعون قناعاتهم الدينية الإسلامية فوق قوانين الجمهورية فيما انخفضت تلك النسبة إلى 25 في المئة لدى من تزيد أعمارهم عن 35 عاما.

وردا على سؤال “هل تضعون قناعاتكم الدينية فوق قيم الجمهورية؟”، اعتبر 61 في المئة من الفرنسيين المسلمين المشاركين في الاستطلاع أن “الإسلام هو الدين الحقيقي الوحيد” وذلك في زيادة بنسبة 6 في المئة مقارنة باستطلاع سابق أجري في عام 2016.

وترتفع هذه النسبة إلى 65 في المئة بين من هم تحت سن 25 عاما، وإلى 73 في المئة لدى من تتراوح أعمارهم بين 25 و34 عاما، لتعود وتنخفض إلى 53 في المئة في أوساط من هم أكبر من 35 عاما.

بالإضافة إلى ذلك، يعتقد 45 في المئة من الفرنسيين المسلمين الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما أن “الإسلام لا يتوافق مع قيم المجتمع الفرنسي”، بينما يؤيد هذا الرأي 24 في المئة فقط ممن تزيد أعمارهم عن 35 عاما.

إلى ذلك، أظهر استطلاع آخر أجراه المعهد لصالح مجلة “لوبوان” الفرنسية في 23 سبتمبر 2019 بعنوان “المسلمون في فرنسا بعد 30 عاما على قضية الحجاب في مدينة كروي”، أن التردد إلى المساجد في الجمعة بالنسبة للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما قد تضاعف تقريبا في غضون عشر سنوات، حيث ارتفع من 23 في المئة في عام 2011 إلى 40 في المئة في عام 2019.

وبناء على ذلك يتساءل مراقبون عن الدوافع التي تجعل شابا مسلما فرنسي المولد، يفترض أنه نهل خلال تعليمه وتشبع بقيم المجتمع الذي يعيش فيه، يتمرد على منظومة القوانين والقيم التي تحكمه وينجذب نحو تصورات رديفة تماما.

ويعزو هؤلاء ذلك إلى سببين رئيسيين وهما ضعف منظومة الاندماج الفرنسية وقصورها في تحصين المجتمع ضد هذه “الآفات” وقوة التأثير الخارجي التي تقوده جماعات الإسلام السياسي النشطة على الأراضي الفرنسية.

وفيما تتوقع مراكز دراسات أن يصل عدد المسلمين في فرنسا إلى 13.2 مليون شخص بحلول عام 2025، تدرس فرنسا إدخال تعديلات على ترسانتها القانونية لتحجيم نشاط جماعات الإسلام السياسي ودعاة الانعزالية التي تؤسس للطائفية الإسلاموية.

جماعات الإسلام السياسي

ترسم فرنسا طريقا أكثر تشددا حيال أنشطة جماعات الإسلام السياسي على أراضيها بعد أن انكشفت مناوراتهم الفكرية والأيديولوجية وقدرتهم الدعوية الهائلة في التأثير على الشباب الفرنسي المسلم واستقطابهم بما يتنافى مع قوانينها وقيمها العلمانية، ما يضع تماسكها المجتمعي وأمنها أمام تحديات خطرة.

وتستعد الحكومة الفرنسية لتقديم مشروع قانون، يهدف لمناهضة ما سمته “النزعات الانفصالية”، ويستهدف أساسا جماعات الإسلام السياسي.

وقالت مارلين شيابا، الوزيرة المنتدبة المكلفة بالمواطنة لدى وزارة الداخلية في تصريحات صحافية، إن القانون قيد الإعداد، وسيعرض على مجلس الوزراء بحلول الخريف، لبدء المناقشات البرلمانية حوله في بداية العام 2021.

وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد أعلن في فبراير الماضي عن سلسلة من التدابير لمحاربة كل أشكال “التطرف الإسلامي”، مستخدما تعبيرا مثيرا للجدل وهو “الإسلام الانفصالي”، مما خلف ردود فعل واسعة.

وشملت الإجراءات التي أعلنها ماكرون ركائز أربع، تتضمن متابعة التمويل الذي تحصل عليه المؤسسات الدينية بصفة عامة، والمساجد بصفة خاصة، وأقرّ منع استقدام الأئمة من دول أجنبية؛ كي يتمّ تحرير خطابهم الديني من أي أهداف سياسية وأيديولوجية، وكذلك الترويج لسياسات الحكومات التي تقدّم لهم الدعم المالي، لاسيما تركيا، كما سيجري تدريب الخطباء والأئمة في فرنسا وتحت إشراف الحكومة عوضا عن تدريبهم بالخارج.

ومنذ سنوات، تبحث الحكومات الفرنسية المُتعاقبة عن آليات لتأهيل مُتخصصين في الإسلام المُعتدل في فرنسا، مع ضمان تلبيتهم لمُتطلبات الاندماج في المُجتمع الفرنسي، مثل إتقان اللغة الفرنسية، والحرص على التنوع الثقافي، واحترام تراث وتاريخ وقانون البلاد، والحفاظ على مبادئ وقيم الجمهورية والعلمانية.

وفي هذا السياق أصبحت فرنسا، الدولة الأولى في أوروبا من حيث عدد المسلمين على أراضيها، ترفض توظيف الأئمة الأتراك في مساجدها فضلا عن إغلاق بعض المساجد المُتهمة بنشر الفكر المُتطرف، من أصل ما يزيد عن 2200 مسجد منتشرا في فرنسا، يُمارس فيها المسلمون حريتهم الدينية بشكل كامل.

وتعهد الرئيس الفرنسي بوضع حد لما سماه “التدخل التركي” في شؤون فرنسا و”الانفصالية الإسلامية”، مشددا على أنه “لا يمكن تطبيق القوانين التركية على أراضي فرنسا”.

وفي كلمة ألقاها يوم 18 فبراير الماضي في مدينة ملوز شمال شرق فرنسا المعروفة بالحضور القوي للجالية التركية، قال ماكرون “عدونا هو الانفصالية… الانفصالية الإسلامية تتعارض مع قيم الحرية والمساواة وسلامة الجمهورية ووحدة الأمة”.

وأضاف “على تركيا أن تدرك أن باريس لا تقبل أن يقوم أي بلد بدعم متشددين لهم توجهات انفصالية في الجمهورية الفرنسية”.

وشدد على أن التخلي عن نظام الأئمة الأجانب “مهم للغاية للحد من هذه التأثيرات الأجنبية وضمان أن يحترم كل شخص قوانين الجمهورية احتراما كاملا”، مشيرا إلى أن “وضع خطة ضد الإسلام سيكون خطأ كبيرا”.

ويُبدي الاتحاد الأوروبي قلقا بشأن دعم أنقرة للكيانات الدينية المتطرفة في عدد كبير من دوله، وذلك من خلال توفير الدعم المالي والمنصّات الإعلامية، حيث يتزايد رفض توظيف الأئمة الأتراك، نتيجة تصاعد البيانات الموثقة حيال دورهم السياسي.

ويُعدّ هؤلاء الأئمة واجهة خفية لتشكيل الحياة الدينية للأتراك المُقيمين في 11 دولة أوروبية، خاصة في فرنسا وألمانيا والنمسا وهولندا، لخدمة أهداف سياسية ذات صلة بحزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم في تركيا.

ويقترن الرفض الفرنسي للأئمة الأتراك بتوجهات دول أوروبية تتصاعد شكوكها حيال دور سياسي مشبوه للأئمة الأتراك.

وتجلت مخاوف أوروبا في فبراير 2015 عندما وافق برلمان النمسا على مشروع قانون ينص على إخلاء البلاد من الأئمة الأتراك العاملين في مساجد تابعة لفرع الاتحاد الإسلامي التركي “ديتيب” بالنمسا، والامتناع عن استقبال أئمة جدد من تركيا.

ويبدو أن تطورات الأزمات المتصاعدة بين باريس وأنقرة سوف يكون لها وقع في مسار سن “قانون الانفصاليين” كما تم تعريفه رسميا وهو حسب الحكومة الفرنسية قانون يهدف إلى إعادة بسط سلطة الدولة في المناطق الفرنسية من مدن وضواحي المدن التي تتحكم فيها جمعيات وتنظيمات إسلامية ترفض الخضوع لقوانين ومبادئ الجمهورية وتروج لفكرة تطبيق الشريعة الإسلامية على المواطنين الفرنسيين المسلمين، خارج نطاق القانون الفرنسي، وفرض علوية الشريعة على القوانين الجمهورية اللائكية.

المجتمعات الموازية

يعتبر محللون أن مكافحة النزعة الانفصالية أو ما يطلق عليه “الطائفية الإسلاموية” لا يمكن حصرها في المقاربات الأمنية بل هي تحد حضاري، يهدف إلى “تغليب الحرية والعقل والأدب وفن العيش كي لا نفصل بين ما راكمته الديمقراطية الفرنسية”.

ويؤكد هؤلاء أن “المسألة باتت مسألة شبكة متكاملة من المساجد وقاعات الرياضة والجمعيات التي تغطي أحياء بأكملها في كل أرجاء فرنسا وباتت تشكل مجتمعا مضادا يفصل ما بين الحلال والحرام”.

وتقول عضو مجلس الشيوخ الفرنسي، جاكلين أوستاش برينيو “يجب التحرك سريعا، لأنّ كلّ مناطق فرنسا صارت متأثرة اليوم، باستثناء غرب البلاد، بأفكار الإسلام السياسي المتطرفة، وإلا ففي غضون أعوام قليلة، قد تخرج بعض هذه المناطق والأحياء في نزعات انفصالية عن الجمهورية”.

وكشفت دراسة لدار الإفتاء المصرية حول المجتمع الموازي في الغرب أن تنظيم الإخوان المسلمين تمكن من الانتشار والتوسع في المجتمعات الغربية، عبر الكيانات الموازية التي تسعى لتكون بديلا للدولة والمجتمع، بهدف الاستحواذ على القوة والضغط على صانع القرار لتلبية طلبات الجماعة.

وأوضحت الدراسة أنه بعد خروج عناصر جماعة الإخوان في الستينات إلى الدول الأوروبية عملت الجماعة على تطبيق فكرة إقامة المجتمعات الموازية في هذه الدول، بالسيطرة على الطلاب المسلمين، ودور العبادة، ونشر المجلات التي تحمل أفكار الجماعة.

واستطاعت الجماعة أن تخلق قدرا من التفاعل بين الجماعات الأخرى المتشابهة معها فكريّا في أوروبا عبر إقامة شبكة دولية غير رسمية ومعقدة للغاية، تترابط في ما بينها عبر شبكات مالية وأيديولوجية، وهو الأمر الذي تزامن مع قيامها بعدم اعتماد صيغة عضوية الفرد في جماعة الإخوان بالخارج، وأنها لا تأتي عبر كيان خاص بل تكون عن طريق الإيمان بالأفكار والأساليب والمنهج الخاص بها.

وحسب كتاب “المشروع: استراتيجية الإخوان للغزو والتسلل في فرنسا والعالم”، فإن جماعة الإخوان تدرك جيدا أن المسلمين لا يتعرضون إلى الاضطهاد في الديمقراطيات الغربية، إلا أن استراتيجية الجماعة تتمثل في “زرع التشتت داخل المجتمعات الإسلامية في الغرب، عن طريق تأكيد شعور الاضطهاد ما يؤدي بهذه الأقلية إلى التقوقع أو الانفصال عن المجتمع”، ما يدفعها إلى التعصُّب والعمل تدريجيا نحو محاولة أسلمة المجتمع من خلال التبشير بقيم متشددة، على حساب قيم التسامح والانفتاح.

ووفق دراسة أعدها المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، نجحت الجماعة بنسب متفاوتة في تفريغ بعض المجتمعات من هويتها، حيث أسهمت في جعل الإسلام بديلا حضاريا عبر المؤسسات والجمعيات التي أصبحت موضع انطلاق وانتشار لها، وذلك بعد مرور الجماعة بمرحلة البناء والتهيئة الداخلية، وإحكام قبضتها على المساجد والمراكز الإسلامية، وأخيرا التواصل مع الجماعات الإسلامية الأخرى.

ويشير الباحث ميشيل أوبوان في مقالة بعنوان ”الإسلام السياسي وغزو الأحياء” في 9 نوفمبر 2019 إلى أن أحياء تتجاوز الألف في فرنسا تعرضت للانعزال الجغرافي والثقافي، وهو الوضع الذي استغلته الأيديولوجيا الإسلاموية الحركية، فكانت النتيجة أنّ هذه الأيديولوجيا أفرزت اليوم نخبة محلية تمثل الجالية المسلمة لدى السلطات الإدارية والسياسية وتتعامل بذكاء مع قواعد اللعبة السياسية، وزاد الوضع تعقيدا.

ويرى أكاديميون أنه بات من الضروري إيجاد كيان بديل يمثل الجاليات المسلمة في دول الغرب، يمثل العقيدة الدينية المعتدلة التي يتبناها معظم المسلمين، وليست لديه أي أطماع أو طموحات حزبية أو سياسية، يستطيع صناع القرار الأوروبيون التعاون معه في خدمة الجاليات المسلمة في هذه الدول.

ويشير هؤلاء إلى أنه مع ارتفاع أعداد المسلمين في أوروبا، بات من الضروري أيضا إنشاء كيان أوروبي خاص يعمل على تأهيل الأئمة واتخاذ إجراءات أكثر صرامة لوقف الدعم الخارجي لجماعات الإسلام السياسي النشطة على الأراضي الأوروبية، مع دمج المسلمين الفرنسيّين في فرنسا.