يوسف الديني يكتب:
سلطة الجماهير: التبرير للأصولية وانتهازيتها
لم يكن ثمة خلاف وحق له أن لا يكون في عدالة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، لكن استثمار تلك العدالة في تمرير مشاريع آيديولوجية وانقلابية ومحاولة شرعنة أعمال التنظيمات المسلحة والمتطرفة ليس إلا محاولات منح تذكرة مجانية لتنشيط «الإرهاب» وأفكاره ومموليه من جديد، خصوصاً مع تجدد استهداف دول الاعتدال وفي مقدمتها السعودية على تمسكها الدائم بمنطق الدولة لا النزول إلى صخب الميليشيا والإعلام الغوغائي الذي يحاول الاستثمار لصالحه عبر فلسطين من قنوات التضليل السياسي وصولاً إلى الصراع الجديد الذي تتنافس فيه التطبيقات الخاصة بـ«السوشيال ميديا» في لعب أدوار سياسية بحسب انتماءات الجهات التي تقف وراءها.
الأكيد أن موقف السعودية منذ تأسيسها بدعم القضية الفلسطينية سياسياً ومالياً وشعبياً، منذ مؤتمر لندن 1953، بموقف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان إزاء منع المصلين من الصلاة في المسجد الأقصى وإلى التأكيدات الأخيرة للقيادة السعودية بتجدد دعمها لفلسطين والفلسطينيين من دون أقواس، ما يعني رفض اختزال هذه القضية العادلة في ذلك التنظيم أو الفصيل، وهو ما يعني أيضاً في قراءة سياسية أخرى أنه دعم ليس له دوافع مصلحية أو كغيره من مشاريع الاستثمار الشعاراتي في فلسطين، كما تفعل بعض الدول والقنوات والتيارات، التي تمعن في ترسيخ مبدأ البراغماتية السياسي في أبشع صوره.
الصراع بين تلك الدول والتنظيمات الانتهازية المستثمرة في عدالة القضية الفلسطينية في جوهره، صراع على الشرعية والمعنى وكسب أكبر قدر من كعكة الجماهير المتعاطفة مع فلسطين من أجل إنعاش «الأصولية» من جديد... التيار المقوض لفضيلة الاستقرار والمشاريع المضادة لمنطق الدولة الذي يهدف إلى صناعة «المستقبل».
المعضلة اليوم أن صراع الشرعية تحول إلى مسابقات التبرير والاعتذار، وتجلت تلك المحاولات الحثيثة في مسرحة الحدث السياسي الأبرز، وهو تودد منصور عباس من جماعة «الإخوان المسلمين» في صورة صادمة لجماهير الإسلام السياسي وأنصار «حماس» بجوار زعيم يهودي من اليمين المتطرف، وذلك بعد لحظات فقط من الموافقة على توليه رئاسة الوزراء ومنحه أغلبية حاكمة في البرلمان.
الصدمة ارتبطت فقط باللحظة كما هو الحال مع التفاعل مع القضية الفلسطينية والقدس... هو تفاعل لحظي مقتبس من طغيان الصورة وبرامج «السوشيال ميديا» الذي غير المشهد السياسي والإعلامي، فنجد التغريدة السياسية والخبر الإعلامي الذي يتصدر النشرات فحسب لمجرد غرابته، بينما يدرك من خبر «الإخوان» منذ لحظة التأسيس أن جزءاً من مرونة البراغماتية لديهم هو الجانب السياسي المتناقض مع الشعارات العقائدية التي تضمن بقاء الجماهير، ومراجعة صغيرة لأي مهتم بتاريخ علاقة «الإخوان» بالدول الغربية «الاستعمارية» كما يتم وصفها للجماهير، سيذهل من حجم التفاصيل والتلون والمرونة المتناقضة مع ذلك التلبس والالتباس للديني والسياسي مع الآيديولوجي والعقائدي، وقد رصد جزء منها في مجلدين قرابة الألف صفحة الباحث البروفسور مارتن فرامبتن أستاذ التاريخ الحديث بجامعة كوين ماري بلندن بعنوان «الإخوان وأكذوبة العداء».
فيما يخص علاقة الإسلام السياسي و«الإخوان» بإسرائيل فمن المعلوم أن الجماعة كان لها ذراع تأسس في إسرائيل مبكراً بمبادرة من عبد الله نمر درويش الذي ولد في عام النكسة 1948 في كفر قاسم، وكان أهم شخصية مؤسسة لنشاط الإسلام السياسي داخل الأراضي الفلسطينية مرتبطة بشكل مباشر بحركة «الإخوان المسلمين».
الإشكالية دائماً هي قراءة الأصولية ونقدها أيضاً بشكل تبجيلي، سواء على مستوى التبرير أو الصدمة من قبل الجماهير، إلا أن الأصولية رغم كونها آيديولوجيا مغلقة، هي أحد أشد الأنماط الفكرية عداء لفكرة التعددية، والأصولي يعتبر الحقيقة التي يعبر عنها مطلقة ومتعالية على الواقع، حتى لو اقتضت الممارسة المصلحية (البراغماتية) التنازل مع الخصوم على مستوى الوسائل، لا الغايات، ومن هنا تبدو الأصولية أكثر الأفكار إحرازاً للتقدم في زمن الاضطرابات السياسية والاحتجاجات التي تتخذ شكل الثورة أو تتوسلها باتجاه الفوضى، هذا التقدم ليس معبراً بشكل حقيقي عن قوة الأصولية على الأرض أو الواقع، حيث لا تشكل رقماً كبيراً في بعض البلدان أو تكون قارة وكامنة في شبكاتها الاجتماعية الضيقة المنعزلة في نماذج أخرى، لكن سبب تقدمها هو منطقها، تلك اليقينية الباذخة في حديثها، وهذا ما تحتاج إليه الحشود الحائرة في معركة التغيير نحو الأفضل، وأقرب مثال على ذلك هو المشروع العظيم الذي قام به ولي العهد السعودي عراب الرؤية في القطيعة مع الأصولية والتطرف وصدمة قطاعات واسعة من المجتمع أن البعبع الذي كان يتم التخويف به لم يكن سوى أقلية ذات صوت عالِ!
الأكيد أن الأصولية باقية، فهي تحمل ميكانيزمات بقائها في داخلها عبر آلية العنف، وهو ليس بالضرورة عنفاً محصوراً في السلاح، بل ثمة أسلحة معنوية لا تقل عنه خطورة؛ كالتكفير والحصار الفكري واختراق السلام المجتمعي عبر آليات الطرد بمعايير دينية حتى في أكثر المسائل دنيوية.
الشخصية الأصولية غير مرتبطة بدين أو مذهب أو تيار، بل تستخدم الشعارات الدينية قناعاً مفاهيمياً لتمرير آيديولوجيتها باتجاه كرسي السلطة، ومن هنا كانت دراسة الباحثة كارين آرمسترونغ «الأصولية في الأديان التوحيدية» أحد أهم المؤلفات في تلمس جذور الأصولية في الخطابات المتطرفة التي تتكئ على رافعة الشعارات الدينية، لكن ذلك أيضاً ليس مقتصراً على أصوليات الأديان، بل يتخطاها إلى أصوليات وضعية ربما كان من أشهرها نظرية العنف الثوري التي عرفتها الشيوعية في منحنياتها الحادة.
اليوم بات للأصولية حلفاء دول وقنوات وكيانات ولغة جديدة وتطبيقات ناقلة وعالم افتراضي هو الأنشط، تحالف الأصولي اليوم المعادين لفكرة الدولة ممن لديهم أزمة حقيقية مع مفهوم الاستقرار والدول الذي تمثله وفي مقدمتهم المملكة، هؤلاء يتحالفون بهدف واحد ومحدد وهو رغبتهم في ابتزاز الأنظمة السياسية المستقرة من خلال القضايا العاطفية والتلويح بعدالتها؛ من فلسطين إلى الإصلاحات والحقوق، وهو أمر يشتركون فيه حتى مع دول غربية تمارس لعبة الأقنعة ذاتها التي انكشفت.
الأصولي المتطرف يتحالف مع الخطابات السياسية الابتزازية هذه الأيام بعد أن كان يكفرها سابقاً ويصب عليها جام غضبه وإرهابه لمجرد رأي سياسي حول نقده العنف الديني أو التطرف أو الإرهاب، لكنه اليوم يحاول أن يتمترس بعقله العنفي خلف مصطلحات ليبرالية الصنع والمنشأ لكن بمضامين أصولية؛ تتحول الديمقراطية إلى حكم شمولي، ويتم تصوير الإرهاب والترويع والعنف على أنه معارضة واعتصام سلمي.
كيف يستطيع الأصولي فعل ذلك؟ ببساطة ينتج خطابين؛ الأول سياسي للغرب والشخصيات المتحالفة من خارج الإسلام السياسي والإعلام يتحدث بلغة سياسية مصلحية، ويتم إنتاج خطاب آخر للأتباع والكوادر وباقي المجموعات المتطرفة مصوغ بلغة دينية وثوقية حادة تضع الآخرين في قوالب الجاهلية... ذات العالم المقسوم إلى فسطاطين فهل تتذكرون؟