غوكهان باجيك يكتب:

أردوغان يحوّل الدولة التركية إلى بائع خضروات

بعد أن وصف وزير المالية التركي براءت البيرق ارتفاع أسعار الغذاء في الآونة الأخيرة بأنها “إرهاب غذائي”، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان أن الحكومة سوف تبيع مجموعة من السلع الغذائية الرئيسية مثل الطماطم والفلفل بأسعار مخفضة.

ويسلط نهج حكومة العدالة والتنمية الإسلامية تجاه أزمة الأسعار الضوء على تقاليد الدولة التركية، والضعف المتوطّن في الاقتصاد منذ زمن بعيد.

وبإلقاء نظرة عامة على تقاليد الدولة التركية منذ الحقبة العثمانية، سيتبين لنا أنها لم تُقر أبداً بأن الاقتصاد مجال مستقلٌ بذاته وله ديناميكياته الخاصة، بل إن الدولة كانت تنظر في الغالب إلى الاقتصاد على أنه مجال آخر من مجالات الإدارة التي يجب أن تتصرف فيها.

وتبنّت الدول التركية القديمة، كالسلاجقة والعثمانيين، أنظمة اقتصادية معقّدة شملت الضرائب والإنتاج والتجارة وغيرها.

وما زالت النظرة الإدارية للاقتصاد التركي حتى الآن هي السائدة باعتبارها النموذج الرئيسي، على الرغم من أنه كانت هناك بعض الفترات الاستثنائية في السابق وحتى قبل تولي أردوغان السلطة.

وإلى جانب النظرة الإدارية للاقتصاد التركي منذ زمن، لم تَقبَل الدولة التركية أبداً بفكرة أن النشاط الاقتصادي يستلزم بعض إجراءات الحماية والقواعد؛ بل كان يُنظر إلى مسألة الإقرار بمثل هذا المجال الاقتصادي المستقلّ باعتبارها مشكلة تتعلق بسيادة الدولة.

وعلى سبيل المثال، باتت تدخلات الدولة المتكررة في الأسعار مشكلة سياسية للأطراف الفاعلة في السوق.

وقد احتجت مجموعة من تجار إسطنبول على مدققي الحسابات الرسميين الذين أرسلتهم الحكومة، قائلة إنهم يضرون بأنشطة بائعي الخضروات.

ولم ينتظر أردوغان كثيرا ليصفهم بأنهم “إرهابيون” ويعِد بأن الدولة ستقضي عليهم في أسواقهم كما قضت على الإرهابيين في كهوفهم.

وقد حالت الحساسية التاريخية للدولة تجاه الاستقلال الاقتصادي دون تراكم الثروة، وتوفير حماية قوية للأطراف الفاعلة في السوق.

والكثير من مدن غربي الأناضول تُعَدّ من أفضل الأماكن التي يمكننا أن نلاحظ فيها التداعيات الجلية لأوجه الخلل تلك، حيث لا يمكن للمرء أن يرى أبدا مشهدا معماريا يتسم بالأصالة والتاريخ، على عكس الكثير من البلدات الصغيرة الواقعة في أي بلد في أوروبا الغربية.

وهذا الجزء من الأناضول ظل تحت الحكم التركي لنحو ألف عام، وقد يتوقّع أحدنا وجود علامات تحمل عبق التاريخ. غير أن الفكرة الإدارية عن الاقتصاد حالت دون تراكم رأس المال وظهور القواعد الأساسية لحماية ممتلكات الوكلاء الاقتصاديين.

ولكون تقاليد الدولة التركية بها الكثير من التحفظات بشأن السوق، فإنها لم تحتضن أبدا نظرة اشتراكية في الفترة الحديثة. ومن ثمّ، لا ينبغي الخلط بين النظرة الإدارية المتأصلة في تقاليد الدولة التركية، وبين التخطيط الاشتراكي.

ويمكن أيضا ملاحظة الانعكاسات الاجتماعية لتحفظات الدولة على كل من الليبرالية والاشتراكية. على سبيل المثال، فإنّ الخصائص السياسية المرتبطة بالبنية التحتية، أي الليبرالية والشيوعية، هي ازدرائية في أغلبها.

وفي المقابل نجد أن الخصائص السياسية المرتبطة بالبنية الفوقية أي القومية والدينية في البلاد تكون إطرائية في أغلبها.

وتحذّر الدولة التركية دائما من أي نظرة اقتصادية عالمية، وتصرّ على ثقافة إدارية صارمة لا يخرج فيها أيّ مجال عن السيطرة السياسية.

وبناء على ذلك فإن أيّ رجل أعمال تركي ليس برجوازيا صِرفا، تماما، كما أن أيّ عامل تركي لا يمثل الطبقة العاملة بحذافيرها.

وكدليل دامغ على ذلك، تتساوى جمعيات الأعمال في تركيا مع الاتحادات العمالية في السلبية والتبعية لإرادة الحكومة.

وفي الماضي كان العثمانيون والأنظمة الجمهورية يتبنون الكثير من الإصلاحات الاقتصادية من أجل وضع إطار اقتصادي حديث على النمط الغربي.

غير أن تلك الإصلاحات المتتالية فشلت بشكل كبير في فصل الدولة التركية عن نظرتها التقليدية للاقتصاد، والتي تعود إلى القرون الوسطى.

وفرضت الضرورة الكثير من الإصلاحات المهمة، ومن بينها إعلان نظام السوق الحُر في يناير عام 1980 وإصلاحات كمال درويش فترة توليه وزارة الشؤون الاقتصادية والمالية بين مارس 2001 وأغسطس 2002 في القطاع المصرفي بعد الأزمة الاقتصادية الذي ضربت البلاد في عام 2001.

وما زالت عقلية الاقتصاد الإداري قائمة في تركيا، وكثيرا ما كان يتم إحياؤها من جديد، ومثال على ذلك قيام حكومة أردوغان بتدمير اللوائح المالية التي فرضها درويش بالكامل تقريباً.

وفي ظل هذه الرؤية، فإن عودة الدولة لممارسة دور بائع الخضروات من أجل كبح جماح التضخم، ما هي إلا أحياء للعقلية التقليدية.

وتعد دعوة أردوغان المواطنين الأسبوع الماضي بأن يقارنوا بين أسعار الطماطم والرصاصات هي مثال واضح على النظرة التركية إلى الاقتصاد.