خير الله خير الله يكتب:
بحث عن سراب في اليمن
لا يشبه من يعتقد أن في الإمكان التوصل إلى اتفاق ما مع الحوثيين (أنصار الله)، في ظل موازين القوى الراهنة في اليمن، سوى الباحث عن سراب. إذا كان المطلوب إظهار الأمم المتحدة، ومن خلفها المجتمع الدولي، في مظهر من يسعى إلى التغطية على الكارثة التي حلّت باليمن، سيكون في استطاعة مبعوث الأمين العام للمنظمة الدولية، مارتن غريفيث، القيام برحلات مكوكية، إلى ما لا نهاية، بين صنعاء والرياض.
ستسمح هذه الرحلات بالقول إن اتفاق ستوكهولم الذي وقع أواخر العام الماضي بين “الشرعية” و“أنصار الله” في إحدى ضواحي العاصمة السويدية ما يزال حيّا يرزق، وأنّه قابل للتطبيق وأن المهمّ في الوقت الراهن وقف القتال والسعي في الوقت ذاته إلى تمرير بعض المساعدات الإنسانية عبر ميناء الحديدة ذي الأهمية الاستراتيجية. يسمح تمرير المساعدات للأمم المتحدة بادعاء أنها تعمل من أجل وضع حدّ لمأساة مستمرّة منذ سنوات عدّة. مأساة اختلط فيها الجوع مع المرض والبؤس بكلّ أنواعه، خصوصا في ما يخصّ أطفال اليمن.
إلى الآن، ليست هناك معطيات يمكن أن تشير إلى وجود رغبة لدى الحوثيين في تطبيق الاتفاق الذي رعته الأمم المتحدة. حرص الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريش على التوجه إلى ستوكهولم ليكون شاهدا على توقيع الاتفاق في حضور وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت الذي تمتلك بلاده اهتماما خاصا بمستقبل الحديدة ومينائها.
في أساس الاتفاق انسحاب “أنصار الله” من الميناء أو من الموانئ الثلاثة، التي تشكل ميناء الحديدة، وذلك في إطار السعي إلى وقف القتال الدائر. لم يحصل مثل هذا الانسحاب لكن القتال توقف. يبدو أن غريفيث لا يريد سماع تفسير الحوثيين للاتفاق ومفهومهم له. أحد قادة “أنصار الله” كان واضحا كل الوضوح عندما قال إن الاتفاق يعني بالنسبة إلى الحوثيين سيطرة صنعاء على الحديدة. لذلك، جرى إلباس المقاتلين التابعين لـ“أنصار الله” لباس الشرطة المحلّية من زاوية أن كلّ شيء يجب أن يبقى على حاله في الحديدة التي يتحكّم بها الموجودون في صنعاء، أي جماعة عبدالملك الحوثي…
قضى الحوثيون على أهمّ ما في الاتفاق الذي يطالب بوضع الحديدة تحت سيطرة الأمم المتحدة. قضوا عمليا على روحه. لذلك لم يستتبع الاتفاق البحث في إعادة فتح مطار صنعاء وإجراء عملية تبادل للأسرى، تمهيدا للبحث في مرحلة لاحقة عن حلّ سياسي يشمل اليمن كلّه، لعلّه يعود سعيدا في يوم من الأيّام.
هناك مشكلة ضخمة لدى مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة. تكمن هذه المشكلة في رفضه، أقله ظاهرا، استيعاب تفاصيل الوضع اليمني. صحيح أن التفاصيل تبقى تفاصيل، لكنّها تمتلك في أحيان كثيرة أهمية كبيرة، خصوصا عندما تصبح عقَبة في وجه التقدم على طريق الحلّ الشامل في بلد أقلّ ما يمكن أن يقال عنه أنّه تشظى.
من بين التفاصيل ذات الأهمّية الكبيرة دور الحوثيين على الصعيدين الداخلي والإقليمي. من الواضح أن للحوثي مشروعه الداخلي الذي عبّر عنه عبدالملك بدرالدين الحوثي مباشرة بعد وضع اليد على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014، أي منذ ما يزيد على أربع سنوات. كان واضحا لدى زعيم الحوثيين أن الهدف قيام نظام جديد في اليمن يحل مكان النظام الجمهوري الذي تأسس في السادس والعشرين من أيلول – سبتمبر 1962. محا يوم 21 سبتمبر 2014 يوم 26 سبتمبر 1962. قالها عبدالملك بكلّ صراحة. قال إن الحوثيين يكتبون التاريخ الجديد لليمن. يريدون إعادته إلى عهد الإمامة، علما أنّهم لا يمتلكون حتّى بعض الإيجابيات التي كانت لدى آل حميدالدين، العائلة التي كان ينتسب إليها أئمة اليمن.
على الصعيد الإقليمي، لم يكن الحوثيون سوى أداة إيرانية لا أكثر ولا أقل. لذلك حاولوا في البداية التوسّع في كلّ أنحاء اليمن مستفيدين من تحالفات أقاموها مع بعض الجنوبيين. بلغوا عدن وأقاموا فيها ووصلوا إلى ميناء المخا غير البعيد عنها، وذلك كي تتمكن إيران من الإعلان عن تحكّمها بمضيقين حيويين للملاحة الدولية هما هرمز وباب المندب.
أُخرج الحوثيون من عدن ومن المخا. يعود الفضل في ذلك إلى التحالف العربي، لكنهم بقوا في الحديدة. هناك ضغوط كبيرة مُورست على التحالف العربي من أجل تفادي أي حسم عسكري في الحديدة. لماذا كانت كلّ هذه الضغوط التي بدأت في مايو الماضي، أي منذ ما يزيد على ستة أشهر؟ لماذا اتفاق ستوكهولم الذي يعني، بين ما يعنيه، بقاء الحوثيين في صنعاء وفي الحديدة؟
ليس سرّا أن من بين الأسباب التي تدعو إلى الأسف حصر مارتن غريفيث المفاوضات بين الحوثيين و“الشرعية”، في حين هناك حاجة أكثر من أيّ وقت إلى إعادة تشكيل هذه “الشرعية” التي على رأسها رئيس انتقالي كان مفترضا أن تنهي ولايته في السنة 2014، بعد سنتين من تسلمه السلطة رسميا من علي عبدالله صالح في شباط – فبراير 2012.
لا يمثل الحوثيون اليمن ولا حتّى اليمن الشمالي. ولا تمثل “الشرعية” الكثير في اليمن. هل يجهل مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة ذلك… أم أن هدفه إبقاء “الشرعية” في حال ترهّل كي يثبّت أمرا واقعا. يتمثّل الأمر الواقع هذا في قيام كيان حوثي في جزء من اليمن على أن تكون الشواطئ اليمنية في مجملها تحت سيطرة قوى أخرى مع وجود حوثي مضبوط دوليا في الحديدة. من يتذكّر أن الدولة العثمانية تخلت سريعا عن سيطرتها على معظم الداخل اليمني بعدما وجدت صعوبة في ذلك، وفضلت البقاء في الموانئ ومناطق أخرى خارج صنعاء والمنطقة المحيطة بها؟
هذه تبدو الخطوط العريضة للصفقة التي يمهّد لها اتفاق ستوكهولم الذي ينقص الذي يقفون خلفه أمر في غاية الأهمّية. يتمثّل هذا الأمر في أنّ ليس بالإمكان الوثوق بالحوثيين. لم يحترموا أي اتفاق وقّعوه. لا اتفاق “السلم والشراكة” مباشرة بعد دخول صنعاء والذي كانت الأمم المتحدة شاهدة عليه عبر، مبعوث الأمين العام وقتذاك، جمال بنعمر.
قد تكون لدى مارتن غريفيث أجندة خاصة به تأخذ في الاعتبار أن الحوثيين يناورون باستمرار بدليل تخلّصهم من علي عبدالله صالح في الثالث من كانون الأول – ديسمبر 2017 في اللحظة التي شعروا فيها أنه لم تعد لديهم حاجة إليه، وأنه آن أوان تنفيذ الحكم الصادر في حقه بسبب خوضه ست حروب معهم.
يمكن لامتلاك المبعوث الأممي لأجندة خاصة به أن يكون مؤشرا إلى نظرة جديدة إلى اليمن. تنطلق هذه النظرة من أنّ لا أمل في إعادة توحيد البلد، وأن لا مفرّ من كيانات صغيرة أحدها مخصص للحوثيين الذين سيسعون إلى البقاء في الحديدة، فضلا عن صنعاء طبعا، في غياب من يقول لهم إن كفى تعني كفى. هل يستطيع التحالف العربي القبول بهذا الواقع الذي هناك من يحاول فرضه عليه؟