هاني مسهوريكتب:

من حرب الاستنزاف الإيرانية إلى اليد الإسرائيلية الطويلة

جولة الردود المتبادلة بين إيران وإسرائيل مختلفة هذه المرة عن الجولة السابقة في أبريل 2024، وإن كانت الجولتان لا تخلوان من أوجه شبه. ترغب إيران أكثر من إسرائيل في الالتزام بسقف محدد من التصعيد لا يؤدي إلى حرب شاملة، محاولة إبعاد شبحها عنها منذ 7 أكتوبر 2023 الماضي.

أول ما يجب أخذه في الاعتبار عند قراءة المشهد الحالي هو الاستنفار الأميركي للدفاع عن إسرائيل، الذي عبّر عنه وزير الدفاع لويد أوستن ثم الرئيس جو بايدن خلال مكالمته الهاتفية مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وجدت هذه الاستعدادات الأميركية ترجماتها الفعلية من خلال إرسال واشنطن تعزيزات عسكرية هجومية ودفاعية إلى المنطقة، لبناء منظومة تتصدى لأيّ هجوم من جانب إيران ووكلائها، ولردع إيران عن تجاوز الخطوط الأميركية في المنطقة.

يكمن وجه الشبه بين جولة الردود السابقة والجولة الحالية في التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن أمن إسرائيل وانضباط إيران في ردها تحت عتبة الحرب الواسعة. تخشى إيران أن يؤدي أيّ رد تعتبره الولايات المتحدة تجاوزًا لقواعد الاشتباك الحالية إلى مواجهة مباشرة مع واشنطن، وهو آخر ما ترغب فيه.

الحرب المركزية في المنطقة لا تزال حتى الآن في قطاع غزة، رغم انحراف الأنظار عنه في الأيام الماضية. "اليوم التالي" لهذه الحرب سيكون معطى رئيسيًا في إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة

انقسام الآراء داخل إيران حول كيفية التعامل مع الأزمة الحالية بين الجناح الراديكالي المتمثل بـ”الحرس الثوري” والجناح الذي يعبّر عنه الرئيس الجديد مسعود بزشكيان وفريقه يعكس تعقيد الموقف الإيراني. اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران يمثل ضربة موجعة ومهينة لإيران لا يمكنها التغاضي عنها، وهي موجه ضد إيران أكثر منها ضد “حماس” التي ستكون قادرة على استبداله.

إيران تحاول تقديم نفسها كقوة “عقلانية” في المنطقة مقابل “التهور” الإسرائيلي، لكنها تجد صعوبة في ذلك بسبب ضغوط الردع الأميركي.

أوجه الاختلاف تكمن في أن الرد الإيراني هذه المرة لن يكون معزولًا عن رد الميليشيات الموالية لها في المنطقة، سواء “حزب الله” في لبنان أو “الحوثيين” في اليمن أو ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق. قصفت هذه الميليشيات قاعدة عين الأسد الأميركية في العراق، ممّا أسفر عن إصابة خمسة جنود أميركيين، وهو ما يمكن اعتباره بداية الردود الإيرانية على اغتيال هنية أو ما يمكن النظر إليه أنه اختبار أو تجربة لرد الإيرانيين.

أكد الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله أن الرد على اغتيال فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت وإسماعيل هنية في طهران سيكون جماعيًا من قبل ما يسمّى “محور المقاومة”، دون الإفصاح عن توقيت الرد.

لكن إيران محكومة بمحدودية استخدام القوة ضد إسرائيل بسبب الردع الأميركي، وهو ما يمكن استنتاجه من تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، الذي أكد حق إيران القانوني في الرد على إسرائيل وردعها، مضيفًا أن إيران تسعى إلى إرساء الاستقرار في المنطقة.

تحاول إيران الآن تقديم نفسها كقوة “عقلانية” في المنطقة مقابل “التهور” الإسرائيلي، لكن تطور الأحداث منذ السابع من أكتوبر الماضي أظهر أن هذه المنافسة لصالح إسرائيل رغم الانتقادات الأميركية والأوروبية. فتعزيز حضور القوات الأميركية في المنطقة يشير إلى أن الدفاع عن أمن إسرائيل هو دفاع عن مصالح الولايات المتحدة وأمنها، في استعادة رمزية وواقعية لوظيفة إسرائيل ودورها التاريخي في المنطقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

إيران تحاول تقديم نفسها كقوة “عقلانية” في المنطقة مقابل “التهور” الإسرائيلي، لكنها تجد صعوبة في ذلك بسبب ضغوط الردع الأميركي

الحرب المركزية في المنطقة لا تزال حتى الآن في قطاع غزة، رغم انحراف الأنظار عنه في الأيام الماضية. “اليوم التالي” لهذه الحرب سيكون معطى رئيسيًا في إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة. إذا كانت إيران تحاول أن تعمّق تورط إسرائيل في حرب استنزاف داخل غزة وعلى حدودها الشمالية مع “حزب الله”، فإن إسرائيل تحاول أن تخرج من الدائرة الاستنزافية التي تحاول إيران أن تغرقها فيها.

في المقابل، ترى إسرائيل أن حرب الاستنزاف ستكون مكلفة جدًا على “محور المقاومة” أيضًا، وليس فقط عليها. فالجرأة الإسرائيلية متأتية من كون إيران مردوعة ذاتيًا وأميركيًا عن توسيع الحرب.

باختصار، إيران التي كانت تعتقد أن إستراتيجية الصبر الإستراتيجي وإدخال إسرائيل في حرب استنزاف دون التورط في حرب واسعة معها سواء من قبل طهران أو “حزب الله”، تجد الآن أن هذه الإستراتيجية محفوفة بالمخاطر ويمكن أن تنقلب ضدها. الحرب المركزية في المنطقة لا تزال حتى الآن في قطاع غزة، ويظل الشعب الفلسطيني الحلقة الأضعف في هذا الصراع، حيث يدفع ثمنًا باهظًا جراء المواجهات المستمرة.

إيران تواجه تحديات كبيرة في التوازن بين الردع والتصعيد، وبين محاولاتها لتعزيز نفوذها الإقليمي ومحدودية قدرتها على تحمل تبعات حرب شاملة. في النهاية، فالمعركة بين إيران وإسرائيل هي معركة إرادات ونفوذ، والتوازن الهش بين القوة والردع سيحدد مستقبل الصراع في المنطقة. بواقعية الموقف فإن الفائز هو إسرائيل التي أعادت الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط بعكس الإستراتيجية المعتمدة بالانسحاب من المنطقة.

بنيامين نتنياهو صاغ قواعد اشتباك مختلفة بنمطية غير تقليدية لم تكن معروفة منذ آخر الحروب الإسرائيلية – العربية في 1973. الصيغة أن “اليد الطويلة” الإسرائيلية لم يعد الموساد وحده الذي يتمتع بها فلقد حصل جيش الدفاع على حصته من تلك المنهجية. دخول الجيش الإسرائيلي بما يتمتع به من تفوق عسكري على دول منطقة الشرق أوسطية هو مكتسب تحقق في ما ظهرت المحدودية الهجومية لما يسمى “وحدة الساحات”. وحتى يأتي الرد الإيراني ثم الرد الإسرائيلي ستبقى الوقائع تكشف أن العرب وحدهم بلا أمن قوميّ محدد فأرضهم كما سمائهم وبحارهم مستباحة في حروب الرد على الرد.