يمينة حمدي تكتب:

تناول عشاءك كفقير

معظمنا يحفظ المقولة الكلاسيكية “البطون الخاوية لا تفكر”، ولكنها قد لا تكون صحيحة تماما لنورثها على تعلاتها المفترضة لأبنائنا والأجيال القادمة من بعدنا، فالشعور بالشبع رغم أنه أمر جيد لتعزيز وظائف الدماغ والجسد، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن الكثيرين لا يفرّقون بين الإحساس بالشبع والتخمة.

يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس إن “العقل كالمعدة والمهم ما تهضمه لا ما تبتلعه”، ويطلق بعض العلماء على المعدة “المخ الثاني”، في إشارة إلى أهمية اتباع نظام غذائي متوازن للحفاظ على التناغم بين عمل الجهاز الهضمي البشري وصحة المخ.

ربما لم يصل بعد العلماء إلى فهم دقيق وواضح للآليات التي تصل بين المخ والجسم، ومدى تأثير كل منهما في الآخر، لكنهم اكتشفوا حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن تناول وجبة كبيرة من الطعام، يؤثر على المناطق المخصصة للإدراك والوعي، وقد يؤدي إلى إضعاف التركيز وبطء رد الفعل والشعور المتزايد بالرغبة في النوم، والعكس صحيح أيضا، فاستهلاك كميات أقل من الطعام، يحافظ على ذكاء الإنسان ويزيده تركيزا واستيعابا.

كثيرة هي الأبحاث التي ربطت بين مجموعة من العوامل النفسية الخفية وكمية الطعام التي يتناولها الناس، ويكفي أن نشير هنا إلى الأسباب التي تساهم في تشتيت الذاكرة وتجعل الكثيرين يفرطون في تناول كميات من الطعام، مثل الانشغال باللعب بالهاتف الذكي أو جهاز الكمبيوتر أو مشاهدة التلفزيون، وبشكل أكثر عمومية، هناك دائما “لحظات ممتعة” ترتبط بين الإقدام على التهام الأطعمة التي تغرينا، والتغيرات التي قد تحدث لنظام المكافأة في الدماغ، وهذه هي المفارقة التي تدفعنا دائما إلى التفكير في هذه المتعة التي أصبحت كامنة في عقولنا.

مؤيدو هذه النظرية يرجحون أن منطقة “النواة المتكئة” في الدماغ مسؤولة عن جذب المدمنين إلى الأشياء التي يشتهونها، سواء كانت طعاما أو كحولا أو مخدرات.

وتكبح عادة هذه المنطقة – التي تساعدنا على التصرف بعقلانية – جماح الجزء التواق للمكافأة الفورية، لكن أحيانا تختل هذه المنظومة، بسبب العلاقات الشرطية التي تنشأ لدى البعض مع أنواع معينة من الأطعمة. وقد يزيد ذلك من احتمالات إحساسهم بالشعور بالجوع، حتى إذا كانوا قد التهموا لتوهم كميات كبيرة من الطعام.

تقول الباحثة الهولندية كارولين فان دين أكِر “إذا اعتدت تناول قطعة من الشوكولاتة أو بعض رقائق البطاطس المقلية خلال جلوسك على أريكتك لمشاهدة التلفزيون بعد العشاء، فقد يبدأ جسدك في الربط بين الجلوس على الأريكة ومشاهدة التلفزيون من جهة والتهام شيء لذيذ الطعم من جهة أخرى. نتيجة لذلك، ستشعر في كل مرة تذهب فيها لتجلس على الأريكة بعد العشاء برغبة شديدة في تناول الطعام. ويمكن أن يحدث ذلك حتى ومعدتك متخمة بالطعام”.

من المتع العظيمة للحياة ومباهجها لدى الكثيرين أن ينعموا بلذة أطباقهم وحلوياتهم المفضلة، وربما يصل الأمر إلى مرتبة الاستحواذ الذي يسيطر عليهم بسبب هذه المتع، التي قد تضعف قدرتهم على ضبط النفس، كما يصعب عليهم في معظم الأحيان التخلص منها، حتى في ظل وجود النية الحسنة للقيام بذلك.

المتع التي نجنيها غالبا من بعض الأطعمة المفضلة لدينا هي في الحقيقة مزايا زائلة، لكن تترتب عليها آثار طويلة المدى على الصحة الجسدية والعقلية.

وهذا الأمر يفتح المجال للحديث عن مجموعة الرغبات الجارفة التي تحدونا في وقت ما، وتجعل معظمنا ينساق دون تفكير وراء متعها قصيرة الأجل.

العلاقات المشروطة مع بعض المتع يمكن أن تنشأ بسرعة، وتتحول مع الوقت إلى عادة يومية تتحكم في خياراتنا في الحياة، ولذلك بدلا من أن نهدر وقتنا في الندم والتأسف لما يحدث في كل مرة، لماذا لا نعيد التفكير في بعض عاداتنا السيئة المتعلقة بتناول الطعام، حتى نواجه الإغراءات التي تصادفنا بين الحين والآخر على رفوف المتاجر.

في النهاية هناك مقولة شائعة يجب أن نستحضرها في كل فترة نجلس فيها إلى طاولة الطعام وهي “تناول فطورك كملك، وغداءك كأمير، لكن لتكن وجبة العشاء كفقير”.