حسن العاصي يكتب لـ(اليوم الثامن):

الغطرسة الأمريكية ومصير إيكاروس الحديث

رغم مرور أكثر من مئة عام على خطاب الرئيس الأمريكي “ودرو ويلسون” الذي ألقاه في العام 1916 بمناسبة بداية ولايته الرئاسية الثانية، حيث ينسب إليه مقولة “أن عَلَمَ أمريكا ليس علَمهَا وحدها، بل هو عَلَم الإنسانية جمعاء” إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق، ولم يصبح علم الولايات المتحدة علماً للإنسانية، بل أصبح علماً للشر وقتل الشعوب والغطرسة ونهب خيرات الدول. صار وجهاً قبيحاً للعنصرية والتمييز لم تنجح أفلام هوليود في تجميله.

نزعة السيطرة على العالم، والاعتقاد أنهم وحدهم المهيئين لقيادة العالم، كانت وما زالت في العقيدة الأمريكية منذ الاستقلال. ظهرت هذه النزعة بوضوح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة منتصرة، فيما بقية الأطراف إما مهزومة أو منهكة اقتصاديا، وعسكرياً، واجتماعيا، وسياسياً. تُظهر تصريحات السياسيين الأمريكيين درجة عالية من الفوقية والاستعلاء والترفُّع على الآخرين، والتكبُّر والعجرفة، والزُهوّ. وتصريحات رونالد ترامب المستمرة تؤكد هده الحقيقة بصورة جلية، حين يواصل القول إنه يتمتع “بتواضع أكبر كثيرا مما يتصور الكثير من الناس”. لكن ادعاءاته بأنه يتمتع بـ “عقل جيد جدًا”، وأنه يمتلك “أفضل الكلمات”، وأنه يعرف “أكثر من الجنرالات”، وتذكيره المستمر بأنه “الفائز” كلها تعزز فكرة أن التواضع هو فضيلة لا يعرفها ترامب.

 

منفلت من عقاله

بينما يستمر اقتراحه الصادم في إثارة الإدانة الدولية، أصر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" على أن "الجميع يحبون" فكرته لطرد الفلسطينيين من غزة والسماح للولايات المتحدة بتولي المسؤولية عنها. حيث قال للصحفيين في المكتب البيضاوي عندما سئل عن رد الفعل على خطته: "الجميع يحبونها". مقترح ترامب بشأن تهجير أهالي قطاع غزة من أراضيهم ونقلهم إلى مناطق أخرى، مع سيطرة الولايات المتحدة على القطاع وامتلاكه لفترة طويلة من أجل تنميته وتهيئته لعيش آخرين عليه، أثار العديد من ردود الأفعال الفلسطينية والعربية والعالمية الرافضة لهذا المقترح، بينما أيده مسؤولون وسياسيون إسرائيليون. وكان دونالد ترامب قد قال إنه يريد أن تسيطر الولايات المتحدة على قطاع غزة المدمر بسبب الحرب بعد نزوح الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، وتطوير المنطقة حتى يعيش "شعوب العالم" هناك.

اقتراحات الرئيس الأمريكي بشأن غزة، والتي تعكس غطرسته، أثارت ردود فعل من مختلف الأطراف. حيث اعتبرتها حركة حماس في بيان قائلة إن خطط ترامب هي "وصفة لخلق الفوضى والتوتر في المنطقة. لن يسمح شعبنا في قطاع غزة لهذه الخطط بالمرور". جميع الفصائل الفلسطينية أدانت تصريحات ترامب واعتبرتها "طرفة تافهة".

المملكة العربية السعودية أصدرت بياناً أكدت فيه أن موقفها من قيام الدولة الفلسطينية "راسخ وثابت ولا يتزعزع، وليس محل تفاوض أو مزايدات". وبعد نحو سبع ساعات من البيان السعودي، أعلنت السلطة الفلسطينية موقفها الرسمي، حيث أصدرت الرئاسة الفلسطينية بياناً رسمياً أكد فيه عباس رفضه القاطع لدعوات الاستيلاء على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين من وطنهم. وطالب عباس "الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بتحمل مسؤولياتهم والتحرك العاجل لحماية قرارات الشرعية الدولية، وحماية الشعب الفلسطيني والحفاظ على حقوقه غير القابلة للتصرف، وحقه في تقرير مصيره والبقاء على أرض وطنه، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية".

قالت "فرانشيسكا ألبانيزي" المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، إن خطة ترامب "غير قانونية وغير أخلاقية وغير مسؤولة تمامًا"، مضيفة أنه يقترح ارتكاب "جريمة دولية" تتمثل في التهجير القسري. كما أصدر الاتحاد الأوروبي بياناً أكد فيها أن غزة أرض فلسطينية وهي جزء من حل الدولتين.

كما أكد الديوان الملكي الأردني، وكذلك وزير الخارجية المصري "ضرورة وقف التوسع الاستيطاني، ويرفض أي محاولات لضم الأراضي وتهجير الفلسطينيين، وضرورة إزالة الركام وتقديم المساعدات".

وزارة الخارجية الإماراتية جددت التزامها بدعم السلام والاستقرار في المنطقة، وموقفها التاريخي الراسخ تجاه صون حقوق الشعب الفلسطيني، وشددت على ضرورة إيجاد أفق سياسي جاد يفضي إلى حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة". ذكر رئيس الوزراء البريطاني "كير ستارمر" أنه "يتعين السماح لهم (الفلسطينيين) بالعودة إلى وطنهم، ويتعين السماح لهم بإعادة البناء، وعلينا أن نكون معهم في عملية إعادة البناء هذه نحو المضي على طريق حل الدولتين".

كذلك وزيرة الخارجية الألمانية "أنالينا بيربوك" "قطاع غزة ملك للفلسطينيين، وطردهم منه غير مقبول ويتعارض مع القانون الدولي". "سيؤدي هذا أيضاً إلى معاناة جديدة وكراهية جديدة... لا يتعين أن يكون هناك حل يتجاهل الفلسطينيين".

واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية "كريستوف لوموان" أن "فرنسا تكرر معارضتها لأي تهجير قسري للسكان الفلسطينيين في غزة، والذي من شأنه أن يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، وهجوماً على التطلعات المشروعة للفلسطينيين، ويعتبر أيضاً عقبة رئيسية أمام حل الدولتين وعاملاً رئيسياً لزعزعة استقرار شريكينا المقربين، مصر والأردن، والمنطقة بأسرها أيضاً.  كذلك فعل وزير الخارجية الإسباني "خوسيه مانويل ألباريس" الذي قال "أريد أن أكون واضحاً للغاية في هذا الشأن، غزة هي أرض الفلسطينيين سكان غزة ويجب أن يبقوا فيها". "غزة جزء من الدولة الفلسطينية المستقبلية التي تدعمها إسبانيا ويجب عليها التعايش بما يضمن ازدهار دولة إسرائيل وأمنها. والمتحدث باسم الكرملين "دميتري بيسكوف" قال "تعتقد روسيا أنه لا تسوية في الشرق الأوسط بغير الاستناد إلى أساس حل الدولتين". "هذا هو الطرح المكفول بالقرار ذي الصلة لمجلس الأمن الدولي، وهذا هو الطرح الذي تتشاركه الأغلبية الساحقة من البلدان المعنية بهذه المشكلة. ونمضي قدماً انطلاقاً منه ونؤيده ونعتقد أنه هو الخيار الوحيد الممكن".

وأصدرت وزارة الخارجية الصينية بياناً جاء فيه "تأمل الصين أن تعتبر كل الأطراف وقف إطلاق النار وإدارة القطاع بعد انتهاء الصراع فرصة لإعادة التسوية السياسية للقضية الفلسطينية لمسارها الصحيح استناداً إلى حل الدولتين".

أما وزير الخارجية التركي "هاكان فيدان" فاعتبر أن "تصريحات ترامب بأن أميركا ستسيطر على غزة غير مقبولة". "أي خطط تترك الفلسطينيين خارج المعادلة ستؤدي إلى تأجيج الصراع". لكن وزير الأمن الوطني الإسرائيلي السابق "إيتمار بن غفير" اعتبر أن "تشجيع سكان غزة على الهجرة من القطاع هو الاستراتيجية الصحيحة الوحيدة بعد نهاية الحرب في غزة".

 

غطرسة وتسلط

إن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" وتياره اليميني المتطرف يمثلون اليوم كل ما هو متغطرس ومتسلط في السياسة الخارجية الأميركية، ويتشاركون ذات الشعار المتعجرف المتمثل في "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى". تماماً كما كان وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ومستشار الأمن القومي "هنري كيسنجر" الذي توفي في نهاية عام 2023 عن عمر يناهز مئة عام. والذي فرَّ من ألمانيا النازية ليصبح واحداً من أكثر الشخصيات تأثيراً وإثارة للجدل في التاريخ الأمريكي، ويصبح رمزاً للقوة المهيمنة في السياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ كان يمثل كل ما هو متعجرف، ومتعال، ومستبد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

ويمكن العثور على سلالة مماثلة من الغطرسة الأميركية بين الليبراليين الأمريكيين، أولئك الذين يعتقدون أن واشنطن تمتلك كل الإجابات. ولنتأمل ـ مثلاً ـ هنا "مادلين أولبرايت" وتعليقاتها حول ضرورة الولايات المتحدة. حيث قالت وزيرة الخارجية السابقة في إدارة "كلينتون" في عام 1998: "إذا كان علينا استخدام القوة، فذلك لأننا أميركا. نحن الأمة التي لا غنى عنها. نحن نقف شامخين ونرى أبعد من البلدان الأخرى في المستقبل".

يمكننا أن يلاحظ نفس النبرة في خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه الرئيس جورج دبليو بوش عام 1991. حيث قال "لأجيال، قادت أمريكا النضال للحفاظ على بركات الحرية وتوسيعها. واليوم، في عالم سريع التغير، أصبحت القيادة الأمريكية لا غنى عنها. يعرف الأمريكيون أن القيادة تجلب الأعباء والتضحيات. لكننا نعرف أيضًا لماذا تتجه آمال البشرية إلينا. نحن أمريكيون؛ لدينا مسؤولية فريدة للقيام بالعمل الشاق المتمثل في الحرية. وعندما نفعل ذلك، تعمل الحرية".

وفي خطابه في فبراير 2021 أمام مؤتمر ميونيخ الأمني السنوي، قال جو بايدن: "أتحدث اليوم بصفتي رئيسًا للولايات المتحدة في بداية إدارتي، وأرسل رسالة واضحة إلى العالم: أمريكا عادت". كان المضمون الواضح هو أن الولايات المتحدة أهملت، إن لم تكن خسرت، دورها كزعيمة عالمية تحت حكم الرئيس دونالد ترامب. وفي تصريحاته عقب قمة مجموعة السبع في يونيو/حزيران، أكد بايدن على أننا "دولة فريدة".

إن مثل هذه التصريحات مضحكة وتدعو إلى السخرية، وخاصة بعد أن قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان، والعراق، وقتلت مئات الآلاف من المدنيين حول العالم. ودعمت الديكتاتوريات، وأججت الصراعات. لا شيء من الغطرسة وعواقبها جديد، يمكن إطلاق هذه الصفة على مجمل السياسات الخارجية الأميركية منذ أواخر القرن التاسع عشر. ولكن الجزء المدهش أن الأميركيون اليساريون قد يكونون عُميان ومتغطرسين مثل كل الشخصيات في التيار اليميني الذين انتقدناهم مرارا وتكرارا لنفس الخطايا.

على سبيل المثال، فإن مجموعة واسعة من النشطاء من "نعوم تشومسكي" إلى "جيفري ساكس" أصحاب ما يُعتبر مواقف "مؤيدة للسلام" أو "دبلوماسية" أو "تقدمية" لا يبدون أي اهتمام بضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة. وهم الخبراء الذين تخصصوا في الدفاع عن الضحايا (وخاصة ضحايا الحروب الأميركية). ثم يعتقد هؤلاء المفكرون اليساريون، مع أولبرايت، أن أميركا هي الأمة التي لا غنى عنها في الصراعات حول العالم، وأنها تمتلك القدرة على فرض وقف إطلاق النار، والتفاوض على السلام، وإعادة تشكيل النظام الأمني العالمي. وينبع هذا الاعتقاد الساذج بقوة الإمبراطورية الأميركية من فهم خاطئ للدور الذي لعبته الولايات المتحدة في تلك الصراعات (أنها بقوتها دبرت كذا، وخططت، ودعمت، وعرقلت بمفردها... قضايا كثيرة حول العالم). ووفقاً لهذه الحجة، حتى لو استخدمت الولايات المتحدة قوتها الساحقة في "الشر" في الماضي، فإنها تستطيع أن تستدير مثل الشرير الخارق الذي رأى النور، وتستخدم هذه القوة الساحقة في "الخير". وعلى هذا النحو، فإن القراءة الخاطئة للماضي تنتج اليوم توصيات وبرامج سياسية هراء، وساذجة.

 

في مدح ضرورة الولايات المتحدة

في الحادي عشر من مايو/أيار عام 2023 بعد ظهور دونالد ترامب في برنامج تلفزيوني مليء بالأكاذيب على شبكة "سي إن إن" ومن ضمن ما قاله إنه كرئيس للولايات المتحدة سيسوي حرب أوكرانيا في غضون 24 ساعة. "لا يتعلق الأمر بالفوز أو الخسارة، بل بوقف القتل". مثل العديد من أقوال ترامب، فإن هذا التصريح هو مجرد تباهي. لا يستطيع ترامب "تسوية" الحرب، حتى لو أراد ذلك. بعد كل شيء، لديه سجل مؤسف للغاية في هذا الصدد، حيث لم يقم بتسوية أي حروب عندما كان رئيساً (كوريا الشمالية) وهدد بشن عدد قليل من الحروب الخاصة به (إيران وفنزويلا) خلال نفس الفترة.

لكن القضية هنا ليست كذب ترامب. بل هي استعداد السذج للاعتقاد بأن الرئيس الأميركي قادر على التدخل ووقف الحرب في غضون 24 ساعة. لم تبدأ الحرب في أوكرانيا من قبل الولايات المتحدة ولن تنتهي من قبلها. هذا الدور يقع على عاتق روسيا، التي ستلعب إما دوراً في تهدئة الحرب أو تصعيدها.

يمكن العثور على اعتقاد ساذج مماثل في اهمية الولايات المتحدة في اعلان على صفحة كاملة نشر في صحيفة نيويورك تايمز عام 2023 برعاية شبكة ايزنهاور الاعلامية وهي مجموعة من الضباط العسكريين والاستخباراتيين الامريكيين السابقين الممولين من قبل "بن شتاين" من شهرة "بن" و"جيري". من الواضح ان هؤلاء المؤثرين العسكريين قد اعادوا النظر في وظائفهم السابقة والتي كانت كلها تتعلق باستخدام القوة لتحقيق الاهداف الوطنية. ولكن بطريقة واحدة على الاقل فهم متسقون ويظلون مهووسين بشكل فريد بالقوة الامريكية.

يقول بيانهم جزئيا: "بصفتنا امريكيين وخبراء في الامن القومي، نحث الرئيس بايدن والكونجرس على استخدام سلطتهم الكاملة لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا بسرعة من خلال الدبلوماسية، خاصة بالنظر الى المخاطر الجسيمة للتصعيد العسكري الذي قد يخرج عن السيطرة".

قد يبدو الأمر معقولا نوعا ما. باستثناء انه يفترض ان الولايات المتحدة لديها هذه الرغبة والاستطاعة. لكن الولايات المتحدة تغذي الحرب وتدعم سقوط المزيد من الضحايا من خلال استمراها إرسال أطنان الأسلحة والذخائر إلى أوكرانيا.

هل هذا ما يعنيه هؤلاء المسؤولون العسكريون والاستخباراتيون السابقون بـ "القوة الكاملة"؟ لا يزال الأمر يتلخص في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة القادرة على قطع عقدة الجغرافيا السياسية الصعبة، لأنها، مرة أخرى، القوة التي لا غنى عنها. وإذا ما تخلصنا من اللغة الجميلة للدبلوماسية، فسوف تظهر الحقيقة المحزنة: فمن كان عميلاً للقوة الأميركية ذات يوم، فسوف يظل عميلاً للقوة الأميركية إلى الأبد.

شعب الله المختار

إن الغطرسة الأميركية فطرية. فمنذ أن بنى البيوريتانيون أول مستعمرة لهم، كان الأميركيون يعتقدون دوماً أنهم شعب الله المختار، وإلا لما كان بوسع الشعوب المضطهدة في أوروبا أن تجد هذه الأرض الخصبة الهائلة لترحب بهم. إن خطبة البيوريتاني "جون وينثروب" في عام 1630 "سنكون كمدينة على تل، تتجه أنظار كل الناس إلينا" هي خطبة مشهورة بحق.

يحب الأمريكيون استحضار الماضي وهم في الواقع غالباً ما يكونون أكثر سعادة في القيام بذلك بما يتناسب بشكل مباشر مع جهلهم به. تقدم إحدى الإشارات التاريخية المتكررة (التي أحبها الرئيس رونالد ريجان كثيراً إلى جانب العديد من الآخرين) حالة ممتازة في هذه النقطة. وفقاً لريغان، اعتبر المهاجرون الأوائل إلى "نيو إنجلاند" أنفسهم نموذجاً لبقية العالم. إن أنصار هذا الرأي يستشهدون بخطبة "جون وينثروب" حاكم ولاية ماساتشوستس الأسبق، المعروفة باسم "عن المحبة المسيحية". إن التقليد الذي جعل المستوطنين الأوائل يعتبرون أنفسهم زعماء العالم المحتملين (أو على الأقل مرشدين لبقية العالم) يتدفق مباشرة إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ليس لديها الحق فحسب، بل وأيضاً الواجب في الاستيلاء على أراضي الهنود والمكسيكيين في تقدمها عبر القارة؛ وقد تم النظر إلى هذه التقليد باعتباره مقدمة لفكرة "المصير الواضح" في القرن التاسع عشر.

تظهر أصداء هذه الفكرة في أكثر التصريحات غطرسة في السياسة الخارجية، وخاصة عندما يزعم زعماء الولايات المتحدة أن أميركا لديها واجب التصرف في شئون الآخرين. لقد ألقى "جون وينثروب" خطبة "عن المحبة المسيحية" لأنه، كما يوحي عنوانها كان يخشى ألا يهتم المستوطنون ببعضهم البعض. وقد ألقيت هذه الخطبة تحسباً للانتقال إلى "نيو إنجلاند" وحذرت المستعمرين من أنهم لابد أن يتصرفوا بإحسان تجاه زملائهم المهاجرين. لقد حذرهم من أن الطريق أمامهم سيكون صعباً، وأن المجتمع الذي يسعون إلى خلقه بعيد كل البعد عن أن يكون مضموناً. لقد أراد "وينثروب" الحفاظ على الفوارق الاجتماعية وضمان شعور كل شخص بالمسؤولية عن الآخرين. إن فكرة "المدينة على التل" لم تكن تمثل منارة لجذب شعوب العالم أو انتباههم، ولكنها حذرت من أن تجربتهم الاجتماعية سوف تخضع للتدقيق والحكم. لقد ذكرهم بأنهم يريدون إنشاء مجتمع صالح، جدير بمعتقداتهم الدينية. وإذا فشلوا، فإنهم سوف يحرجون إيمانهم. وبعيداً عن كونها مخططاً لإنشاء قوة عالمية، أو حتى منارة للمهاجرين المحتملين، فإن الخطبة كانت تحذيرية بدلاً من الاحتفالية.

إن استخدام ريغان لهذه الفكرة (التي كانت جزءاً كبيراً من خطابه العام لدرجة أن "ساندرا داي أوكونور" أعادت إحياءها في جنازته) لم يتبع أبداً نبرة "وينثروب" أو معناه. بل إن "المدينة على التل" بالنسبة لريغان كانت متوافقة مع نيته في "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى". إن هذا الشعار، الذي استخدمه ريغان في حملته الرئاسية عام 1980، يستخدم الآن مرة أخرى عن طرق ترامب.

إن إحدى المفارقات العظيمة في استخدام ريغان للصورة هي كيف استحضرها لدعم صورة معينة للولايات المتحدة، حيث جاء رجال ونساء مستقلون مكتفون ذاتياً لبناء أمة عظيمة، أمة قادرة على الصمود في وجه الشيوعية السوفييتية. إن استخدامه للصورة حتى في حين كان يدعو إلى تخفيضات جذرية في البرامج الاجتماعية (الصحة العقلية، والرعاية الاجتماعية، وما إلى ذلك) يُظهِر مدى ابتعاد معناه عن معنى "وينثروب"، حيث جادل الزعيم السابق لصالح النسخة الحديثة المبكرة من البرامج الاجتماعية، ورعاية الفقراء والأقل حظاً. ومن المرجح أن وصف هذا الاستخدام بأنه "قراءة" ريغان يعطي إحساسا زائفا بمشاركة الرئيس الراحل في النص. ربما اقتبس العبارة الشهيرة دون استكشاف سياقها أو محاولة تفسير معناها الأصلي.

 

متلازمة إيكاروس

تزخر الأساطير اليونانية بالأمثال والحكايات، ومن أكثر حكاياتها التعليمية قصة إيكاروس، الشاب الذي صنع والده أجنحة من الشمع والريش لتمكين ابنه من الطيران. قبل أن يقلع إيكاروس، حذره والده من الطيران على ارتفاعات متوسطة أو منخفضة للغاية. فإذا طار على مقربة شديدة من الشمس، فسوف يذوب الشمع وتتفكك أجنحته. وفي هذه اللحظة، يصاب إيكاروس بالنشوة التي يولدها الطيران؛ فبينما يحلق نحو الشمس، تتساقط أجنحته، فتسقطه إلى حتفه.

في كتابه "متلازمة إيكاروس: تاريخ الغطرسة الأميركية"، يرسم "بيتر بينارت" الأسس الإيديولوجية والفكرية للسياسة الخارجية الأميركية منذ "تيدي روزفلت" إلى "دونالد ترامب". فما هي متلازمة إيكاروس؟ يعتبر "بينارت" أن الأمر يتعلق بالميل الدوري لدى صناع السياسة الخارجية الأميركية إلى التحليق نحو الشمس، والانغماس في حالة من النشوة بالنجاح، والعمى عن الحدود الحقيقية للقوة الأميركية.

ويزعم "بينارت" بشكل استفزازي أن أميركا في كل مرة تعمى فيها عن حدود قوتها، فإنها تعود إلى الواقع بسبب الفشل؛ فقد "اكتسبت الحكمة من خلال الألم". ويبني بينارت حجته من خلال فحص التاريخ الفكري الأميركي فضلاً عن التاريخ السياسي: فشخصية "راينهولد نيبور" لا تقل أهمية عن "فرانكلين روزفلت" و"فرانسيس فوكوياما"، بل و"كولن بأول" أيضاً.

يقسم الكتاب السياسة الخارجية الأميركية في القرن العشرين إلى ثلاثة مظاهر للغطرسة: غطرسة العقل، وغطرسة الصلابة، وغطرسة الهيمنة. بدءاً من فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، التي تجسدت في شخصية "وودرو ويلسون"، يزعم "بينارت" أن السياسة الخارجية الأميركية كانت تسترشد برؤية لعالم عقلاني، حيث نادراً ما تمارس القوة وحيث تعمل المؤسسات الدولية على تشكيل التفاعل بين الدول. ويطلق "بينارت" على هذا "غطرسة العقل" ــ وهي غطرسة حية في فترة حيث كانت السياسة الخارجية الأميركية "تتشكل من خلال رفض التعامل مع العالم بشروطه الخاصة" وقبول أن السياسة بين الدول لن تتطابق أبداً مع المثل العليا التي يتمسك بها الأميركيون. والواقع أن المثل العليا الأميركية، كما يقول بينارت، كانت في بعض الأحيان تعمي الأميركيين عن الأجزاء المظلمة من روح أميركا؛ عن حقيقة مفادها أن "العقل هو دائماً، إلى حد ما، خادم المصلحة".

 

أمريكا تحتاج إلى فضائل التواضع

يقال إن "أليس روزفلت لونجورث" ابنة الرئيس الأمريكي الراحل "ثيودور روزفلت" زعمت ذات مرة أن والدها كان أنانياً إلى الحد الذي جعله "يريد دائماً أن يكون الجثة في كل جنازة، والعروس في كل حفل زفاف، والطفل في كل معمودية". يسعى المسؤولون المتغطرسون المسؤولون عن السياسة الخارجية الأميركية إلى وضع مماثل للولايات المتحدة. فهم يريدون دائماً أن تكون واشنطن مسؤولة، حتى عندما تزيد هذه السياسة من الأعباء المالية والمخاطر العسكرية على الشعب الأميركي. لقد طال انتظار سياسة خارجية أكثر تواضعاً.

تحتاج الولايات المتحدة إلى التخلص من عقدة البطل الخارق لديهم، سواء كجنود محررين أو دبلوماسيين يلوون الأذرع. والإيمان بفكرة العمل جنباً إلى جنب مع الشركاء، وليس فوقهم. ويحتاج الأميركيين أن نكون أكثر تواضعًا بشأن ما يمكننا القيام به في الشؤون الدولية كأفراد وكدولة.

لابد للولايات المتحدة أن تنسى “تفوقها” الماضي، لأن العالم اليوم تحول من القطب الواحد إلى متعدد الأقطاب. وفي الواقع أن أمريكا ليست سوى واحدة من عدة جهات إقليمية فاعلة. 

إن مكانة الولايات المتحدة الأخلاقية كقوة عالمية تكمن فعلياً ـ إن أرادت ـ في دعم التنمية الدولية، والترحيب بالغرباء، ومحاولة الحفاظ على الريادة في الابتكار التقني والعلمي والبيئي. إن فكرة أن الأمريكيين يعرفون أفضل من غيرهم وليس لديهم ما يتعلموه منهم ليست أكثر من شكل من أشكال العنصرية ــ وهي الغطرسة التي تنكر أساسيات التعلم: الفضول، والانفتاح الذهني، والتعاون. تعاني الولايات المتحدة من مشاكل داخلية مثل التكلفة والجودة والقدرة على الوصول إلى ملكية المسكن، والرعاية الصحية والتغذية، والتعليم، والبنية الأساسية للنقل المتهالكة. وهم مثقلون بالسجون المفرطة، وآفة إدمان المواد الأفيونية، وسواها.

إن الدولة التي تصف في دستورها الأميركيين من أصل أفريقي على أنهم يمثلون ثلاثة أخماس من البشر. والسبب الوحيد وراء ذلك هو ضمان حصول الولايات الجنوبية على نفوذ تصويتي مساوٍ للولايات الشمالية. حيث كان لديهم أكبر عدد من العبيد لا يمكن أن نصدق أنها دولة تحترم العدالة والمساواة. والدولة التي تملك تاريخاً مخزياً مع الهنود الحمر أصحاب الأرض الأصليين، حيث تم تقليص عدد الهنود الحمر من الملايين إلى بضع مئات الآلاف من خلال تدمير قراهم وإجبارهم على العيش في محميات، لا تستطيع أن تخدع العالم بتصريحات قادتها حول الديمقراطية. الولايات المتحدة التي رمت قنابل نووية فوق اليابان وقتلت ما يصل إلى 140,000 شخص في هيروشيما، و80،000 في ناغازاكي بحلول نهاية سنة 1945، لا يحق لها أن تتحدث عن الإنسانية ولا يمكن لها أن تكون قائدة العالم.