خير الله خير الله يكتب:

مرحلة غير سهلة في السودان

ليست محاولة اغتيال رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك في الخرطوم قبل بضعة أيّام حدثا عابرا. تدلّ محاولة الاغتيال التي استهدفت الوجه المدني الأبرز في السودان، في مرحلة ما بعد عمر حسن البشير، على وجود رغبة في القضاء على أيّ محاولة جدّية للانتقال بالسودان إلى مرحلة جديدة مختلفة من جهة وإلى أن النظام السابق الذي استمرّ ثلاثين عاما مازال يمتلك أنيابا من جهة أخرى. بكلام أوضح، ليس سهلا التخلّص من نظام البشير بكل ما زرعه في ثلاثين عاما بمجرّد وضع الرجل في السجن. ثمّة حاجة إلى الذهاب إلى ما يتجاوز ذلك بعيدا عن أيّ مغامرات جديدة يمكن أن تغري طامحين إلى السلطة على غرار ما حصل في 1958 لدى قيام أول حكم عسكري، بموافقة المدنيين، إثر انقلاب نفّذه الفريق إبراهيم عبّود.

أخرج السودانيون العاديون إبراهيم عبّود من قصر الرئاسة في العام 1964. فشل المدنيون مجددا في إقامة نظام قابل للحياة وذلك في ظلّ تجاذبات حزبية وطموحات فردية من النوع الذي ميّز التاريخ الحديث للسودان منذ استقلّ في العام 1956.

مهّد الفشل في إقامة نظام مدني قابل للحياة لمجيء عهد جعفر النميري مع مجموعة من الضباط في 1969. ما لبث السودانيون أن تخلصوا من النميري في 1985 بعدما حاول القيام بكلّ الحركات البهلوانية لإنقاذ نظامه، بما في ذلك الاستعانة بالإخوان المسلمين وبحسن الترابي بالذات للبقاء في السلطة. كان ذلك في السنوات الأخيرة من عهد النميري الذي خلفه، بعد مرحلة المشير سوار الذهب، نظام مدني لم يستمرّ غير ثلاث سنوات استطاع حسن الترابي قلبه مستعينا في منتصف 1989 بضباط صغار معظمهم ينتمي إلى تنظيم الإخوان المسلمين.

كان الترابي يعتقد أنّ في استطاعته استخدام هؤلاء الضباط، على رأسهم عمر حسن البشير بغية تحقيق أهداف تتجاوز حدود السودان. كان يعتقد أيضا أنّ لديه من الخبرة والدهاء ما يمكنّه من أن يكون لاعبا في كلّ منطقة القرن الأفريقي وحتّى في مصر التي ما لبثت أن اكتشفت طبيعة النظام السوداني الجديد بعد محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا التي جاء إليها من أجل حضور القمّة الأفريقية في حزيران – يونيو من العام 1995.

لم يبق حسن الترابي طويلا في موقع العرّاب للنظام السوداني، الذي ولد من رحم انقلاب عسكري. فقد بدأت تتكوّن سريعا لدى عمر حسن البشير طموحات خاصة به. ما لبث البشير أن باشر التضييق على الترابي وصولا إلى سجنه. وكاد ينفّذ به حكما بالإعدام لولا تدخّل علي عبدالله صالح، الرئيس اليمني وقتذاك، الذي استطاع حمل الدكتاتور السوداني على إعادة النظر في الذهاب إلى هذا الحدّ في المواجهة مع الزعيم الأبرز للإسلام السياسي في السودان.

لم يؤد تحييد الترابي إلى تحييد الإخوان المسلمين الذين تابعوا هجمتهم على مؤسسات الدولة السودانية عن طريق التغلغل فيها، بغض النظر عمّا إذا كانت هذه المؤسسات مدنية أو عسكرية أو أمنية. صاروا في كلّ مكان، بما في ذلك الإعلام الذي كان جزء منه يموّل عبر النظام، عبر الأجهزة الأمنية التابعة له مباشرة، أو عبر رئاسة الجمهورية، أو حزب المؤتمر الوطني الذي كان بمثابة حزب السلطة.

استُهدف عبدالله حمدوك لأنه يعرف تماما ما الذي يتطلّبه قيام نظام جديد في السودان. لديه خبرة واسعة في كيفية عمل الدول الحديثة وكيفية التعاطي مع المنظمات الدولية الفاعلة ومع الإدارة الأميركية بالذات. من الواضح أنّ همّه إيجاد قطيعة بين السودان الحديث والعهد الذي كان فيه عمر حسن البشير مستعدا لكلّ شيء من أجل البقاء في السلطة. كان الإخوان المسلمون الطرف الأبرز في استغلال نقطة الضعف هذه عند البشير. كان كلّ همّهم محصورا في أن يكونوا مستقبل السودان وأن تكون لديهم أذرعهم، بما في ذلك الميليشيات المسلّحة القادرة على الإمساك المباشر بالسلطة يوم يجد البشير نفسه مضطرا إلى الاعتزال أو الذهاب إلى القبر.

من الطبيعي تركيز الثورة المضادة، التي وراءها بقايا من النظام السابق وجهات خارجية، على عبدالله حمدوك. إنّه قبل أي شيء آخر، هدف سهل… وليس كما حال رئيس المجلس العسكري عبدالفتاح البرهان أو الجنرال محمّد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي” اللذين يتحركان في ظلّ إجراءات أمنية شديدة.

فوق ذلك كلّه، إنّه يتمتع بمواصفات معيّنة في غاية الأهمّية. من أبرز هذه المواصفات قدرته على التحدث إلى الأميركيين والأوروبيين، خصوصا ألمانيا التي تعمل بشكل جدّي على تمكين السودان من إعادة تأهيل نفسه. وهذا لا يقتصر على المؤسسات المدنية للدولة، بل يشمل الأجهزة الأمنية التي يفترض بها أن تكون في خدمة السودانيين وليس في خدمة الإخوان المسلمين وشبقهم المعروف إلى السلطة.

ما يمكن استخلاصه من محاولة اغتيال حمدوك أن المرحلة الانتقالية في السودان لن تكون سهلة وأن الإخوان المسلمين الذين تسللوا إلى كلّ المؤسسات سيقاومون أيّ تغيير كبير قد يجعل من السودان دولة حديثة تخرج نهائيا من لائحة الدول المارقة الداعمة للإرهاب.

بغض النظر عن التجاذبات الداخلية التي يشهدها السودان، تبدو محاولة اغتيال عبدالله حمدوك حدثا مهمّا بحد ذاته. فبعد هذه المحاولة، لم يعد في الإمكان الاستخفاف بقدرة النظام السابق على المقاومة. هناك حاجة إلى ما هو أبعد من احتجاز البشير ومحاكمته أو تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية. ثمّة حاجة إلى عملية تطهير في العمق على كلّ المستويات، خصوصا في أوساط العسكر والأجهزة الأمنية وحتّى الوزارات المختلفة.

يظلّ السودان بلدا في غاية الأهمّية لأسباب مختلفة من بينها مساحته الشاسعة ومرور النيل، الذي هو شريان الحياة بالنسبة إلى مصر، في أراضيه. كذلك هو المكان الذي يلتقي فيه النيلان. السودان أيضا مطلّ على البحر الأحمر. لا حاجة بالطبع، إلى الإشارة إلى ما يمكن أن يكون عليه السودان في حال استغلال ثرواته الطبيعية، لكنّ الأكيد أن قيام دولة حديثة فيه تنتمي إلى العالم المتحضّر لن يكون سهلا. سيتمسّك الإخوان المسلمون به إلى أبعد حدود. سيقاومون بشراسة أيّ تطور نحو الدولة السودانية الحديثة المتصالحة مع شعبها ومع العالم. ستحظى مقاومة الإخوان المسلمين لتوجه السودان نحو أن يكون دولة مدنية بدعم خارجي. لا شكّ أن تركيا تتذكّر أنّها حاولت أن يكون لها موطئ قدم في غير مكان في السودان، بما في ذلك على البحر الأحمر… وهذا ما سعت إليه إيران أيضا!