هاني مسهوريكتب:

الإسلام والثقافة العربية.. هل يمكن الفصل بين الدين والهوية؟

يُلقي سجال النبي الكريم محمد، عليه الصلاة والسلام، مع عصره بظلاله على جدلية عميقة في الفكر الإسلامي المعاصر، جدلية الوحي والوعي، الثابت والمتغير، الجوهري والعرضي. وفي خضم هذا السجال، يطرح المفكر ياسر المنصور سؤالا جوهريا: هل يمكن فصل “جوهر” الدين عن “أعراضه”؟ وهل “إعدادات” الرسالة، كاللغة والثقافة، جزء لا يتجزأ من الدين، أم إنها متغيرات ظرفية تتبدل بتبدل الزمان والمكان؟

يميل عبدالكريم سروش إلى اعتبار هذه الإعدادات متغيرة، فهي ليست من ذاتيات الدين، وإن أثرت على فهمنا له وتفاعلنا معه. وهو يذهب إلى حد القول إن الإسلام لو نزل في اليونان أو الهند لكان مختلفا في “عرضياته” عما هو عليه في الحجاز. فاللغة اليونانية، مثلا، بما تمتلكه من أدوات فلسفية، كانت ستُضفي على خطاب النبي، عليه الصلاة والسلام، صبغة مختلفة.

هل يمكن للدين أن يكون عامل تحررٍ فكري بدلًا من أن يكون أداة تقييد؟ الإجابة تكمن في قدرتنا على تجاوز الأعراض الثقافية والتاريخية التي التصقت بالنص، للوصول إلى جوهره الحقيقي، بعيدا عن وصاية الفقهاء

وهذا ما نراه جليا اليوم في تنوع “الإسلامات” المعاصرة، فالإسلام العربي يختلف عن الإسلام الإندونيسي أو التركي، كلٌّ بحسب ثقافته ووعيه. وهذا التنوع، في رأيي، ليس مشكلة بل ثراء، فهو يعكس رحابة الدين وقدرته على استيعاب مختلف الثقافات والأعراف، في عالم الفكر والتأويل، لم تكن النصوص الدينية يوما محصورة في معناها الحرفي، بل كانت ولا تزال ميدانا لسجال ممتدٍّ بين القراءات المختلفة التي تُطوِّع النصوص وفقًا للواقع المتغير. هذه الإشكالية ليست جديدة على الفكر الإسلامي، لكنها اليوم تتخذ بعدًا أكثر أهمية، في ظل تجذّر التفسير الحرفي للنصوص في المنظومة الفقهية التقليدية، ما جعل الدين رهينةً لحدود اللغة والتقاليد والأنماط الاجتماعية التي كانت سائدة في القرن السابع الميلادي. فهل يمكن فك الارتباط بين الدين وجغرافيا نزوله؟ وهل كان ليأخذ الإسلام مسارًا مختلفًا لو ظهر في اليونان أو الهند بدل الحجاز؟

لقد كانت اللغة العربية إطارا شكل النص القرآني وأحاطه بحدودٍ ثقافية معينة. هذه الحقيقة استغلها التيار السلفي الفقهي ليحصر فهم النصوص ضمن قالبٍ لغويٍّ صارم، ما جعل الفقه الإسلامي خاضعًا لجمود اللغة بدلا من أن يكون متفاعلًا مع تطور المعارف الإنسانية. يشير سامي الأنصاري إلى أن هذا الجمود اللغوي أدى إلى إحساس الفقهاء بمحدودية النص، فبدلًا من تأويله بما يتلاءم مع العصر، لجأوا إلى تضييق دائرته، مما خلق فقها مشبعا بالمحافظة ومعاديا للتغير.

من أخطر ما كرّسه الفقه التقليدي هو آلية القياس التي جعلت الماضي نموذجا يتم إسقاطه على الحاضر والمستقبل. هذه المنهجية، كما يراها أحمد الرفاعي، ليست سوى عملية اختزال خطيرة، حيث تم تضييق تاريخ الإسلام إلى عقد زمني عاشه النبي في المدينة، واعتُبِر كل ما جاء بعده فرعا على ذلك الأصل. هذا الفهم أدى إلى تحنيط الإسلام داخل بيئة القرن الأول الهجري، وإهمال التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العالم منذ ذلك الحين.

ولأنّ النص كان دائمًا مرتبطا بسياقه، فإن إسقاطه على بيئات جديدة دون مراعاة الفروقات الثقافية يؤدي إلى تشويه جوهره، وهو ما أشار إليه سروش حينما تساءل: هل كان الإسلام اليوناني، لو وُجِد، ليكون مختلفًا عن الإسلام العربي؟ الإجابة البديهية هي نعم، إذ كان سيأخذ شكلًا أكثر فلسفية ومنطقية، بدلًا من أن يكون مشبعًا بالفكر الفقهي القائم على التفريع والتشريع القانوني.

إنّ ما يجعل التأويل السلفي طاغيا ليس قوة حجته، بل تحالفه مع المنظومات السياسية والإعلامية التي كرّست فهما محددا للنصوص الدينية. فمنذ أن نظّر مالك بن ناصر لأصول الفقه، أصبح من الصعب زحزحة فكرة أن الفقه هو الدين، وأنه لا يمكن تصور إسلام خارج القوالب الفقهية التي أنتجها العلماء الأوائل. هذا الإغلاق المعرفي كانت له تداعيات خطيرة، إذ تم تجريد النصوص من بعدها الجدلي المفتوح على التأويل، وتم التعامل معها كأحكام جامدة غير قابلة للنقاش.

ما يجعلنا اليوم بحاجة إلى إعادة قراءة الدين ليس الرغبة في هدمه، بل ضرورة استعادته من أيدي أولئك الذين حولوه إلى أداةٍ للجمود والوصاية على العقول

في المقابل، نجد أنّ المدرسة العقلانية التي مثلها مفكرون مثل خالد الفاروق، وجمال الطيب، وعبدالجواد ياسين، حاولت إعادة قراءة النص خارج الإطار الفقهي التقليدي، لكنها لم تستطع تحقيق حضور واسع مقارنةً بالسلفية، بسبب استحواذ الأخيرة على المنظومات التعليمية والدينية والإعلامية في العالم العربي.

إذا كان النص القرآني قد تفاعل مع بيئته العربية في القرن السابع الميلادي، فما الذي يمنع إعادة قراءته ضمن بيئتنا المعاصرة؟ لماذا يبقى الإسلام محصورًا في صيغته الكلاسيكية دون أن يتموضع داخل سياقٍ جديد؟ إنّ تحرير النص من إسار التقليد الفقهي يبدأ بالاعتراف بأنّ كثيرًا مما نعتبره “أصول الدين” ليس سوى تفسيرات تاريخية قابلة للنقد.

إنّ جوهر الدين، كما يطرحه عبدالكريم سروش، ليس ثابتا في مظاهره الثقافية، بل هو متغير وقابل للتأويل وفق متطلبات العصر. والتحدي الحقيقي اليوم لا يكمن في البحث عن “إسلام جديد”، بل في استعادة روح الإسلام الأولى التي جعلت النص منفتحا على الواقع، لا سجينا في قوالب الفقهاء.

إنّ ما يجعلنا اليوم بحاجة إلى إعادة قراءة الدين ليس الرغبة في هدمه، بل ضرورة استعادته من أيدي أولئك الذين حولوه إلى أداةٍ للجمود والوصاية على العقول. فإذا كان الخطاب الفقهي السلفي قد نجح في إغلاق باب الاجتهاد، فإنّ فتحه مجددًا ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورةٌ لمواجهة الأزمات التي تعصف بالعالم الإسلامي.

يظل السؤال مفتوحا: هل يمكن للدين أن يكون عامل تحررٍ فكري بدلًا من أن يكون أداة تقييد؟ الإجابة تكمن في قدرتنا على تجاوز الأعراض الثقافية والتاريخية التي التصقت بالنص، للوصول إلى جوهره الحقيقي، بعيدا عن وصاية الفقهاء الذين جعلوا من الإسلام شريعة تنظم التفاصيل الدقيقة للحياة، بدلًا من أن يكون رسالة روحية تحرر الإنسان وتمنحه أفقا أوسع للتفاعل مع العالم.