خير الله خير الله يكتب:

فنّ لبناني اسمه تحويل الانتصار إلى هزيمة

لا يزال لبنان في حال هرب مستمرّ من واقع المأساة التي يعيشها. لب هذه المأساة رفض مواجهة الحقيقة والبديهيات والاعتراف بأنّ ليس في الإمكان قيام دولة حديثة في ظلّ سلاح غير شرعي تستخدمه ميليشيا مذهبية تابعة لإيران من أجل فرض أجندتها على البلد.

لا يدلّ على عمق المأساة اللبنانية أكثر من الذكرى العشرين للانسحاب الإسرائيلي من الشريط الحدودي من الجنوب تنفيذا للقرار الرقم 425 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العام 1978.

احتفل لبنان بمرور عشرين عاما على الانسحاب فيما مصيره في مهبّ الريح وفي ظلّ انهيار اقتصادي لم يشهد البلد مثيلا له في تاريخه الحديث. يمتد هذا التاريخ إلى العام 1920 تاريخ إعلان لبنان الكبير.

يصعب تصديق أنّ لبنان أضاع كلّ الفرص التي أتيحت له وحوّل الانسحاب إلى هزيمة له. ليس مفهوما لماذا إصرار اللبنانيين بكلّ هذه القوّة على الضحك على أنفسهم. إنّه فن لبناني بحدّ ذاته لا تفسّره سوى تلك الرغبة غير المبررة في الانتحار والقضاء على بلد كان في الماضي مزدهرا ومتطورا على كلّ الصعد. ترمز إلى ذلك الجامعة الأميركية في بيروت التي صار عمرها 154 عاما بالتمام والكمال والتي تواجه حاليا أزمة مالية حقيقية.

طوال عشرين عاما، عمل لبنان على تدمير نفسه بدل فتح آفاق جديدة أمام الانصراف إلى متابعة مشروع الإنماء والإعمار وتكريس القدرة على استعادة البلد لعافيته؟ لم يحصل شيء من ذلك. انسحبت إسرائيل في السنة 2000 لأسباب خاصة بها. يمكن الدخول في جدل طويل في شأن الأسباب الحقيقية للانسحاب الإسرائيلي وخلفياته. كذلك، يمكن اعتبار أنّ “حزب الله”، الذي كان يقاوم الاحتلال الإسرائيلي، حقّق انتصارا كبيرا.

لماذا لم يستفد لبنان من الانسحاب ومن اعتراف مجلس الأمن بأن إسرائيل نفّذت القرار 425 وانسحبت إلى ما يسمّي “الخط الأزرق”… أم كلّ ما في الأمر أن “حزب الله” انتصر على لبنان وحوّله إلى ورقة إيرانية؟

يظلّ السؤال الكبير كيف يستطيع لبنان تحويل الانتصار إلى هزيمة؟ يبدو أن هذا الأمر فنّ بحدّ ذاته. إنّه فنّ لا يمتلكه سوى اللبنانيين. يمتلكه “حزب الله” على وجه الخصوص، الذي لا يعرف أن الانتصار على لبنان وجعله في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني لا يعني انتصارا من أيّ نوع على إسرائيل.

بدل أن يكون الانتصار انتصارا لبنانيا، تحوّل الانسحاب إلى انتصار لـ”حزب الله”، ومن خلفه النظام السوري وإيران اللذين استطاعا إبقاء لبنان، خصوصا جنوبه، في أسر الوصاية المشتركة تمهيدا للوصول إلى الوصاية الأحادية في نيسان – أبريل من العام 2005.

وقتذاك، انسحب الجيش السوري وأجهزته الأمنية من الأراضي اللبنانية نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. ترك هذا الانسحاب لإيران ملء الفراغ الأمني في لبنان، وهذا ما سارع “حزب الله” إلى عمله بصفة كونه أحد ألوية “الحرس الثوري” الإيراني لا أكثر…

بعد عشرين عاما على الانسحاب الإسرائيلي، أين إسرائيل وأين لبنان؟ تستعد إسرائيل حاليا لتكريس احتلالها لجزء من الضفّة الغربية وللأغوار بعدما انتهت من ضمّ القدس التي انتقلت إليها السفارة الأميركية في عهد دونالد ترامب. لم تكن لدى إسرائيل أهداف محددة في جنوب لبنان وذلك في مرحلة ما بعد حرب صيف العام 1982. وجدت وقتذاك أنّ ثمن بقائها فيه سيكلّفها مقتل عدد من جنودها سنويا.. ففضّلت الانسحاب.

في المقابل، قررت التمسّك بالبقاء في الضفّة الغربية، بغض النظر عن عدد الجنود الذين ستفقدهم فيها، في ضوء امتلاكها هدفا واضحا محدّدا جدا وبدقّة. هذا ما يتأكّد اليوم في ظلّ استعداد أميركي لقبول ما تطالب به إسرائيل.

لعلّ أقصى ما يمكن أن تطالب به إدارة دونالد ترامب يتمثّل في تأخير ضمّ “حكومة الطوارئ”، برئاسة بنيامين نتنياهو، المستوطنات المئة وثلاثين مستوطنة التي أنشئت في الضفة المحتلّة.

بدل أن يفهم لبنان أن عليه الاستفادة إلى أبعد حدود من الانسحاب الإسرائيلي، إذا به يجد من يختلق قضيّة مزارع شبعا لتبرير بقاء سلاح “المقاومة”، وهو سلاح موجّه إلى صدور اللبنانيين العزل خدمة لمشروع سوري – إيراني في البداية ما لبث أن تحوّل إلى مشروع إيراني لا أفق له سوى تدمير البلد على أبنائه وإنهاء دوره المميز في المنطقة.

كان الانسحاب الإسرائيلي أحد المنعطفات المهمّة التي مرّ فيها لبنان في قرن من الزمن، لكنّه من أكثر المنعطفات خطورة نظرا إلى أنّه كشف مدى عدوانية المشروع التوسّعي الإيراني الذي يستهدف لبنان مباشرة عبر الرغبة في تغيير طبيعة المجتمع الشيعي وصولا إلى تغيير طبيعة البلد بكلّ طوائفه ومذاهبه ومناطقه. لا يوجد دليل على ذلك أفضل من الخطاب الذي ألقاه في مناسبة عيد الفطر المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان. نسف المفتي فكرة لبنان من أساسها. أعاد إلى الأذهان البيان التأسيسي لـ”حزب الله” الذي ورد فيه: “نواجه النظام القائم في لبنان لكونه صنيعة الاستكبار العالمي وجزءا من الخارطة السياسية المعادية للإسلام ولكونه تركيبة ظالمة في أساسها لا ينفع معها أي إصلاح أو ترقيع، بل لا بد من تغييرها من جذورها”.

من أسوأ ما حصل في السنوات العشرين الماضية، إضافة إلى أن “حزب الله” صار من يقرّر من هو رئيس الجمهورية المسيحي ورئيس مجلس الوزراء السنّي، انهيار النظام المصرفي اللبناني وبداية انهيار النظام التعليمي. أن يقرّر “حزب الله” من هو رئيس الجمهورية ومن هو رئيس الوزراء، في خطورة توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969.

يبقى أن الطامة الكبرى في لبنان غياب من يقول الأشياء كما هي، بما في ذلك أن لبنان لم يستطع الاستفادة من الانسحاب الإسرائيلي لأسباب أكثر من معروفة. في مقدّم هذه الأسباب أن لبنان لم يعد يمتلك في أيّامنا هذه قيادة سياسية قادرة على التحذير بالصوت الملآن، بلسان المسيحيين قبل المسلمين، من خطورة أي سلاح غير شرعي على بلدهم ومستقبله. كان المسيحيون في الماضي قدوة في هذا المجال. باتوا حاليا، باستثناءات قليلة جدّا، أسرى الوصول إلى رئاسة الجمهورية بفضل “حزب الله” ولا أحد غيره.

يحصد لبنان حاليا نتيجة رفع شعار من نوع “الشعب، الجيش، المقاومة”، وهو الشعار الذي قاد إلى الكارثة الحالية.. كارثة إفقار لبنان واللبنانيين ودفع الشباب إلى هجرة جماعية على غرار تلك حدثت في الأعوام 1988 و1989 و1990 عندما أقام ميشال عون للمرّة الأولى في القصر الجمهوري.