يمينة حمدي تكتب:

اختفى "حليب الغولة" من لندن

لم يكن يهدأ لأمي بال أو ترتاح، في كل مرة أزور فيها تونس، إلا بعد أن تحشو حقيبتي بما أعدته من توابل ومطيبات طهي بذلت جهدا كبيرا في تصنيعها بنفسها، لاعتقادها أنني لن أتمكن من إيجاد مثيل لها في لندن، وكنت أحاول إقناعها بشق الأنفس أن جميع المواد الغذائية موجودة في بريطانيا، بما في ذلك “حليب الغولة” (عبارة باللهجة المحلية التونسية تعني أن كل شيء مهما كان نادرا متوفر)، بل أتعمد الحديث عن الخيرات التونسية والعربية والمنتجات الحلال التي تغزو الأسواق البريطانية حتى أريحها من هذا العناء وأريح نفسي من ثقل الحقيبة، فتتعجب أمي من كلامي وتقول “هذه بالفعل بلاد ربي”، لكن بداخلي إحساس أن ما تعده أمي بحب وحنان رغم بساطته له نكهته المميزة وذكريات رائعة في مخيلتي، لا يمكن أن تضاهيه أجود المنتوجات المتاحة في لندن.

في الآونة الأخيرة، استحوذت على ذهني أفكار مروعة ورهيبة بشكل غير اعتيادي، عندما رأيت على مدار عدة أيام مشهدا لم أعهده في دولة ما زالت تحتفظ بلقب “العظمى” وهي كذلك فعلا بمنشآتها واقتصادها وفخامتها وتطورها، غير أن تهافت البريطانيين على الأسواق العامة مع تصاعد الأخبار المهولة بشأن المستقبل بعد انتشار فايروس كورونا لشراء أكبر كميات ممكنة من الطعام واللوازم والمواد الأساسية إلى درجة أنني لم أظفر بكيس من الأرز من أكبر المتاجر، وكل ما وقع عليه نظري ليس سوى رفوف فارغة، أوحت لي بأن “حليب الغولة” الذي لطالما حدثت عنه أمي قد تبخر ولم يعد له أي أثر في لندن.

موجة التخزين التي يقوم بها البريطانيون هذه الأيام، وتحولت أيضا إلى ما يشبه الهستيريا الجماعية في البلدان العربية، تشير ضمناً إلى نزعة سلبية في الطبيعة البشرية، بل تكشف عن رغبة مرضية للاستحواذ على كل شيء من أجل “الأنا” من دون التفكير في احتياجات الآخرين، ولعل الكاتب الفرنسي فرانسوا دو لا روشفوكو محق إلى حد ما في قوله “إن الأنانية كريح الصحراء، تجفف كل شيء”.

على الرغم من أن التحلي بقدر معقول من النرجسية، لا يشكل دائما أمرا ضارا، وبإمكانه أن يساعد الناس على التكيف مع ظروف الحياة، لكن من الواضح أن الناس بدلا من أن يتوحدوا لمواجهة هذا الوباء القاتل الذي يهددهم جميعا، قد أصبحوا أكثر انشغالا بأنفسهم ومتمحورين حول ذواتهم، وقد استغل المحتكرون والمؤسسات المنتجة للسلع هذا الأمر لنشر الخداع بين الناس بغية بيع منتجاتهم ورفع الأسعار لمجرد جمع المزيد من الأموال.

وتعد فكرة “نشر الخداع المتعمد” أمرا مهما هذه الأيام، كما فعلت في السابق شركات صناعة التبغ عندما أخفت الحقائق المتعلقة بالسرطان والتدخين.

ويمكن القول إنه بغض النظر عن الحقائق الموضوعية أو الأدلة العلمية المتوافرة والصحيحة بشأن مخاطر فايروس كورونا، من الواضح أن القلق الذي يستحوذ على الناس، ناتج عن عدم قدرتهم على الإلمام بحقيقة ما يجري من حولهم، وفي هذه الأثناء تعمل جماعات المصالح الخاصة مثل الشركات المنتجة للسلع والجهات السياسية لخلق حالة من الارتباك والحيرة إزاء هذا الأمر، ما يدفع الناس إلى التركيز بشكلٍ كامل على هدفٍ واحدٍ أو محدودٍ، وهو الخوف من نفاذ ضروريات الحياة.

ويمكننا في هذا السياق الاستعانة بمقولة السياسي الأميركي بنجامين فرانكلين لتفسير ما هو سائد اليوم “الحيل والخداع شيمة الحمقى الذين لا يملكون عقلاً كافياً ليكونوا صريحين”.

يبدو أن الفايروسات تمارس نوعا من الخداع على الجهاز المناعي للإنسان من أجل غزو جسده، وكذلك البشر ليسوا استثناء، فهم يتخذون من الكذب والخداع تكتيكا من أجل نشر الريبة والجهل المتعمد بهدف تحقيق مكاسب معينة.

لكن يبقى السؤال مطروحا؛ هل يجعلنا التهافت على اقتناء السلع في منأى من عدوى فايروس كورونا؟ الإجابة على الأرجح لا، ألا يبدو أننا في هذه الحالة نركز على بطوننا بدلا من عقولنا للتغلب على متلازمة المحتالين، بينما الأهم من ذلك في هذا الوقت مواجهة مخاطر فايروس كورونا بشجاعة؟