خير الله خير الله يكتب:

معطيات جديدة على أرض فلسطين

ليس معروفا ما الذي تريده حركة “حماس”. المعروف فقط أن خياراتها لن تأخذ القضيّة الفلسطينية إلى أيّ مكان باستثناء المزيد من الخراب. هذا يعود أصلا إلى أن موازين القوى في المنطقة والعالم لا تسمح بانتصار لـ”حماس” على إسرائيل. كلّ ما تسمح به موازين القوى هذه هو تحويل قطاع غزّة إلى سجن كبير في الهواء الطلق لمليوني فلسطيني.

سيتوجب على الفلسطينيين إنتاج قيادة جديدة مختلفة، كما سيكون عليهم انتظار وقت طويل قبل التوصّل إلى تسوية معقولة ومقبولة تأخذ في الاعتبار أنّ لا مفرّ من قيام دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية، لا مكان فيها للشعارات الفضفاضة من نوع “فلسطين وقف إسلامي”. هذه شعارات استخدمتها إسرائيل أفضل استخدام في مشروعها التوسّعي الذي اعتمد منذ سنوات طويلة على “حماس” وسلوكها.

وضع الشعب الفلسطيني قضيّته في الواجهة مرّة أخرى. استطاع ذلك بفضل انتفاضة أهل القدس قبل أيّ شيء آخر. لم تكن صواريخ “حماس” من غزّة سوى عملية خطف لقضية أعاد أهل القدس إليها الحياة. انتفض أهل القدس في مواجهة محاولة إسرائيلية للاستيلاء على منازل في حي الشيخ جراح. وقف العالم كله متعاطفا مع الفلسطينيين الذين باتوا يعرفون درجة الإفلاس السياسي والمعنوي التي بلغتها السلطة الوطنيّة برئاسة محمود عباس (أبومازن) الذي لم يعد لديه من همّ سوى البقاء رئيسا مدى الحياة…

هذه ليست المرّة الأولى التي تمارس فيها “حماس” عمليّة خطف تصبّ في ضرب القضيّة الفلسطينية في الصميم. فقد سبق أن فعلت ذلك منذ تأسيسها وذلك بغرض واضح يتمثّل في إفشال المشروع الوطني الفلسطيني الذي قام على خيار الدولتين والذي أخذ بعدا جديدا بعد اتفاق أوسلو بحسناته وسيئاته.

لا حاجة إلى الذهاب بعيدا للتأكّد من الدور الذي لعبته “حماس” في أخذ المجتمع الإسرائيلي إلى اليمين عن طريق العمليّات الانتحارية التي لجأت إليها بعد أوسلو كي تقول للإسرائيليين إن هناك بين الفلسطينيين من يدعم ييغال عمير قاتل إسحاق رابين في تشرين الثاني – نوفمبر 1995 وقبل ذلك المتطرّف اليهودي باروخ غولدشتاين الذي نفّذ مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل في فبراير – شباط من العام 1994.

بعد نجاحها في القضاء على أيّ أمل في تحقيق تقدّم بعد توقيع اتفاق أوسلو، وضعت “حماس” يدها على غزّة في حزيران – يونيو 2007. فوّتت قبل ذلك، إحدى أهمّ الفرص التي برزت أمام الفلسطينيين كي يعيدوا ترتيب وضعهم الداخلي وتأكيد أنّهم يستحقون دولة مستقلّة. ففي آب – أغسطس 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزّة كلّه إلى الحدود الدولية المتعارف عليها. لم تأخذ “حماس” في الاعتبار الهدف الإسرائيلي من الانسحاب من غزّة، وهو هدف لم يخفه دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون الذي قال وقتذاك في حديث إلى صحيفة “هآرتس” كلاما واضحا كلّ الوضوح. كشف فايسغلاس، في الحديث الذي يشرح فيه ظروف الانسحاب من غزّة، أن الانسحاب من القطاع يسمح لإسرائيل بإحكام قبضتها على الضفة الغربية ومتابعة الاستيطان فيها، فضلا عن محاصرة القدس الشرقية المحتلة وعزلها عن محيطها الفلسطيني.

لبّت “حماس” كل المطالب الإسرائيلية. لم تكتف، مع بعض جهابذة السلطة الوطنية الذين سكت عنهم “أبومازن”، في نهب ما كان في المستوطنات الإسرائيلية التي انسحبت منها إسرائيل. بدل الاستفادة من أشياء كثيرة كانت في تلك المستوطنات، مثل نظام الريّ الزراعي المتطوّر، ذهبت “حماس” إلى أبعد من ذلك. راحت الحركة تطلق الصواريخ وتتحدّث عن “تحرير فلسطين من البحر إلى النهر”. استفادت “حماس” إلى أبعد حدود من غياب الصفات القيادية لدى “أبومازن”. نشرت ثقافة فوضى السلاح والتهريب في غزّة تمهيدا لانقلابها الكبير على “فتح” بكلّ رموزها الحيّة وتلك التي غيّبها الموت، بما في ذلك ياسر عرفات وخليل الوزير (أبوجهاد).

خاضت “حماس” سلسلة من الحروب مع إسرائيل وصار قطاع غزّة تحت الحصار فيما العالم يتفرّج. لا يناسب إسرائيل أحد أكثر من “حماس” ولا يناسب “حماس” أحد أكثر من إسرائيل.

هذا كان في الماضي. هناك الآن معطيات جديدة على الأرض في فلسطين. بين هذه المعطيات العامل الإيراني ودفع “الجمهورية الإسلامية” “حماس” في اتجاه إطلاق الصواريخ من غزّة. هناك أيضا عامل ترهّل السلطة الوطنية وظهورها في مظهر العاجز عن أي تأثير في الأحداث. في النهاية أين قدرة “أبومازن” على التأثير في قرار “حماس”؟ لا وجود لأي قدرة من أيّ نوع في هذا المجال. هناك حسابات إيرانية لا تستطيع “حماس” سوى التزامها.

قد يكون المعطى الأهمّ ما الذي ستفعله إسرائيل وإلى أي حدّ ستذهب في حربها على “حماس” بعد إدراكها متأخّرة أن السحر انقلب على الساحر؟ هذا السؤال يطرح نفسه بحدّة بعدما وصلت صواريخ “حماس” إلى تل أبيب وحملت إسرائيل على إغلاق مطار بن غوريون في اللد.

لا شكّ أن المرحلة المقبلة ستكون حافلة بالتطورات، خصوصا أنّ على إسرائيل استرداد ما يعتبر أهمّ ما فقدته، أي القدرة على الردع. هذا يعني، في طبيعة الحال، أن غزة ستدفع ثمنا كبيرا بسبب الصواريخ. ستدفع “حماس” ثمنا كبيرا بسبب حاجة اليمين الإسرائيلي، الذي التف مجدّدا حول بنيامين نتنياهو، إلى إظهار أن الوحشية تأتي بثمارها وأن لا مانع من ممارسة إرهاب الدولة.

لا يدرك اليمين الإسرائيلي أن مثل هذه السياسة التي يتبعها والتي أوصلت إلى صدامات مع فلسطينيي الداخل، في اللد وحيفا وعكا وأماكن أخرى، لا يمكن أن تنتصر مهما فعلت “حماس” من أجل تسهيل مهمته. لن تنتصر مثل هذه السياسة مهما فعلت “حماس” من أجل إنقاذ المستقبل السياسي لـ”بيبي” نتنياهو الذي يرفض الاعتراف بوجود شعب فلسطيني.

ما يدعو إلى التفاؤل، وإن بحذر في المستقبل الطويل، أن الحلف غير المقدس بين اليمين الإسرائيلي و”حماس” لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية. سيتوجب على إسرائيل إدخال تعديل جذري على سياستها. لا يعود ذلك إلى اكتشافها أن صواريخ “حماس” أكثر دقّة مما تعتقد فحسب، بل اكتشفت أيضا أن القدس الشرقية مدينة فلسطينية وعربية مهما فعلت من أجل تهويدها وعزلها وذلك بغض النظر عن الدعم الأميركي لهذا التصرّف الأحمق!