يمينة حمدي تكتب:

دعونا نفكر قليلا قبل أن نوصد أبوابنا

طلبت معظم الحكومات من مواطنيها البقاء في بيوتهم وعدم مبارحتها، إلا للضرورة القصوى للحد من تفشّي فايروس كورونا، وبين عشية وضحاها أُرغم الجميع على العزلة والتباعد الاجتماعي لأجل غير معلوم، لكن ماذا عمّن لا يمتلكون جدرانا تؤويهم؟

شعار “ابق في المنزل” رغم أهميته في هذه الأوقات العصيبة التي نعيشها بسبب الفايروس المنتشر بشكل عشوائي، لا يبدو منصفا حتى وإن كان هدفه المحافظة على الصحة والصالح العام، بل لعله يحثنا على التفكير في التهديدات التي قد تحدق بالمهاجرين غير الشرعيين العالقين على الحدود، والمشردين الذين يعيشون في شوارع وأزقة المدن، دعونا نفكر ولو للحظة في هؤلاء، قبل أن نوصد أبوابنا على أنفسنا وننسى العالم من حولنا.

حقّ السكن مضمون في الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان، لكن لا يبدو أنّ كلّ الناس قادرون على التمتع بهذا الحق؛ فبينما نحن نشعر بالسعادة بالارتماء في أحضان منازلنا الدافئة، فإن نحو 70.8 مليون مشرد حول العالم، لا يمتلكون مكانا يمضون فيه يومهم، وتلك هي المأساة المروعة التي قد تترتب عليها تبعات جسيمة ليس على الفرد فحسب بل على مجتمعات بأكملها.

بالرغم من جهود بعض المؤسسات والمنظمات الخيرية لتقديم الدعم وتوفير الغذاء ومراكز إيواء للبعض من المشردين خلال فترة الحجر، تبدو كل المساعدات غير كافية لرأب شروخ عميقة أحدثها التشرد وفقدان الشعور بالانتماء إلى فضاءات لا يمتلكونها وسيكونون مجبرين على مغادرتها في أية لحظة.

إذا كان هذا الوباء خطيرا فعلا، ويصعب السيطرة عليه، فقد يُسبب عدم امتلاك مأوى اضطرابا أكبر أيضا في حياة الشرائح المهمشة في المجتمعات، مع توقف الحياة الاجتماعية، وربما التحدي الأكبر الذي قد تواجهه هذه الشرائح هو غياب الدعم العاطفي والإعانات الغذائية والمالية، التي تحتاجها بشدة، وعدم وجود أقارب أو أصدقاء يمدون إليها يد المساعدة.

عندما تحل كارثة ما، من الصعب على معظمنا تخيل ما يحدث على أرض الواقع للشرائح التي تعيش على الهامش، أو استحضار مدى فظاعة الحياة بالنسبة إليها، بسبب عدم اختبارنا لتجربة الآخر الذي لا يمتلك مالا، ولا ملجأ يلوذ إليه عند المخاطر، مادمنا لم نلمس بأنفسنا مظاهر البؤس الذي يعيش فيه.

شروخ عميقة أحدثها التشرد
شروخ عميقة أحدثها التشرّد

المسكن هو الملاذ الذي لا يمكن أن يخذلنا متى قصدناه، وهو وحده القادر على منحنا الإحساس بالأمان أكثر من أي شيء آخر، وهذا الشعور يعرفه الكثيرون مثلي ممن يمثل البيت محور حياتهم، ويشعرون الآن بالأمان في ديارهم.

هناك الكثير من الدراسات التي تجرى بشأن فوائد امتلاك المرء لمسكن، وتأثير ذلك على سعادته. فالناس يكونون أكثر سعادة -بصفة عامةً- عندما يشترون أو يشيدون منزلا خاصا بهم. وبالرغم من أن هذه السعادة تشكل مفهوما واسع النطاق وفضفاضا للغاية، تمكن العلماء من قياس الكثير من العواطف الإيجابية لامتلاك الناس منازلَ، فضلاً عن الفوائد الفسيولوجية والنفسية ومدى الشعور بالرضا في الحياة.

ورغم الأوقات الصعبة التي نمر بها الآن وقساوة العزلة الاجتماعية، فإن تواجدنا في منازلنا يخلق لدينا شيئا من التوازن النفسي ويشعرنا بالأمان.

ولعل البعض منا يستحضر المقولة الرائعة والمعبرة التي وردت على لسان الكاتب المسرحي الأميركي تشانينغ بولوك “البيت سيظل أفضل الأماكن على كوكب الأرض”.

ثمة دوافع نفسية تشعرنا بأننا متصلون بالمنزل، فهناك الكثير من التجارب الثقافية والشخصية التي تحتويها منازلنا، وتحلو لنا العودة إليها من حين لآخر لتثبيت جذورنا واستعادة توازننا.

وعندما نشعر بالحزن أو القلق أو نخاف من أمر ما، تحدونا رغبة عارمة في العودة إلى المنزل، حتى يهدأ روعنا، وليس من السهل أن نفقد هذا الوعي الفطري بالمنزل، لأنه يرتبط ارتباطا وثيقا بإحساسنا بذواتنا، وهويتنا الشخصية التي تتشكل بمرور الوقت عن طريق الذكريات التي يصنعها كل ركن في البيت الذي نسكنه.

أعتقد أن جميع البشر في أمس الحاجة إلى هذا الارتباط العاطفي، الذي يعكسه المنزل والعلاقات الأسرية، وكلما زاد الوقت الذي نقضيه هذه الأيام في أرجاء منازلنا، فإنه يجب أن يعلمنا أيضا كيف نكون رمزا للعطاء لأولئك الذين يفتقدون المنزل والحب.