خير الله خير الله يكتب:

السعوديّة واليمن… وأميركا وإيران

لعلّ أهمّ ما ميّز الحديث الأخير للأمير محمّد بن سلمان وليّ العهد السعودي تلك اللهجة التصالحيّة مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وتأكيد أن المملكة العربيّة السعودية تسعى إلى علاقات جيّدة معها إذ قال “إن السعودية تنظر إلى إيران بصفة كونها دولة جارة” مشيرا إلى أن الرياض “تطمح إلى تكوين علاقات جيدة معها، لكن المشكلة في سلوك طهران السلبي سواء عبر برنامجها النووي أو دعم ميليشيات خارجة عن القانون”.

يعكس كلام وليّ العهد السعودي، كذلك إشارته إلى اليمن وعلاقة الحوثيين بإيران من دون استبعاده الجلوس مع الحوثيين إلى طاولة المفاوضات، إلى أن المملكة تتعاطى مع الواقع. قد يكون التعاطي مع الواقع وراء الاجتماعات السعوديّة – الإيرانية التي انعقدت في بغداد وما يقال عن اجتماعات أميركية – سعوديّة – إيرانية شارك فيها وليم بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركيّة (سي. آي. إي) الذي قام بزيارة إلى العاصمة العراقيّة أحيطت بالسرّية ولم تكشف عنها وسائل إعلام أميركية إلّا بعد حصولها. تشير هذه الزيارة إلى أنّ إدارة جو بايدن غير مستعدّة للتوصل إلى اتفاق جديد مع إيران في شأن ملفّها النووي من دون مشاركة أطراف إقليميّة أخرى وإطلاعها على ما يدور بين واشنطن وطهران.

تختلف إدارة بايدن في هذه النقطة عن إدارة أوباما التي حصرت المفاوضات السرّية مع إيران بها. أجري معظم هذه المفاوضات في سلطنة عُمان التي لا تزال تلعب دورا متميّزا في الوقت الحاضر في التقريب بين السعودية والحوثيين عن طريق جهود يبذلها المبعوث الأميركي إلى اليمن تيموثي ليندركينغ.

ثمّة معلومات تؤكّد التوصل إلى اتفاق بين السعوديين والحوثيين في شأن وقف شامل لإطلاق النار وذلك في موازاة المبادرة التي أعلنت عنها المملكة في العشرين من آذار – مارس الماضي. لم تتحدّث المبادرة السعوديّة عن وقف شامل لإطلاق النار فحسب، بل تحدّثت أيضا عن رفع جزئي للحصار عن مطار صنعاء وميناء الحديدة. ما كشفه تطوّر الأحداث أن القرار الحوثي قرار إيراني أوّلا وأخيرا، إذ سارع حسن إيرول الضابط في “الحرس الثوري” الإيراني المقيم في صنعاء إلى رفض المبادرة السعوديّة مع ما يعنيه ذلك من اعتراض إيراني على أيّ اتفاق تتوصّل إليه الرياض مع الحوثيين.

يظهر، من خلال زيارة مدير الـ”سي. آي. إي” إلى بغداد أن إدارة بايدن لن تقدم على أيّ خطوة في اتجاه إيران من دون تشاور مع حلفائها الخليجيين. في النهاية، فإنّ وليم بيرنز ليس شخصا عاديا في ضوء الدور الذي لعبه في عهد أوباما في التوصل إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني. يعرف بيرنز تماما هذا الملفّ بأدق تفاصيله ويوليه أهمّية كبيرة. أكثر ما يدلّ على ذلك أن عنوان كتابه الذي صدر قبل سنوات عدّة، وكان نوعا من المذكرات، كان “القناة الخلفيّة”. أراد أن يؤكّد بذلك أن من أهم ما قام به خلال سنوات طويلة أمضاها في الخارجية الأميركية كان إنشاء تلك القناة الخلفيّة مع إيران في مرحلة ما قبل التوصل إلى الاتفاق النووي صيف العام 2015 قبل أشهر قليلة من مغادرة باراك أوباما البيت الأبيض.
من المفيد العودة إلى حديث محمّد بن سلمان للتوقف عند نقطة مهمّة هي العلاقة الأميركية – السعودية وإشارته إلى تفاهم بين الجانبين بنسبة تسعين في المئة مع ما يعنيه ذلك من رغبة سعودية في اعتماد الصراحة والشفافيّة بين الجانبين. لكن يبقى الأهمّ من ذلك كلّه السؤال المطروح في شأن إيران وما تنوي عمله. هل صحيح أنّها مستعدة للدخول في مفاوضات مع الجانب الأميركي تشمل بين ما تشمل برنامجها النووي وصواريخها الباليستية وسلوكها في المنطقة، وهو سلوك لا يطمئن إطلاقا، خصوصا في ضوء ما مارسته، وما زالت تمارسه، ميليشياتها في العراق وسوريا ولبنان… واليمن.

لدى إيران فرصة كي تؤكّد أنّها قادرة، بنظامها الحالي، على أن تكون عامل استقرار في المنطقة، خصوصا أن إدارة بايدن تؤكّد يوما بعد يوم استعدادها لإيجاد صيغة اتفاق تشمل إعادة الحياة إلى الاتفاق في شأن ملفّها النووي في إطار أكثر شمولا يأخذ في الاعتبار عوامل أخرى بينها الصواريخ والسلوك الإيراني خارج حدود “الجمهوريّة الإسلاميّة”.

ثمّة مكان تستطيع إيران أن تظهر فيه أنّها ستتعاطى مع أميركا ومع دول الجوار بحسن نيّة. هذا المكان هو مدينة مأرب والمنطقة المحيطة بها التي تصر “الجمهورية الإسلاميّة” على السيطرة عليها وذلك قبل السماح للحوثيين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات.

تستخدم إيران حاليا الهجمات التي تتم عن طريق الموجات البشريّة للاستيلاء على مأرب. يدفع اليمنيون المساكين الذين جيّشهم الحوثيّون الثمن. يمتلك الحوثيون القدرة على الإتيان بالمزيد من المقاتلين من أجل شن المزيد من العمليات الانتحارية في حين يبدو أن سلاح الجوّ التابع للتحالف العربي استطاع إلى الآن مساعدة “الشرعيّة” اليمنية في صدّ الهجمات على مأرب نفسها.

تعتقد إيران أن سقوط مأرب سيعني أنّه صار لدى الحوثيين دولة متكاملة قابلة للحياة، لديها موارد طبيعية، خصوصا أن في مأرب معامل كهرباء وسدّ للمياه وثروة نفطية وخط أنابيب يمتدّ إلى ميناء الحديدة.

مثلما أن لبنان صار ورقة في الجيب الإيراني، تريد إيران أن تكون الدولة الحوثية في شمال اليمن ورقة أخرى تستخدمها في أيّ مفاوضات مع الولايات المتّحدة ودول الجوار. وهذا ما يفسّر إلى حد كبير ذلك الإصرار على تحقيق انتصار في مأرب في هذه الأيّام بالذات.

تبدو المعادلة اليمنيّة في غاية التعقيد، حتّى على إيران نفسها التي ترفض الاعتراف بأن أيام باراك أوباما ولّت إلى غير رجعة. ما لم تستوعبه إيران، على الرغم من أنّ استثمارها في اليمن لم يكلّفها الكثير، أنّه مثلما أن لا فائدة تذكر من “الشرعيّة” اليمنيّة القائمة من دون إعادة تشكيل لها، لا يستطيع الحوثيون أن يكونوا دولة. يستطيع هؤلاء، الذين يسمّون نفسهم “جماعة أنصارالله”، أن يكونوا جزءا من دولة. وهذا ما يفهم من كلام محمّد بن سلمان. إنّهم جزء لا يتجزّأ من التركيبة اليمنية التي لا يستطيع فيها أحد إلغاء أحد. إذا فهمت إيران هذا الواقع واستوعبته يمكن أن يكون للقاءات التي حصلت في بغداد أفق سياسي ما إن بالنسبة إلى العلاقات الأميركية – الإيرانية أو السعوديّة – الإيرانيّة.