أوصل بناته الخمس وولديه إلى التعليم الجامعي..

أبٌّ ومُعَلِّمٌ مثاليٌ يستحق التكريم

خلال التكريم

علي صالح الخلاقي (عدن)

تخيَّل أنك تسكن منطقة نائية في قرية تنام وتصحو هادئة بين ذوات الشَّنَاخِيب الصُّمِّ، من الجبال العالية، التي لم تصل إليها طُرُق السيارات المعبدة بعد، لصعوبة تضاريسها الجبلية من جهة ولعدم التفات الدولة لها واهمالها المتعمد، كما هو حال كثير من مناطق يافع الجبلية التي ما زالت تعتمد على الطرق غير المعبدة التي يشقها المواطنون بجهودهم الذاتية.
وتخيل أن لديك خمس بنات تريد أن تحقق رغبتك ورغبتهن في إكمال تعليمهن الجامعي ، وأن عليك في هذه الحالة إمَّا أن تذهب بهن إلى محافظة عدن أو إلى كلية التربية يافع الواقعة في محافظة أخرى عن موقع سكنك، وفي كلا الحالتين عليك السفر والتفرغ للاقامة برفقتهن، وتحتاج أيضاً إلى استئجار سكن ونفقات إضافية كبيرة، فضلاً عن النفقات الاعتيادية لأفراد أسرتك المستقرين في بيتك، وهذا بحد ذاته يشكل عبئاً كبيراً على ميزانيتك الأسرية ويثقل كاهلك، خاصة أن كنت من ذوي الدخل المحدود، وتعتمد على راتبك فقط كمعلم في مدرسة للتعليم الأساسي..فهل ستتحمَّس لمثل هذا الأمر؟؟!!
لنعترف في البدء أن قليلين جداً من الناس، بما في ذلك الميسورين، ممن يفكرون أو يهتمون بتعليم جميع أبنائهم، ناهيك عن بناتهم، والأخذ بيدهم وتشجيعهم ومساعدتهم على استكمال تعليمهم الجامعي، دون تفريق بين ذكر وأنثى، خاصة في المناطق البعيدة عن المدن، مثل منطقة يافع الجبلية حيث تتصعب هذه المهمة على الفتيات بشكل خاص، نظرا لبُعد موقع كلية التربية عن مناطق سكن الكثيرات منهن، وكذا افتقار الكلية إلى قسم داخلي خاص بالفتيات، وهو ما يجعل الدراسة متاحة فقط للفتيات القريبات من موقع الكلية أو اللاتي بمقدورهن الوصول إليها بواسطة التنقل بالسيارات أو الباصات ذهابا وإياباً يوميا في الطرق المُعبدة..أما في المناطق البعيدة فيتصعب هذا الأمر..
لكن الأبَّ والمُعَلِّم النموذجي الأستاذ محمد أحمد محمد ثابت السعدي (أبو أياد) فعلها وتغلب على هذه المشكلة، في حالة نادرة لم نجد لها مثيلاً في عموم يافع، ونجح في إيصال بناته الخمس إلى مقاعد التعليم الجامعي الواحدة بعد الأخرى في سنوات متفاوته تبعاً لأعمارهن، ناهيك عن تعليم ولديه أياد ونصر..فكيف تم له ذلك؟..وما هي حكاية إصراره وحماسته لتعليم أبنائه وبناته على السواء؟؟
يجب أن نعرف في البدء أن بطل قصتنا مدرسٌ ارتبط بمهنة التعليم السامية والنبيلة، التي أخذت من عمره أكثر من ثلاثين عاماً زاخرة بالعطاء والمثابرة، منذ التحاقه بسلك التدريس عام 1985م، في مدرسة "الشعب" بمنطقة السعدي، القريبة من مسقط رأسه قرية "أريمه" بمديرية رُصد- محافظة أبين، وذلك بعد تخرجه من الثانوية العامة وأداء الخدمة العسكرية لمدة عامين ونصف ضمن أفراد الدفعة (13)، وما زال يؤدي رسالته حتى اليوم كشمعة مضيئة تحترق لتنير العتمة للأجيال التي ترتشف من نَمِيْر معارفه، وهو من المعلمين النموذجيين وحاز على العديد من الشهادات التقديرية في مناسبات مختلفة من إدارة المدرسة ومن مكتب التربية والتعليم في مديرية رُصد-يافع، ومدير عام المديرية، ومن كلية التربية يافع ومؤسسة أحمد بن عبد الحكيم السعدي(رحمه الله).
لا شك أن ارتباطة بالعلم والتعليم، كمُعَلِّمٍ قدير، قد جعله يدرك قيمة وأهمية وضرورة تعليم أولاده، فلم يلهث ليجمع لهم مالاً ولا زينةً من حطام الدنيا، لكنه أنفق بسخاء – حسب قدراته- على تعليمهم ولم يبخل في توفير أسباب النجاح لهم، إذ جَدَّ واجتهد وقرر التضحية بوقته وماله وراحته وتغلب على كل المعوقات والصعاب ليحقق حلمه في تعليم أبنائه وبناته مُذَللا كل الصعاب ومتحملا القسط الأكبر من الأعباء التي تهون أمام الهدف الذي وضعه نصب عينيه.
وهكذا تمكن هذا الأب والمعلم المثالي أن يلحق أولاده وبناته تباعا في مقاعد الدراسة العليا، فقد تخرج نجله الأكبر (أياد) من المعهد العالي للعلوم الصحية بصنعاء، قسم الصيدلة، الذي التحق فيه برغبته بعد الثانوية العامة، خلال الأعوام 2003- 2005م وحصل على شهادة الدبلوم العالي(نفقة خاصة)وما زال حتى يومنا هذا بدون وظيفة رسمية ومنتظراً دوره في التوظيف منذ استلام شهادته وحتى اليوم رغم الحاجة إلى تخصصه!!.
أما كُبرى بناته الخمس فالتحقت في كلية التربية عدن، وتوفر لها السكن لدى خالتها خلال سنوات دراستها الأربع حتى تخرجها عام 2006م من قسم "الأحياء/كيمياء"، ومنذ تخرجها تعمل مدرِّسة متعاقدة على نفقة الأهالي في مدرسة "الشعب" وفي انتظار التوظيف الرسمي!!.
حينما تعرفت على "أبى أياد" بداية العام الجامعي 2011م، في كلية التربية يافع،الواقعة في مديرية لبعوس-محافظة لحج، كان برفقة ابنتيه الثانية والثالثة، التحقن حينها بالكلية، واحدة في قسم اللغة الانجليزية، والأخرى في قسم رياضيات-فيزياء، ونظراً لعدم وجود قسم داخلي خاص بالبنات كان عليه أن يبحث له ولهن على سكن بالإيجار، لكنه وبعد بحثٍ مُضْنٍ في كل القرى المحيطة بالكلية، لم يعثر على أي سكن حتى في القرى البعيدة نسبياً عن الكلية. ومع ذلك لم ييأس أويصاب بالاحباط، وظل متمسكاً بخيوط الأمل لعله يجد حلاً مناسباً ومقبولاً لأزمة السكن، فاضطر أن يذهب إلى مديرية يهر، حيث وجد بيتاً للايجار هناك في عاصمة المديرية، ورغم بعد المسافة، إلا أنه كان الحل الوحيد المتاح أمامه حتى لا يحرم ابنتيه من مواصلة الدراسة، وما شجعه على القبول بذلك هو أن ابنتيه ستذهبان إلى الكلية في باص مخصص لنقل الطالبات من قرى وادي يهر، يقطع المسافة إلى الكلية بمعدل ساعة وأكثر ذهابا ومثل ذلك إياباً يومياً، وكان عليه أن يدفع ايجار للبيت وإيجار لنقل بناته وقد تحصلن على درجة البكالاريوس في العام 2014/2015م.
وفي العام الدراسي 2012م التحقت ابنته الرابعة في كلية التربية يافع، وانضمت إليه وإلى اختيها في السكن المؤقت وفي رحلة الذهاب والإياب إلى الكلية حتى تخرجها من قسم (الأحياء/ كيمياء) في العام 2015/2016م بشهادة بكلاريوس. ثم التحقت ابنته الخامسة، صغرى بناته، بكلية التربية يافع في العام 2013/2014م في قسم (الرياضيات/فيزياء) وقد أكملت امتحانات التخرج قبل أيام.
وخلال تفرغه مع بناته الأربع خلال سنوات دراستهن بالتتابع في كلية التربية يافع بين عامي 2011-2017م، اضطر أيضاً للبحث عن عمل إضافي، فتهيأت له فرصة العمل بالتعاقد معلماً في مدرسة الحرية للتعليم الأساسي بيهر، وهو يشعر بالامتنان لكل من عاونه وآزره سواء إدارة مدرسة "الشعب" التي قبلت تفرغه مقابل أن تغطي ابنته خريجة كلية التربية عدن بدلاً عنه، وكذا إدارة مدرسة "الحرية" في يهر التي قبلت التعاقد معه مما ساعده على توفير مورد إضافي ساعده في مواجهة تكاليف العيش وتعليم بناته.
أما الأصغر من أولاده (نصر) فقد أنهى الثانوية العامة العام الماضي وسجل هذه الأيام في كلية الطب، بعد أن التحق بدورة التقوية التي أقامتها مؤسسة يافع للتنمية البشرية لمساعدة الطلاب المتقدمين للالتحاق بالجامعات.
وهكذا بنهاية امتحانات هذا العام الجامعي أنهى "أبو أياد" رحلة اغتراب في هجرة داخلية امتدت سبع سنوات منذ العام 2011م بمعيِّة بناته الأربع اللاتي حصلن على تعليمهن الجامعي في كلية التربية- يافع بعيداً عن بيتهن ومسقط رأسهن. وحين قابلته مؤخرا، خلال الامتحانات، وجدته في قمة السعادة وعلامات الرضا والفرحة تزين محياه، خاصة وأن الأسرة ستلتأم من جديد بعد إكمال بناته الأربع لرحلة التعليم الجامعي وقبلهن شقيقتهن الكبرى، وهو يحمد الله ويشكره على توفيقه في الوصول إلى هدفه، كما يزجي جزيل الشكر والعرفان لكل من ساعده أو شجعه وكل من ذلّل الصعوبات والعقبات التي واجهته.
حقاً..كم هو رائع وجميل هذا الأب المعطاء بجمال روحه ومشاعره المرهفة التي تفيض حنانا وطيبة، والمعلم المثالي الذي امتهن هذه المهنة الإنسانية النبيلة فأخلص لها وربَّى وعَلَّم، وقدّم لنا نموذجاً فريداً واستثنائياً في زمننا المحبط هذا، ولا شك أنه بقدر ما انتزع اعجابنا فأنه قد فرض علينا احترامه وتقديره، ومن الواجب على الجهات المعنية أن لا تبخل بمساعدة أبنائه وبناته في الحصول على الوظيفة المناسبة حسب تخصصات كل منهم، وهي تخصصات نادرة ومطلوبة، وهذا أقل وفاء وتشجيع وتحفيز له ولأمثاله، كما ندعو إلى تكريمه التكريم اللائق والمناسب من قبل الدولة والمجتمع.
وختاماً..تحية احترام وتقدير لهذا المربي الإنسان والمعلم النموذجي استحق اعجابنا وتقديرنا، وبأمثاله يجب أن نقتدي إذا ما أردنا أن نضع اللبنات الصحيحة لمستقبل زاهر وسعيد لوطننا، فليس ثَمَّة من سبيل آخر غير الأخذ بأسباب العلم الذي لا نهضة ولا تقدم ولا تطور من دونه.
10:38