هاني مسهوريكتب:
يد إسرائيل الطويلة وقد وصلت إلى اليمن
الرد مقابل الرد، والانتقام مقابل الانتقام، والثأر مقابل الثأر، كل ما حدث ويحدث وسيحدث في صراع الشرق الأوسط لن يخرج عن هذه الدائرة المحبوسة في سجن العقل الراديكالي. جرّت إيران المنطقة بل والعالم إلى الدائرة التي أرادها آية الله الخميني صاحب العقيدة الدينية المتشددة. ما أسس له في العام 1979 كان تكوين المادة الانشطارية لقنابل أكبر بكثير من النووية التي يلهث خلفها النظام السياسي الإيراني، ومن بعده عشرات من الفصائل والتكوينات العقائدية كالقاعدة وداعش وحزب الله والحوثيين والحشد الشعبي. فكل هؤلاء باحثون أيضاً عن امتلاك القنبلة النووية، وإن كانوا جميعهم يمتلكون المواد الانشطارية المتفجرة.
بحسب الإسرائيليين، فإن هجومهم على ميناء الحديدة الخاضع لسيطرة جماعة الحوثي الإرهابية يمثل ردًا على ما يزيد عن مئتي هجوم شنّتها الجماعة على إسرائيل بعد انخراطها في عملياتها المساندة لحركة حماس عقب هجوم 7 أكتوبر 2023. إذن، الرد الإسرائيلي لا يتعلق فقط بالهجوم الأخير الذي استهدف تل أبيب وأودى بحياة إسرائيلي بالقرب من السفارة الأميركية، فحتى مع تبرير الإسرائيليين بأن خطأ بشريًا تسبب في وصول الطائرة المسيرة إلى العمق الإسرائيلي، فإن حقيقة الرد كانت على مجموع ما استهدفه الحوثيون في هجماتهم، وليس فقط عملًا انتقاميًا لمقتل المواطن الإسرائيلي.
لا أحد يمكنه أن يشكك في طول اليد الإسرائيلية، فلقد كانت هذه اليد ضاربة عندما فجّرت مفاعل تموز العراقي عام 1981، وفي تصفية قيادات حركة فتح في تونس. بل إن بنيامين نتنياهو نفسه كان قد قدّم عرضًا كبيرًا في 2018 بعد أن نجح الموساد في سرقة وثائق البرنامج النووي الإيراني ونقلها بالكامل إلى تل أبيب. إذن، هل كانت إسرائيل في حاجة إلى أن تعيد تأكيد طول يدها في الشرق الأوسط؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يُطرح مع تصاعد الأدخنة من ميناء الحديدة اليمني. لا شيء حققته إسرائيل إستراتيجيًا من ضربتها في اليمن غير مكتسبات سياسية سيحملها نتنياهو إلى الأميركيين في الكونغرس المنقسم على نفسه، وفي البيت الأبيض الذي يعيش فراغًا مع مرض الرئيس جو بايدن وتشتتًا بعد انسحابه من الانتخابات الرئاسية الأميركية.
"حلقة النار" التي فرضتها إيران على الشرق الأوسط، من المهم التعامل معها بطريقة مختلفة، فلم تنجح أي من السياسات الغربية أو الإسرائيلية في اختراقها حتى الآن
الحقيقة المؤلمة أن المستفيد الوحيد من هذا الهجوم هم الحوثيون أنفسهم، فلم يكن عبدالملك الحوثي يحتاج إلى شيء يسوّغ سلطته أكثر من ضربة إسرائيلية لا تصيبه مباشرة. ما أخطأت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا في تقديراتهما في عملية “حارس الازدهار” هو ما أخطأت فيه العقلية الإسرائيلية، وهو عدم استيعاب أن الحوثيين يستمدون سلطتهم من الادعاء بأنهم يحاربون من أجل فلسطين ونيابة عن المسلمين، وأنهم يمثلون مشروعًا أمميًا عريضًا. هذه هي الفكرة التي تكررها كل جماعات الإسلام السياسي الجهادية، كما فعلها أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبوبكر البغدادي، وقبلهم جهيمان العتيبي. إذن، في جوهر القضية أن الحوثي يمثل جماعة جهادية متطرفة تختلف فقط في أنها تسير على خط حركة طالبان الأفغانية لتحصل على الشرعية السياسية، كما حصل عليها أتباع الملا عمر في كهوف قندهار.
الحوثيون، ومنذ انقلابهم في سبتمبر 2014، لم يخفوا يومًا ارتباطهم بإيران، ولم يخفوا كذلك رغبتهم في الحصول على الشرعية السياسية التي تخولهم حكم اليمن، جنوبًا قبل الشمال. لم يكن الحوثي قادرًا على تحقيق كل هذه القوة العسكرية وحتى السياسية لولا إخفاقات خصومه المحليين والإقليميين والدوليين. إذن، لا جديد في أن يلتحق الإسرائيليون بركب من سبقهم في التقديرات الخاطئة لما تريده جماعة الحوثي، وما هي عليه، وما يمكن أن تحققه من ضربة، حتى وإن دمرت ميناء الحديدة وأشعلت النيران التي يراها كل الشرق الأوسط، بمن فيهم علي خامنئي في طهران.
الدرس الوحيد الذي ينبغي استدراكه في هذه المشهدية المفرطة في الفوضى العارمة، هو أنه لا يمكن لأحد تجاوز التعامل مع الحوثيين بغير ما اعتمدته الولايات المتحدة في تعاملها مع تنظيمي القاعدة وداعش: ضرب الرأس يعني تفكك الكتلة، ثم التعامل مع الأطراف وملاحقتها. بعد مقتل أسامة بن لادن انتهى عمليًا تنظيم القاعدة، وبمقتل أبوبكر البغدادي انتهى عمليًا تنظيم داعش. هذه الجماعات تقوم على الرؤوس، فلو كانت إسرائيل جادة في رغبتها في الخلاص من التهديدات الإيرانية المحيطة بها، لكان عليها أن تنجز ما تقول دائما إنها تستطيع أن تفعله؛ اصطياد الرأس.
إسرائيل، كما هي الولايات المتحدة، تعيش في شتات بين يمين متطرف ويسار ليبرالي متطرف. التشتت الفكري يبقى معضلة السياسات، فمعه تضيع التقديرات الموضوعية للتعامل مع الوقائع. لم تنجح إسرائيل في توقع هجوم حماس في السابع من أكتوبر، ولذلك كانت عملياتها في غزة خاطئة، فهي ردة فعل انتقامية أغرقتها في وحل لا نهاية له، وفتحت عليها سبع جبهات استنزاف إيرانية. وكذلك هي حال أميركا التي كانت تقديراتها خاطئة منذ أن وضع باراك أوباما عقيدته وخط نهج احتواء إيران والاعتماد على جماعات الإسلام السياسي كبديل عن أنظمة الحكم السياسية في الشرق الأوسط. التقديرات الخاطئة تصل في النهاية إلى نتائج ستكون بالتأكيد كارثية.
“حلقة النار” التي فرضتها إيران على الشرق الأوسط، من المهم التعامل معها بطريقة مختلفة، فلم تنجح أي من السياسات الغربية أو الإسرائيلية في اختراقها حتى الآن. إن الفهم الصحيح لطبيعة الأعداء وأهدافهم الحقيقية يجب أن يكون نقطة الانطلاق لأي إستراتيجية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة، وإنهاء دائرة الانتقام التي تستنزف الجميع بلا استثناء. إعادة النظر الموضوعية في السياسات التي أدت إلى تمكين إيران وأذرعها تعد المدخل الأنسب للتعامل مع المستقبل في المنطقة الملتهبة، والتي لن تجدي فيها سياسات التبريد المؤقتة. إن اليد الطويلة والعين العمياء هما مشكلتنا، إن كان لأحد أن يدرك معاناة شعوب هذا الجزء من الكوكب.