هاني مسهوريكتب:

القانون في مصر أولا.. السياسة لاحقا

أثار قرار رفع 716 اسما من قوائم الإرهاب في قضية تمويل جماعة الإخوان المسلمين موجة من الجدل والتساؤلات في الشارع المصري. ورغم أن القرار قضائي بحت، إلا أن طريقة تناوله إعلاميا وسياسيا خلقت حالة من الارتباك والتشويش في المشهد العام، وفتحت الباب أمام تأويلات وتفسيرات متباينة. لنضع النقاط على الحروف: القرار قضائي وليس سياسيا، ولا يجب الزج باسم رئيس الجمهورية في قرار يخص السلطة القضائية المستقلة. فالدستور المصري واضح في استقلالية القضاء، ومن غير المقبول تصوير الأمر وكأنه توجيه سياسي من أعلى. هذا التوظيف السياسي للقرار القضائي يضر بسمعة مصر ومؤسساتها القضائية، ويقدم صورة مغلوطة عن طبيعة النظام القضائي المصري.

الخلل الأكبر في تناول هذا القرار يكمن في غياب الشفافية والتفاصيل الكاملة. فعندما نعلم أن العدد المرفوع (716) هو جزء من إجمالي 4408 من المتهمين على قوائم الإرهاب، وأن 808 آخرين ما زالوا على القوائم في نفس القضية، تتضح الصورة بشكل أفضل. هذه الأرقام والتفاصيل كان يجب أن تكون جزءا أساسيا من الإعلان عن القرار منذ البداية، حتى لا تفتح المجال أمام التأويلات الخاطئة أو استغلال القرار سياسيا.

وفي خضم هذا الجدل، يبرز السؤال الأهم: هل يمكن فصل الأفراد عن الجماعة في هذا السياق؟ جماعة الإخوان المسلمين مصنفة قانونيا كجماعة إرهابية في مصر. وهذا التصنيف لا يستند فقط إلى نص قانوني، بل إلى تاريخ طويل من العنف والإرهاب والتحريض على الكراهية وتقويض أركان الدولة المصرية.

لا سلطة تعلو فوق القانون، ويكفي ما دفعته مصر والشعوب العربية من أثمان وهي تراهن على المصالحات وتذهب إلى التسويات مع هؤلاء المُخادعين الدجّالين. ليكن ما يكن، القانون أولا

التاريخ يعلمنا دروسا قاسية في هذا الصدد. فكل محاولات المصالحة السابقة مع الجماعة، سواء في عهد الملك فاروق أو عبد الناصر أو السادات أو مبارك، انتهت بالخيانة والدم. والتجربة الأخيرة في 2013 كشفت بوضوح استحالة التعايش مع فكر يرفض الدولة الوطنية من الأساس ويسعى لتقويضها تحت غطاء الدين.

الشعب المصري، رغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة، أظهر وعيا استثنائيا في رفضه القاطع لأيّ شكل من أشكال المصالحة مع الإرهاب. فشرعية 30 يونيو قامت أساسا على مواجهة الإرهاب وحماية الدولة المصرية من مخطط تفكيكها وتحويلها إلى دويلات طائفية متناحرة.

لكن هنا يجب التفريق بوضوح بين مراجعة القوائم وتصحيح الأخطاء الإجرائية، وبين فكرة المصالحة السياسية مع الجماعة. مراجعة القوائم خطوة ضرورية وصحية، تعكس نضج الدولة المصرية وقدرتها على المراجعة والتصحيح. فمن الممكن أن يكون بعض المدرجين على القوائم ضحايا لتوسيع دائرة الاشتباه في لحظة مواجهة الإرهاب، وهذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال أن الدولة تتراجع عن ثوابتها في مواجهة الجماعة.

ما يثير القلق في طريقة تناول القرار هو محاولة البعض تصويره كبداية لمصالحة أو تغيير في موقف الدولة تجاه الجماعة الإرهابية. هذا التأويل الخاطئ يتجاهل حقيقة أن الجماعة ما زالت مصنفة كمنظمة إرهابية، وأن قيادتها ما زالت تحرّض على العنف وترفض الاعتراف بالدولة المصرية.

من المهم هنا أن تكون الدولة أكثر وضوحا في التعامل مع مثل هذه القرارات. فالغموض والتعتيم يخلقان مناخا من الشائعات والتأويلات الخاطئة التي تضر بالمصلحة العامة. كذلك، يجب أن يكون هناك بيان رسمي يوضح خلفيات القرار وأسبابه، حتى لا تُترك الأمور لتفسيرات الإعلام والتكهنات.

مصر التي خرجت في 30 يونيو لتحمي دولتها من الإرهاب، ما زالت على عهدها في رفض أيّ مساومة على أمنها واستقرارها

القضاء المصري، الذي أصدر هذا القرار، يقوم بعمله ضمن إطار قانوني مستقل. ولكن في المقابل، يجب أن تكون هناك رقابة شعبية وإعلامية على مدى دقة هذه القرارات، خاصة عندما تتعلق بقضايا مصيرية كالإرهاب.

الدولة المصرية تواجه تحديات اقتصادية وسياسية كبيرة، لكن هذا لا يعني التراجع عن ثوابتها في مواجهة الإرهاب. فلا يمكن التعايش مع فكر يرفض الوطنية ويحرّض على العنف ويسعى لتقويض أركان الدولة. والتحديات الاقتصادية، مهما بلغت شدتها، لا يمكن أن تكون مبررا للمساومة على أمن الوطن واستقراره.

في هذا السياق، يجب التفريق بين مستويات مختلفة من التورط في الإرهاب. فهناك من حمل السلاح وقتل، وهناك من مول ودعّم، وهناك من حرض وروّج، وهناك من انخدع وتورط. لكن هذا التمييز يجب أن يكون في إطار قانوني واضح، وليس من خلال صفقات سياسية غامضة أو ضغوط إعلامية.

التاريخ المصري مليء بالدروس المستفادة من محاولات المصالحة السابقة مع الإخوان. هذه المحاولات لم تؤدِ إلا إلى المزيد من العنف والتطرف، وهو ما يجعل الشعب المصري يدرك أن الأمن والاستقرار لا يمكن أن يتحققا إلا بالتصدي الحازم لهذا الفكر.

كل محاولات المصالحة السابقة مع الجماعة، سواء في عهد الملك فاروق أو عبد الناصر أو السادات أو مبارك، انتهت بالخيانة والدم. والتجربة الأخيرة في 2013 كشفت بوضوح استحالة التعايش مع فكر يرفض الدولة الوطنية

القرار القضائي برفع بعض الأسماء من قوائم الإرهاب لا يغير من حقيقة أن جماعة الإخوان المسلمين هي جماعة إرهابية بقوة القانون والواقع والتاريخ. والتعامل مع هذا الملف يجب أن يكون بمنتهى الشفافية والوضوح، بعيدا عن المزايدات السياسية أو التوظيف الإعلامي.

مصر التي خرجت في 30 يونيو لتحمي دولتها من الإرهاب، ما زالت على عهدها في رفض أيّ مساومة على أمنها واستقرارها. وهذا درس يجب أن يعيه الجميع، خاصة أولئك الذين يحاولون توظيف القرارات القضائية لخدمة أجندات سياسية مشبوهة.

الشفافية في التعامل مع مثل هذه القضايا لا تعزز فقط الثقة بين الدولة والمواطن، بل تساهم أيضا في الحفاظ على استقرار النظام القضائي واحترامه داخليا وخارجيا. فالدولة المصرية قوية بقضائها وشعبها، ولن تسمح لأيّ جهة، داخلية كانت أو خارجية، باستغلال قراراتها لتحقيق أهداف مشبوهة.

إنها لحظة حيوية تستدعي فيها الذاكرة العربية ذاتها، فلا يُمكن إنكار التجارب الماضية، كما لا يُمكن إسقاط الخطايا التي أوقعتنا فيها حُسن النوايا مع هذه الجماعة التي كانت، وما زالت، وستبقى مُؤمنة بأن المُجتمعات كافرة. مُشكلتنا مع الجماعة أعمق بالكثير من أن نُنكر الأخطاء معها، فهذه جماعةٌ أيديولوجيةٌ ترى في الوطن أنه مُجرّد حفنة من تراب عَفِن. مُشكلتنا يجب أن نُعالجها بالقانون الوطني الذي يُساوي بين جميع المُواطنين، لا ذلك القانون الذي يُعطي درجة لرجل دين باعتباره مُواطنا مُختلفا عن غيره.

لا سلطة تعلو فوق القانون، ويكفي ما دفعته مصر والشعوب العربية من أثمان وهي تُراهن على المُصالحات، وتذهب إلى التسويات مع هؤلاء المُخادعين الدجّالين. ليكن ما يكن، القانون أولا، ثم لتأتي السياسة لاحقا، أو حتى لا تأتي أبدا.