د. محمد عبد الوهاب يكتب:

جمال حمدان وأنشودة عبقريّة المكان

القاهرة

يتربَّع المفكّرُ المصريُّ الرَّاحل جمال حمدان (1928 - 1993) على عرش قلَّة من المفكّرين المصريّين الذين اتّسموا بعمق التَّحليل، وشجاعة الطَّرح، وعبقريّة المزْج ما بين الجغرافيا ("العِلم الحائر" بحسب تعبيره) وفروع المعرفة الإنسانيّة كافَّة: تاريخاً وفلسفةً، سياسةً وثقافة، ديناً واجتماعاً. وتبدو عبقريّة المَزْج هذه أسمى ما تكون في فكرته الجوهريّة: عبقريّة المكان، التي تُعَدُّ بمثابة ركيزةٍ أساسيّة في مشروعه الفكريّ العملاق. فقد كان حمدان مهموماً بتخصُّصه الأكاديميّ، ما دفعه لأن ينتقل به من حيّز الدّراسات التَّقليديّة الـمَنْـزَع إلى حيّز "الجغرافيا السّياسيّة" أو "الجغرافيا المُقارنة" على وجه الخصوص.

ومن هنا كان تساؤله الدَّائم حول الكيفيّة التي ينهضُ بها "الجغرافيُّ" من رَقْدته بعدما رَكَعَ وخَضَعَ تحت وطأة أعبائه الخاصَّة وثقلها؟! وفي سياق مُحاولته الإجابة عن هذا السؤال نتلمَّح بروزَ عناصر الفكرة الرئيسة لفلسفته الجغرافيّة، إذا جاز التَّعبير، أو ما أُطلق عليه مسمَّى: فلسفة المكان.

ينطلق حمدان من التَّأكيد على ضرورة "أن يخوض الجغرافيُّ في الإلمام بكلّ التّكنيك العِلميّ الجديد؛ يأخذ عنه فكرة واضحة، لا ليتحوَّل إلى مُختصٍّ فيه، بل مجرَّد مُتلصّصٍ عليه! ولأنَّ الجغرافيا هي فلسفةُ المكان، فلسفةُ الأرض، فلسفةُ العالَم، فإنَّنا ندعو إلى بلُوغ الحدّ الأقصـى من العِلم والعلميّة في الجغرافيا؛ لتواكِبَ عصـر العِلم والتكنولوجيا الفائقة. وفي الوقت نفسه إلى قلب الجغرافيا وموطِنها النّهائيّ، وهو فلسفة المكان؛ أيّ بلوغ الحدّ الأقصى من المعرفة العلميّة، مع الحدّ الأقصى من المعرفة الفلسفيّة، وتحقيق ومواءمة هذه الثنائيّة هي جوهر فنّ الجغرافيا".

الجغرافيا، بهذا المعنى إذن، هي التي تُقدِّم صورة كاملة عن العالَم للمُتعلِّم والمُثقَّف أكثر ممَّا يدعوه حمدان بـالميكانيزم الذي هو ألصق بالعلوم الأوّليّة؛ كالنبات والحيوان والجيولوجيا...إلخ. وعلى الرّغم من إقراره أنَّ الجغرافيا قد لا تتتربَّع على قمَّة العلوم؛ فإنَّ ذلك لم يَمنعه من التأكيد على أنَّها تتربَّع على قمَّة الثقافة! بل إنَّها "أعلى مراحل الثقافة، وهي علمُ الثقافة الأساسيّ"، ومن دونها لا يكتسبُ الإنسانُ صفةَ المثقَّف "مهما حاز من مَعارِف".

والواقع أنَّ نظرته تلك، والتي قد تبدو غارقة في التطرُّف للوهلة الأولى، سرعان ما تتكشَّفُ عن معانٍ ودلالاتٍ كبرى، مثلما تكشف عن جملة من الأسباب الـمُقنعة والدَّافعة إلى الأخذ بهذا القول. فالجغرافيا، في مفهوم حمدان، لا تقتصـر على "عِلم تضاريس الأرض" فحسب، وإنّما يُقْصَدُ بها الـ Geo-Histoire، أو "الجغراسيا"! إنّها بمعنى آخر: كلُّ ما تراه العَين خارج البيت أو الجدران. فكلّ إنسان – جغرافيّاً كان أم غير جغرافيّ - يرى الجغرافيا حيثما كان وأينما تحرَّك، بل إنَّه يتحرَّكُ فيها، فلا مهرب له منها البتّة.

من ضمن هذا الفَهم الحمدانيّ الخاصّ لمنطق الجغرافيا وطرائق اشتغالها في التَّاريخ، وَضَعَ حمدان مَلحمته العلميّة الكبرى: "شخصيّة مصر: دراسة في عبقريّة المكان"، التي صدرت في أربعة أجزاء على ما يقرب من مدى عشـر سنوات (1984 - 1975)، ووَصَلَ مجموع عدد صفحاتها قرابة أربعة آلاف صفحة من القطع الكبير. ففي هذا العمل العلميّ الرَّصين يَدرس حمدان شخصيّة مصر في ثلاثة أجزاء رئيسة هي: الشَّخصيّة الطَّبيعيّة، والبشريّة، والتَّكامليّة. وفي كلّ جانب من هذه الجوانب الثلاثة يَعرض لعناصر التَّفرُّد والتَّميُّز في "شخصيّة مصر"، بفضل ما تحتويه من عوامل: حضاريّة، وإنسانيّة، وطبيعيّة، تَجعل من مصر مكاناً متفرّداً يختلف عن كلّ ما يحيط بها. ففي الجزء الأوّل: "شخصيّة مصـر الطَّبيعيّة" يعرض لنا ما يتعلَّق بالجيولوجيا والجغرافيا المصريّة والصَّحراوات المصريّة التي تُمثّل النّسبة الأكبر في مساحتها. وفي طبيعة الحال، أفرد حمدان جزءاً خاصّاً بوادي النيل الذي يُمثّل شريان الحياة فيها.

أمَّا الجزء الثاني: "شخصيّة مصـر البشـريّة"؛ فيَذكر فيه ملامح التَّجانُس الطَّبيعيّ، والماديّ، والحضاريّ، والبشريّ، والعمرانيّ للشَّخصيّة المصريّة، وكذلك الحضارة المصريّة القديمة والحديثة منذ العصر الفرعونيّ حتَّى تمُّوز/ يوليو 1952، ومراحل تطوُّر الحضارة المصـريّة على مرّ العصور. وفي الجزء الثالث: "شخصيّة مصر التَّكامليّة"، يعرض الجوانب الاقتصاديّة في الشَّخصيّة المصـريّة، بخاصَّة الزّراعة التي كانت بمثابة ركيزتها الأولى. كما يعرض لتطوُّر الصناعة والثروة المعدنيّة فيها. أيضاً يتضمّن حديثه حول "الشَّخصيّة التَّكامليّة" خارطة المُجتمع المصريّ، وشبكة العلاقات المصـريّة العربيّة ما بين الوطنيّة المصريّة والقوميّة العربيّة.

في البداية كان حمدان ينوي إخراج كتابه هذا تحت عنوان "جغرافيّة الإسلام"، أو "جغرافيا العالَم الإسلاميّ"، ومردّ ذلك أنَّه كان مُدرِكاً تعدُّد دوائر الانتماء بحُكم مصـريّته وعروبته وإسلامه، كما كان مُدرِكاً كذلك لعبقريّة المَوقع الاستراتيجيّ لمصـر بكلّ ما تحمله الكلمة من معانٍ ودلالات. وهذا الإدراك العميق هو الذي يبدو بصورة لافتة ضمن تضاعيف كِتاباته ودراساته، بحيث لا يكاد يغفل عن استحضار جميع تلك العناصر أثناء حديثه عن روح المكان وعبقريّته وفلسفته.

في تصوُّره للهُويّة المصريّة يؤكّد حمدان نظريّة "الأبعاد الأربعة"، التي يقسّمها إلى: أبعاد غير ماديّة مُكتسَبة تتمثَّل في: العروبة كبُعد ثقافيّ، والإسلام كبُعد دينيّ/ حضاريّ. وأبعاد جغرافيّة طبيعيّة: كالإفريقيّة، والأورو - متوسطيّة. ويخلص بعد استعراضها جميعاً إلى القول: "أن تكون مصـريّاً، فهذا يعني في الواقع اجتماع شيئَيْن معاً: الأرض والشَّعب، الوطن والقوميّة. فالمصريّة للمصريّ هي قاعدة الأساس، وقاعدة الارتكاز، وهي قاعدة مركَّبة من عنصرَيْن، ولها أبعاد خارجيّة أكثر اتّساعاً: أبعاد جغرافيّة طبيعيّة بحتة؛ أي إقليميّة من صنْع المكان والطبيعة، وأبعاد مكانيّة باختصار، ثمَّ أبعاد بشريّة".

ويمضـي حمدان في رسْمِ صورةٍ تاريخيّة لعبقريّة المكان بحيث يتداخل فيها ما هو دينيّ وثقافيّ، سياسيّ واجتماعيّ. مُنطلِقاً من تقرير أنَّ مصر أَقدم وأعْرق دولة في الجغرافيا السّياسيّة للعالَم، وأنَّها غيرُ قابلة للقسمة على اثنَيْن أو أكثر؛ لأنَّها ببساطة من خَلْق الجغرافيا الطَّبيعيّة، لا التَّاريخ ولا السّياسة؛ بمعنى أنَّها "نبتٌ طبيعيٌ بحت".

وكما أنَّ ثمَّة أبعاداً أربعة لشخصيّة الإنسان المصـريّ، كذلك فإنَّ ثمَّة أبعاداً أربعة لشخصيّة مصـر، بحيث يمكن القول: إنَّ الأبعاد الأربعة الأولى ناتجة عنها بدرجة كبيرة. ولذلك يُفضِّل حمدان أن يُطلق عليها مسمَّى "الجهات الأصليّة في مربَّع علاقات مصر الخارجيّة وأبعادها المُتعدّدة"؛ وهذه الأبعاد الأربعة هي: "المؤثّرات الجنسيّة الثَّانويّة التي اتَّضحت في سكَّان مصـر، وهي بمثابة الرأس من الشمال (تركيا وما حولها). والشَّام بمثابة (الرَّقبة). أمَّا الذّراعان: فالمشرق العربيّ والجزيرة (الذّراع الأيمن)، ثمَّ المغرب (الذّراع الأيسر). أمَّا القدمان فالسُّودان وما حوله". ويترتَّب على ذلك أنَّ مصر ليست "ذات النّطاقَين" فحسب؛ وإنَّما هي "بين النّطاقَين" أيضاً، لأنَّها تقع في مركز الوسط بين كلّ من: أوروبا الغربيّة وآسيا الموسميّة، غرب آسيا وجنوب أوروبا، الهند وإيطاليا، وذلك من النّاحية "الجنسيّة الأنثروبولوجيّة".

حين كان العالَم العربيّ "مُرتفع قوَّة"

وكيفما كان الأمر، ففي دراسته لـ "عبقريّة المكان" بالمعنى الشَّامل، يَمزج حمدان في تصوّراته ما بين الجغرافيا من جهة ومعطيات السّياسة من جهة أخرى، بخاصَّة حينما يتحدّث عن "العالَم العربيّ" الذي كان في منطقة الشَّرق الأوسط قديماً بمثابة "مرتفع قوَّة"، أشبه بالجبل المحدَّب العالي، فإذا به يتحوَّل حديثاً إلى "منخفض قوَّة" تُحيط به مُرتفعات القوَّة من الجهات كلّها: إيران، وتركيا، والغرب.

أمَّا العالَم الإسلاميّ ككلّ، فهو بمثابة القطاع السّياسيّ والحقيقيّ والفعَّال والمُتحضّر من العالَم الثالث، بدليل أنَّ الغرب لا يزال ينظر إلى الإسلام اليوم باعتباره يُجسِّد الخطر الجديد، أو العدوّ المُحتمَل، بعد سقوط الشُّيوعيّة والاتّحاد السوفياتيّ. على أنَّ هذا العالَم تتهدَّده المَخاطر الجمَّة؛ فالحروب المُشتعلة حوله - ومن داخله - تؤلّف نطاقاً كاملاً يُطوّقه ويكاد يلفُّه لفّاً من أقصى الشَّرق إلى أقصـى الغرب، ومن أقصى الشَّمال إلى أقصى الجنوب، وإنْ لم يحُل ذلك كلُّه دون انتشار الإسلام الذي يُسْتدَلُّ على سرعة انتشاره من خلال ما يُسمَّى بـ "النَّمط الجغرافيّ لتوزيع المُسلمين في العالَم". مع ضرورة الأخذ بعَيْن الاعتبار أنَّه، بالإضافة إلى "العالَم العربيّ" و"العالَم الإسلاميّ"، أصبح هنالك "عوالِم" عدّة جديدة، فضلاً عن كون العرب قد أُخرجوا نهائيّاً من التَّاريخ، و"استقالوا" بأنفسهِم من الجغرافيا!

وهكذا، سواء تعلَّق أمر "عبقريّة المكان" بمصر أم بالعالَم الإسلاميّ ككلّ، فإنَّ حمدان يُلحّ في مقدّمة كتابه على أنَّ الهدف الرئيس من دراسته ليس مُمارَسة عمليّة تشريح واسعة لأعضاء المكان وأجزائه، ومن ثمَّ تقديم "موسوعة كتالوجيّة وصفيّة، إنْ تكُن ضافية وافية، إلَّا أنَّها خاملة راكدة؛ ولكنَّ الهدف أن نعتصر روح المكان ثمَّ نستقطره حتَّى يُستقطب في أدقّ مقولة علميّة مقبولة، ويتركَّز في أكثف كبسولة لفظيّة مُمكنة". وروح المكان هذه هي التي عنْوَنَ بها الفصل السَّادس والعشـرين من كِتابه بـ "قلب العالَم: موقع مصـر الجغرافيّ"، ضمن الباب السَّابع: "البناء الحضاريّ والأساس الطبيعيّ"؛ فالمُعادلة العلميّة التي يقوم عليها عمله كلُّه هي: أنَّ مصر بمثابة حَجَر الزَّاوية والأرض الرُّكن في الثلاثيّة القاريّة Continental Triad التي يتألَّف منها العالَم القديم. فهي الوحيدة التي تلتقي فيها قارّتان وتقترب منها ثالثة، وتَقع عند التقاء أربعة ضلوع في هاتَيْن القارّتَيْن. وبهذه الصفة فإنَّها لا تمتاز بـ "الموقع المركزيّ المتوسّط" في قلب الدُّنيا القديمة، ولا بـ "الموقع المدْخليِّ" أو "موقع البوّابة" فحسب، وإنَّما أيضاً بالموقع "العقديّ البُؤريّ".

مَوقع مصر العقديّ البُؤريّ

فضلاً عن كونها المَعْبَر الرَّئيس لقارّة إفريقيا من جهة الشّمال، تكتسب "عبقريّة المكان" طريقَين لا يقلَّان أهميّة وخطراً – في رأي حمدان - يفتحان غرب القارَّة، والقارَّة كلّها، أمام مصـر: فشمالاً هناك طريق الهلال الخصيب بكلّ ثقله وتفرُّعاته وروافده المؤدّية إلى قلب القارَّة. وجنوباً هناك طريق غرب الجزيرة العربيّة الذي يُطوّقها جميعاً حتَّى الخليج ويُفضي بعد ذلك إلى جنوب القارَّة. وبهذا وذاك تكون مصر قد التقت بالطبيعة في أربعة خطوط حركةٍ وطُرق اقترابٍ بريّة تَجعل منها ابتداءً مَوقعاً عقديّاً بُؤريّاً من الدَّرجة الأولى.

ولا ينسى حمدان أن يضيف إلى "الموقع الطبيعيّ" بُعداً آخر لا يقلُّ خطورة ولا أهميّة؛ ويتمثَّل في "البُعد البشريّ من زاوية العمران العالَميّ"، ما يُضاعِف من قيمة موقع مصـر الاستراتيجيّ بحُكم الطبيعة. فمصـر كما تُعدُّ حَجَرَ الزَّاوية بين القارّات والبحار، تتوسَّط أيضاً "القلبَ المعمور والفعَّال من العالَم القديم"؛ ذلك الذي يترامَى كقاطعٍ يمتدُّ من الموسميّات في جنوب شرق آسيا حتَّى المُعتدلات في غرب أوروبا.

على أنَّ مَوقعاً متميّزاً كهذا - سواء بحُكم الطبيعة أم بحُكم العمران البشريّ - له خطورته أيضاً؛ وهو ما عبَّر عنه حمدان بلفظة "تذبْذُب المَوقع"، ومفادها: أنَّ المَوقع - كمحصَّلة جغرافيّة لشبكةٍ منظورةٍ وغير منظورةٍ من العلائق والقيَم المكانيّة والوضعيّات الإقليميّة - لا يُمكن أن يكون زمامُه في يده مباشرة؛ ولذلك لا يُمكن أن يكون خاصيّة أو ثروة مضمونة تماماً. إنَّه بطبيعته عبارة عن "مُخاطرة جغرافيّة". وعلى الرُّغم من ذلك، ففي حالة مصر بالذَّات لا يُمكننا فهم كيانها، أو تاريخها، فَهماً صحيحاً خارج إطار "المَوقع" ومن دون الإشارة إليه. فمصر موضِعاً "دولة نَهَر"، وموقِعاً "دولة بَرْزَخ"، ولو لم يكُن النيل – فرَضاً - لفرَض الموقعُ نفسَه يقيناً. وكلٌّ من "المَوقِع" و "المَوضِع" يُضفي ويعكس من وزنه على الآخر، والقيمة الحقيقيّة لكلٍّ منهما إنَّما تتحقَّق بفضل الآخر. فضلاً عن أنَّ تطوُّر مصـر - إن قوَّةً ورخاءً، أو ضعفاً وفقراً - يرتبط في إيقاعه بإيقاع العلاقة ما بين ذبْذبات "المَوقع" وذبْذبات "المَوضِع". فعصورها الذَّهبيّة هي تلك التي اجتمع فيها الحدُّ الأقصـى من مَوارد المَوقِع ومَوارِد المَوضِع، وعصور تخلُّفها هي ما اجتمعَ عليها الحدُّ الأدنى منهما، بينما عصورها المتوسّطة هي عادةً تلك التي يلتقي فيها الحدُّ الأقصى من أحدهما بالحدّ الأدنى من الآخر. وبحسب حمدان، فإنَّ أكبر مَظاهر تقصير مصر تاريخيّاً، إنَّما يتجسَّد في إهمالها "المَوقِع" نسبيّاً، وتغليبها لجاذبيّة "المَوضِع" على جاذبيّة المَوقِع التي لا تقلّ قوَّةً وإغراءً. ومن ثمَّ، لم يرتفع الاستثمار التَّاريخيّ إلى مستوى ذلك المَوقع الجغرافيّ. وعلى الرّغم من أنَّ الموقع كان دائماً عنصراً محقَّقاً في قوَّة مصر وثرائها، لكنَّها ركَّزت أساساً على "المَوضِع" والزّراعة والإنتاج، أكثر بكثير من تركيزها على "الموقع" والتّجارة والمُبادلات.

في الأخير، إنَّ القيمة العِلميّة لعمل جمال حمدان في إطار التَّأليف العربيّ المعاصر، أشبه بطائر العنقاء، فقد ظَهَرَ هذا العالِم المُتميِّز في آفاق الفكر العربيّ كطائر العنقاء الأسطوريّ، الذي تحكي قصص الأقدمين أنَّ مَوطنه الأصليّ كان صحراء العرب؛ وتروي أنَّ طائراً واحداً منه يظهر كلّ مئات السّنين، وإنَّه يعلو في الآفاق محلّقاً بأجنحته العريضة المهيبة، فارِداً ريشه على نحوٍ بديعٍ وباهر. ولكن عندما يحين الأوان، فإنَّ هذا الطَّائر الأسطوريّ الوحيد يُقيم لنفسه تلّاً من النَّار ويهبط من الأجواء، ينتصب واقفاً في كبرياء وسط لَهيبه، لكنَّه لا يتفحَّم ولا يتحوَّل إلى رماد، وإنَّما ينبعث من قلب النَّار مُستعدّاً لحياة جديدة، ومُنتشياً بشبابِ عُمرٍ جديد.

لقد كان جمال حمدان "عنقاء" مصريّاً وقوميّاً عظيماً، حوَّطته ألسنة النَّار ذات صباح في شهر نيسان/ إبريل 1993، لكنَّ الأحلام العظيمة لا تتفحَّم ولا تتحوَّل إلى رماد، وإنَّما تنهض بمعجزة من معجزات البعْث من وسط الحريق مجدِّدةً حياتها وشبابها، ناشرةً ضياءها وإلهامها، فاتحةً أجنحتها القويّة، ومحلّقة إلى أعالي السَّماء.