حامد الكيلاني يكتب:

الميليشيات ستذهب بالعراق إلى حتفه الإيراني

إيران لا تتدخل في الشؤون الداخلية للعراق ولا في تشكيل الحكومة وتحالف الكتلة الأكبر في البرلمان، لكنها، وعلى لسان المتحدث باسم وزارة خارجيتها بهرام قاسمي، تتابع التفاصيل، خاصة ما يتعلق منها بالحشد الشعبي وبإقالة أحد قادته، وتصرح بأنها ستنظر في الأمر، في الأيام المقبلة، وتقرر ماذا ستفعل.

لا يتعامل النظام الإيراني فعلا مع العراق بصفته دولة مستقلة عنه وذات سيادة، فتفسيره للتدخل يختلف تماما عن المعايير الدبلوماسية بين الدول، بل إنه على ثقة أن من يتدخل بشؤون العراق الداخلية إنما يتجاوز خصوصيات السياسة الإيرانية؛ وذلك سياق طبيعي من وجهة نظر زعماء إيران وأيضا حكام العراق بأحزابهم وقواتهم المسلحة المكونة من ميليشيات ارتقت بالإعداد والتدريب والتجهيز إلى مستوى متقدم بين جيوش المنطقة.

الاحتلال الأميركي للعراق في 9 أبريل 2003 كلل الجهود الإيرانية المستمرة منذ بدء العدوان الإيراني على العراق في 4 سبتمبر 1980 ومنح نظام الملالي فرصة الاستفراد بشعب العراق وافتراس جيشه بقرار الحاكم المدني بول بريمر الذي أصدر قرار الحل انسجاما مع الرغبة الإيرانية الممثلة بزعماء حزب الدعوة والعملاء الآخرين ممن حملوا السلاح ضد وطنهم الأم في الحرب الإيرانية العراقية، والذين تكفلوا بتصفية القادة والطيارين والعملاء وأساتذة الجامعات والأطباء وطابور طويل من المطلوبين لقائمة الاغتيالات الإيرانية انتقاما لدورهم في إيقاف طموحات ولاية الفقيه عند البوابة الشرقية من حدود الأمة العربية مع إيران.

ولاءات الحكام الجدد مهما ابتعدت السنوات عن بداية تاريخ سنة الاحتلال، تظل محكومة بالخيانة والتواطؤ مع الأجنبي، فعمليتهم السياسية بشعاراتها الديمقراطية وانتخاباتها البرلمانية أو بحكوماتها وكتابة دستورها ومرجعية محكمتها الاتحادية، لم تكن إلا هبات من المحتل، ولن تزيدهم مكانة في أعماق عشائرهم ومدنهم وطوائفهم ومذاهبهم أو قومياتهم رغم أنها زادتهم مالا وفسادا؛ فعار الاحتلال سيلاحقهم جيلا بعد جيل حيثما حلوا وارتحلوا.

الانقسام في العراق بين الولاء لأميركا وإيران لن ينتهي مع وجود زعماء الخيانة الذين استقدموا الاحتلال الأميركي تحت ذرائع أسلحة الدمار الشامل؛ فالرئيس الأميركي جورج دبليو بوش اعتذر عمّا وصفه بـ”المعلومات الخاطئة” وهو ما لا يتجرأ العملاء القيام به وحتى سيل اعتذاراتهم الأخيرة للشعب العراقي لا تنصب في اعتذارهم عن ارتكاب جريمة الاحتلال، إنما لصناعة قاعة طوارئ لاستقبال أعراض انهيارات سمعتهم عمليا.

رئيس البرلمان السابق في كلمته أثناء انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب الجديد حرص على التذكير بأهمية الحفاظ على “مكتسبات العملية السياسية” وتحصينها من الزلل؛ رغم أن الشواهد تتدافع مزدحمة أمام شعب العراق والرأي العام العالمي والمنظمات الدولية لتؤكد حجم ونوع الزلل في الصراعات بين الكتل وتحالفات الشخصيات المتكالبة على تولي السلطة وترجيح الطرف الأميركي أو الإيراني في مفاضلة بين تجاذبات معلنة وصريحة من الجانب الأميركي، يقابلها تخفّ وكتمان يراد لهما أن يكونا سرّا بما هو مطلوب من الجانب الإيراني، وتحديدا في فترة العقوبات وما سينتج عنها بعد توقع تفاقمها في بداية شهر نوفمبر القادم مع فرض سياسة أميركية اقتصادية صارمة بشأن تخفيض الصادرات النفطية إلى مقتربات نقطة الصفر.

مزادات السياسة والحكم والتبعية تجري في وقت نفضت فيه الحكومة والميليشيات الإيرانية تحت عنوان الحشد الشعبي والقوات النظامية وقوات التحالف يدها من ركام الموصل وما خلّفته من تدمير شامل، دون أن تكلف تلك القوى نفسها تسريع عودة اللاجئين وإعمار مناطقهم وتوفير فرص عمل معقولة لينهضوا من رماد المجازر والإبادات التي تعرضوا لها من إرهاب داعش وعشوائية الحرب عليه، حيث لا حدود أو أرقام مسبقة لمحددات الخسائر المدنية في خطط غرف العمليات.

مازالت معسكرات وخيام اللاجئين من أهلنا في الموصل مدنا بديلة على مدّ النظر لمن يراها، وهي مدن لا تنتج سوى اليأس والعاطلين الباحثين عن إطعام مجاني حدّ الكفاف لأسرهم تحت خيمة الأمم المتحدة.

البصرة التحقت بالموصل والنزوح ليس بالبعيد بعد أن غادرت أعداد من أهلنا فيها إلى مدن أخرى ودول أخرى بسبب توفر الميليشيات الإيرانية وقواعدها الاقتصادية والحزبية، وأيضا توفر التلوث والتصحر والتملح والأمراض مع انعدام الماء الصالح للشرب والاستخدامات الحياتية واختلاطه بسبب تقادم البنى التحتية مع النفط والمجاري بما ينذر بالعواقب الوخيمة في ظل عجز واضح عن تبني حلول تنموية تعيد الحياة إلى البصرة وتستوعب تشغيل الآلاف من العاطلين.

انتحار المدن العراقية، نماذج تزدهر بها الولاءات الانتخابية لأميركا وإيران، وكما يقول زعيم ميليشيا العصائب “لا تستعجلوا ولا تفرحوا فمن يضحك أخيرا سيضحك كثيرا”، ليُرجِح امتلاك تحالف الفتح ودولة القانون مفاتيح تشكيل الكتلة الإيرانية الصريحة في البرلمان والتي أطلق عليها كتلة البناء، وهو اختيار موفق لمفردة التسلط الميليشيوي على مقدرات العراق والعراقيين؛ فالمعنى ينطوي على ما سبق من تخريب على مدى 15 سنة تحت ذات الأحزاب والمرجعيات السياسية والدينية في نظام يتسيد فيه المشروع الإيراني الواقع السياسي.

علاقة الأحزاب الإيرانية بأميركا تتراوح بين جهتين؛ الجهة الأولى تقدم نفسها كسلطة دولة لها مصالح مع الولايات المتحدة كدولة عظمى وتحاول تكريس النفاق في اللعب على حبال متعددة، أما الجهة الثانية فتراهن على ولائها المطلق لإيران دون نسيانها التلميح إلى التغيير وبناء العراق بعد التخريب والتدمير والتحكم الفعلي بالقرار العراقي من منطلق المصالح الإيرانية لاختبار النيات الأميركية مع إيران في العراق والمنطقة.

لذلك فإن المشهد السياسي يتجه إلى معارضة مُعطِلة في البرلمان؛ معارضة من خلفها ميليشيات وكتل بشرية تستطيع تحريكها بأزمة من داخل البرلمان. الكتلتان المتنافستان لديهما هذه الإمكانات وعند فوز أحدهما بالكتلة الأكبر وتشكيل الحكومة فإنه سيذهب إلى الإصلاح بطريقته لكسب التأييد الشعبي مع فتح الباب للاستثمارات في أجزاء من احتياجات الشعب العراقي. عمليات الإصلاح والإعمار والبناء في العراق ستكون بدرجة التعافي والقبول بالحمى بديلا عن تجارب الموت السابقة.

ستذهب الميليشيات بالعراق في النهاية إلى حتفه الإيراني بالصواريخ الباليستية والبرنامج النووي والعقوبات والتهديدات الإسرائيلية لملاحقة تواجدها وأسلحتها الاستراتيجية المنقولة من إيران أو المصنعة في العراق، رغم نفي حكومة العبادي للخبر ومطالبتها بالدليل الملموس؛ أي دليل على شاكلة إبراء ذمة النظام الإيراني من التدخل في شؤون العراق.

ولاية الفقيه تعتبر الانتقادات الموجهة إليها نتيجة تدخلها في العراق تدخلا من خصومها الدوليين والمحليين في شؤونها الداخلية؛ الحقيقة الإيرانية في العراق تؤكد أن ميليشياتها ستضحك أخيرا إن ربحت تشكيل الكتلة الأكبر أو خسرت؛ لكن ثمة حقيقة مقابلة أكثر رسوخا تتكون في الداخل الإيراني والعراقي والدولي والمنطقة ستذرو معها الكثير من الميليشيات وضحكاتها وغطرسة الحرس الثوري أدراج الرياح.