يوسف الديني يكتب:

الميليشيات الإرهابية وداعموها يخلعون الكمامات في ليبيا

اليوم مع الأنباء عن تراجع حالات التفشي في أجزاء محددة من العالم، تعود الأضواء مجدداً إلى شبح الإرهاب؛ الفيروس الذي لا يختلف أحد في كونه نتيجة تخطيط وتمويل واستغلال دول بعينها تستثمر فيه لتكريس مشروعها التوسعي، كما هي الحال مع الدول الراعية للتنظيمات المتطرفة من إيران إلى نظام إردوغان، وإعلام «الجزيرة» بقطر، الذي اختزل مفهوم الدولة، وغيرهم من الحلفاء الطامحين إلى تمكين الميليشيات المسلحة والتنظيمات المتطرفة وفلول الغاضبين من فشل مشروع الإسلام السياسي، المنتقلين إلى مربع العنف، وتبدو الساحة الليبية اليوم بؤرة انتشار تفشي الإرهاب، بعد انحساره عن مناطق التوتر التقليدية خلال السنوات الماضية.

بالأمس أعلنت وحدات القوات المسلحة العربية الليبية في محاور طرابلس، إلقاء القبض على «الداعشي» السوري محمد الرويضاني، المكنى «أبو بكر الرويضاني»، أحد أخطر عناصر «داعش» في سوريا. وفي التفاصيل تم نقل الرويضاني مع المئات من «الدواعش»، الذين تحولوا إلى ميليشيات مرتزقة يتم شحنها ونقلها بعيداً عن مناطق الصراع التي ولدت فيها، وكانت المحطة المثالية ليبيا، التي يبدو أن قيادات التطرف ومناصريه في العالم يخلعون كماماتهم بشكل سافر هذه الأيام، في دعم تفشي الإرهاب العابر للدول والمقوض لاستقرارها، وكان آخر تلك الانكشافات المخجلة تهنئة الغنوشي التونسي، الذي لم يستطع السيطرة على دوافعه الآيديولوجية، ليخترق أبسط قواعد العمل السياسي المؤسسي، مما استدعى تعليق الرئيس التونسي، بشكل صريح، في محاولة لاستعادة منطق الدولة وسيادتها الذي لا يؤمن به معسكر الداعمين للتطرف المسلح العابر للحدود، الذي يعيش اليوم حالة من استثمار الفوضى في ليبيا.

التقارير حتى الآن تؤكد سقوط مئات القتلى والأسرى من المقاتلين القادمين من سوريا في معسكر اليرموك، وحسب «المرصد السوري» فإن إردوغان قرر نقل غالبية مقاتلي الفصائل الموالية لها في منطقة عفرين إلى ليبيا، بينما كشف تقرير «سري» أعده خبراء في الأمم المتحدة عن مهمة «خاصة» لقوات أجنبية في ليبيا لاعتراض إمدادات تركية بالأسلحة لحكومة طرابلس. حسب التقرير، تم التخطيط للعملية، وتنفيذها في ثماني دول، وشاركت فيها مروحيات وقوارب عسكرية.

كل شيء في ليبيا يبعث على الحيرة والذهول والشك، بدءاً من صمت المجتمع الدولي، إلى لا اكتراث الفاعلين في المجتمعات الإسلامية من المنظمات والتيارات، وصولاً إلى الحالة الليبية ذاتها التي كان يعتقد أنه بعد سقوط نظام القذافي سيهرع الشعب إلى صيغة توافقية، بما أنه من الشعوب القليلة التي تحظى بعدد سكان قليل (مساحة ليبيا نحو مليون كيلو متر و700 ألف كيلو متر مربع، ويقطنها نحو 6 ملايين نسمة، منهم 1.5 مليون من الوافدين إليها بغرض العمل)؛ وإمكانات اقتصادية واعدة، وقرب جغرافي من أوروبا، إضافة إلى عدم وجود صيغ إثنية وطائفية يمكن لها أن تلعب دوراً في إيقاظ فتيل الأزمات، لكن ما حدث هو أننا أمام أكبر ظاهرة انشقاق ما بعد «الربيع العربي» وانفجار للأوضاع، كلما هدأت ليس بفعل الخلاف السياسي على كعكة الدولة، وإنما اقتسام للغنيمة بقوة السلاح من ميليشيات ومجموعات مسلحة عسكرية جهوية وصغيرة، تحاول تفجير الوضع، كلما اقترب من الحل، أو شرع الليبيون في العبور بأزمتهم إلى استقرار الدولة. كل هذا أجج بفعل تنظيم «الإخوان»، للقبض على زمام الأمور في البلاد.

في ليبيا، اليوم، كمفارقة مضافة أيضاً إلى المفارقات الأخرى، هناك أكبر عملية تصدير للمقاتلين والإرهابيين إلى دول الجوار وشمال أفريقيا، بعد أن تحول الداخل الليبي إلى معسكرات تجنيد واستقطاب. وحسب تقرير هارلون زيلين من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» ومؤسس الموقع الشهير «جهادولوجي» (http:--jihadology.net)، فقد «أصبح تدفق المقاتلين الأجانب إلى ليبيا رابع أكبر حشد (للمقاتلين) في التاريخ الجهادي، بعد الحرب في سوريا، والجهاد الأفغاني في الثمانينات، وحرب العراق عام 2003 فقط».

ليبيا اليوم للأسف باتت بؤرة الهجرة الكبرى للكوادر الإرهابية، لعدة أسباب تتصل بطبيعة موقعها، وتاريخ مقاتليها في «المسيرة الجهادية» منذ أفغانستان، والتجانس بين مكونات الشعب الليبي على مستوى حالة التدين وغياب الطائفية، ومن ثم إمكانية استغلال النزعات المناطقية، إضافة إلى وجود ثلاث ولايات معلنة للتنظيم في الأراضي الليبية؛ برقة وطرابلس وفزان، والأراضي المفتوحة في الصحراء الليبية، وحتى بعد خسارة التنظيم من استرجاع مدينة سرت، والسيطرة على الموارد التي كانت بيد التنظيم، عاد إلى أسلوبه القديم المحبب، وهو حرب العصابات، واتخاذ ليبيا موقعاً ملائماً للتجنيد وشن هجمات على أوروبا واستقبال المقاتلين القادمين منها.

في ليبيا، اليوم، الأزمة تستغل صراع البقاء في العالم ما بعد «كورونا»، وستساهم الحرب الباردة الوشيكة بين الصين والولايات المتحدة في تأزيم الأوضاع، والمزيد من التشظي الدولي، والغفلة، وصراع المحاور والاستقطابات الجيوسياسية في دعم طرف على آخر، وهو ما يعني ولادة أجيال جديدة في كنف الميليشيات والفوضى ستساهم تردي الأوضاع الاقتصادية أن تتحول إلى صيد سهل ومطواع يقع سريعاً بفخ الخطابات الشعاراتية الثورية، ولو بمضامين دينية، وحينها لن يكون فيروس الإرهاب موجة عابرة، بل وباءً قابلاً للتمدد والبقاء والتدمير من دون أن تسعف الكمامات أحداً.